قمر الجزائر المِصراع الأول الفصل الأول3


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5379 - 2016 / 12 / 22 - 12:39
المحور: الادب والفن     

أخذت حسيبة يده، وطبعت قبلة على كل إصبع من أصابعه، واحدة بعد أخرى. كانت تهمس، "يا حبي... يا حبي..."، وهي تشد نفسها إليه، وحَمِيَت في العناق فجأة، فقالت له دفعة واحدة:
- هذا المساء أهبك نفسي، يا حبي.
- تهبينني نفسك؟
وقع ما كان يخشاه، ووقع في الشِّباك.
- أهبك نفسي!
- قبل الزواج؟
- لا أريد زواجًا بما أنك لا تريد!
- فتقررين هكذا، تريدين أن تهبيني نفسك؟
- أهبك نفسي، أهبك العالم أجمع!
- لكن حسيبة، شيء ما ليس على ما يرام؟ لقد تبدلتِ بسرعة!
شيء ما يقلقها، قال سعدي لنفسه. تهبني نفسها، تهبني العالم أجمع. لديها مشكل مع أمها على التأكيد، أو مع أبيها، أو مع شخص آخر، أو بكل بساطة مع نفسها. منذ بعض الوقت أحس كأنها مشغولة البال، سيئة الحال. ربما كان من الصعب ما أقول، لكن هذا ما أفكر فيه: ليس بدافع الحب تهبني نفسها، تهبني العالم أجمع. زد على ذلك، العالم أجمع الذي تريد أن تهبني، ليس في الواقع غير العالم المظلم للقصبة. عندما تخلع حجابها تضيع، وأنا، منذ عدة أيام، لم أعد أريد المكوث طويلاً في هذا العالم. قبل، لم يكن هكذا أمره: كان يأتي بحثًا عن حب خاص، عن لقاء يثيره. كان يريد بنتًا شعبية، بسيطة وغريبة في وقت واحد، كما هو عليه في أجمل قصص الحب. بنت من القصبة تعرف كيف تتجاوز شروط مولدها، مستقلة في الإثم، وقوية في الويل.
طبع شفتيه على شفتيها، لكنها دفعته بفظاظة:
- أنت لم تعد تحبني.
مع ذلك غيرت رأيها، ووضعت رأسها على صدره:
- لماذا أنت لم تعد تحبني، سعد؟ لماذا أنت تسخر بي؟
- أنا لا أسخر بك.
- بلى.
مع ذلك لم يقل شيئًا كبيرًا، افترض فقط أنها لو وهبته نفسها اليوم، هذا لأنها كانت قد تبدلت. كان يحبها، هو.
لكنها لم تسمع شيئًا من ذرائعه. بقيت مقتنعة بكونه لم يعد يحبها، وبكونه يسخر بها. هل هذا لأنه كان يرفض الزواج بها، ولأنه لم يكن يريد أن تصبح امرأته، امرأته الصغيرة، امرأته الصغيرة الغالية؟ هي التي، من أجله، كانت تلعب الغميضة مع أبويها، مع الجيران، ومع كل الحي؟ هي التي كانت تكذب، كانت تغش، كانت مستعدة لتحدي العالم أجمع؟ وصلهما هدير البحر من بعيد، طاغيًا، فكان لديه انطباع من ضاقت أنفاسه.
- يريد أبي تزويجي ابن عمي، أفلتت.
بقي صامتًا، كما لو كان يحمل شيئًا ثقيلاً يقطع أنفاسه.
- لماذا لا تقول شيئًا، لماذا لا تجيبني سع، سعد، سعدي؟
جذبته من كتفيه:
- لماذا تبقى ساكنًا، حبيبي؟
كان سعدي يختنق، صامتًا. رآها، وهي تَحِلُّ جدائلها، وتنثر شعرها الأسود على وجهه، وتعانقه:
- خذني، سعد، امنعهم من أخذي! اجعل مني امرأة حرة!
امرأة حرة! وهو يسمعها تلفظ هاتين الكلمتين "امرأة حرة"، كان على وشك الانفجار مقهقهًا. في أي مسلسل تلفزي كانت قد سمعت هذا التعبير؟ ولماذا هو؟ لماذا معه؟ لم يعد يحبها كالماضي. يعرف هذا في الوقت الحاضر. كان يحبها، لكنه لم يعد يحبها كالماضي. الحكاية الخارقة، انتهت. السلم، السطح، القبلات الخفية، انتهت. كان أبوها يريد زواجها من ابن عمها لأنها بدأت تشيخ. فتاة عانس شيء مروع في عائلة، متواضعة أو متنعمة، صغيرة أو كبيرة. العانس شيء غير محتمل، غير مقبول، فنستدير نحو أبناء العم، حتى أبناء العم البعيدين، نبحث عن تسويات.
كان سعدي لا ينبس ببنت شفة. ثم بحركة يائسة، دفعها بكل قواه، ونهض:
- ما أنت إلا مجنونة!
ماذا ستغدو إن لم تعد عذراء؟ كلبة تفتح فخذيها لكل من يريد الدخول، مومسًا؟ لم يكن هكذا مفهوم الحرية لديه. على العكس، كان ذلك بالنسبة له الاستغراق في العبودية، في الخضوع، في التبعية. عبوديته، خضوعه، تبعيته. وعقابه. هذا الجحيم، لا يمكنه أن يقبله. لا يمكنه أن يكونَ من تُجازف هذه الفتاة معه بكل شيء، فلا يبقى لها شيء غير ضياعها. كانت تهبه ما لا يمكنه أخذه، وكانت تجهل ما لا يمكنها بيعه: ذل الظفر وفي نفس الوقت هدم الهوى. كانت تدفعه إلى إنكارها، وإلى إنكاره: تنزع منه قدره وتجعل منها أمة ذليلة.
- أنتَ إذن لم تعد تحبني. لم تعد تحب حَسْ، سعدي؟ حَسْسُك، لم تعد تحبها! تريد أن يزوجوني غيرك، وهكذا تتخلص مني؟ طيب، سأقبل. أليس هذا؟ أليس هذا ما تريد؟ تريد أن أقبل؟ تريد أن أوافق؟
أخذت تضحك بتشنج، وتضمه.
هم، أبوها، عمها، ابن عمها، كانوا قد قرروا كل شيء. وهو، لا يفعل شيئًا. البنت، لديهم، كما كانت في زمن الجاهلية. منذ زمن ما قبل الإسلام، كانت البنت تعتبر "عورة"، لا أكثر. عارًا. لا أهمية كبيرة لها. مع ذلك، كانت حسيبة مستعدة لتحدي العالم أجمع من أجله، لكن هو، لم يكن يفعل شيئًا. حبه. عاره.
- تسمعني أتوسل إليك، ولا تفعل شيئًا، لا تتحرك، حتى أنك لا ترفع إصبعك الصغيرة! لماذا لا تفعل شيئًا، سعد؟ لماذا؟
- لا أفعل شيئًا، لا أفعل شيئًا... ماذا تريدينني أن أفعل؟ نرفز، والخوف يجتاحه فجأة، أمام كل ما يحيط به، السواد، الجدران، البحر، ويجتاحه شعور مروع على فكرة أنه جبان. قولي لي، تريدينني أن أفعل ماذا؟
- أن تأخذني، أن تحررني، أن تنقذني.
- ما أنت إلا مجنونة!
- مجنونة، عاقلة...
- ما أنت إلا مجنونة! ما أنت إلا مجرمة!
- مجرمة، أنا؟
- مجرمة... مجنونة!
- سأتحمل كل المسئولية.
- ما أنت إلا مجرمة، ما أنت إلا مجنونة!
- لا تقل لي إنها المرة الأولى التي س...
- ما أنت إلا مغتصِبة!
مغتصِبة أم مغتصَبة، بالنسبة لها، على كل حال، كانت المرة الأولى. على مرأى الدم، أطلق سعدي صرخة، وهرب.

يتبع المِصراع الأول الفصل الأول4