نظرية داروين من وجهة نظر فلسفية!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 5359 - 2016 / 12 / 2 - 13:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

جواد البشيتي
التطور Evolution في عالم الكائنات الحية (من نبات وحيوان) هو، في أساسه، علاقة بين الكائن الحي والبيئة (أيْ بيئته الأرضية والكونية). إنَّ كائناً حيَّاً ما يعيش في بيئة طبيعية (أرضية) معيَّنَة، خاصَّة، وتكون ملائمة له (ملائمة لعيشه، لبقائه على قَيْد الحياة، ولتكاثره). لا شكَّ في أنَّ كل كائن حي يؤثِّر في بيئته؛ يُغيِّرها على نحو ما، وفي طريقة ما، وإلى حدٍّ ما؛ لكن تَغَيُّر بيئته المستقل عن عيشه فيها، وتأثيره بها، هو الأساس في تطوره.
إنَّ بيئته الطبيعية تتغيَّر في استمرار، وفي سرعة؛ وتتراكم في استمرار التَّغيُّرات في بيئته. بيئته هي التي تتغيَّر أوَّلاً؛ ومع تغيُّرها المستمر والمتراكِم تتحدَّاه أنْ يتغيَّر بما يجعله أكثر تَوافُقاً وتَلاؤماً مع "البيئة الجديدة"؛ فإذا استطاع بقي، وإذا لم يستطع انقرض.
سِرُّ التطور يكمن في "التكاثُر (التناسُل، التوالد). كل كائن حي يَلِد العشرات (والمئات والآلاف) من أمثاله، أيْ من أبناء نوعه أو جنسه. إنَّه يَقْذِف بهم إلى "معترك الحياة". وهؤلاء الأبناء ليسوا متماثلين في صفاتهم وخصائصهم، على الرغم من كونهم ينتمون جميعاً إلى النوع أو الجنس نفسه. بعضهم يملك صفات وخصائص "أفضل". إنَّها "أفضل" بالمعنى النسبي، أيْ بمعنى أنَّها تجعل صاحبها أكثر تَوافُقاً وتَلاؤماً مع البيئة التي يعيش فيها؛ تجعله ابناً (طبيعياً، أو "شرعياً") لهذه البيئة. وبعضهم يملك صفات وخصائص "سيئة"؛ فيموت، ولا يتكاثر من ثمَّ.
إنَّ مالِك الصفات والخصائص "الأفضل" هو الذي يعيش، وهو الذي يتكاثر، ناقِلاً، من ثمَّ، صفاته وخصائصه "الجيِّدة" إلى نسله. وجيلاً بعد جيل، تتراكم تلك الصفات والخصائص. ومع مرور الوقت (ملايين السنين) يأتي هذا "التراكم (في الصفات والخصائص "الجيِّدة") بـ "نوع (جنس) جديد". والتطور على هذا النحو إنَّما يتَّفِق مع القانون الجدلي الذي يُوضِّح لنا كيف يتحوَّل "الكم" إلى "كيف". ولا شكَّ في أنَّ نشوء "نوع جديد" يمثِّل "قفزة (وانقطاعاً في التدرج)". وهذه "القفزة" تستغرق زمناً لا يُقاس بالدقائق والساعات، ولا بالأيام والأشهر والسنين، وإنَّما بعشرات ومئات وآلاف السنين.
البيئة الطبيعية لكائنٍ حيٍّ ما قد تشهد تغيُّراً كبيراً سريعاً مفاجئاً. والعاقبة قد تكون انقراض "النوع" كله لعجزه (المُطْلَق) عن "التَّكيُّف" مع نتائج هذا "الانقلاب البيئي". إنَّ بعضاً من أفراد هذا النوع قد ينجو؛ لكونه يملك من الصفات والخصائص (التي كانت كامنة فيه) ما يسمح له (عندما يتمكَّن من إظهارها) بالتَّكيُّف مع هذه البيئة الطبيعية الجديدة. وفي هذه الطريقة يُطَوِّر هؤلاء من الأعضاء والوظائف الفسيولوجية.. ما يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة في هذه البيئة، وبالتكاثر.
تكاثُر نوع ما إنَّما يجعل هذا النوع، مع مرور الوقت، أيْ مع مرور ملايين السنين، كمثل "الواحد إذْ تعدَّد"؛ يجعله في منزلة "الأصل الذي تَفَرَّعت منه أنواع مختلفة". كل فرع يذهب في حال سبيله، ويعيش (ويتكاثر) في بيئة طبيعية مختلفة. وهذا "الأصل" قد ينقرض كله. وكل فرع من فروعه قد يصبح "أصلاً" تتفرع منه فروع جديدة. والتَّحوُّل من نوع إلى نوع ينبغي لنا فهمه بما يُوافِق قانون "التَّبدُّلات الكمية الطفيفة، المتراكمة، المتدرجة، غير الملحوظة، تؤدِّي، في آخر المطاف، إلى تبدًّل نوعي (كيفي).
وهذا التَّبَدُّل يتَّخِذ حتماً شكل قفزة". وهذا إنَّما يعني أنْ لا وجود لـ "نوع يتوسَّط بين النوعين القديم والجديد"؛ فالماء (مثلاً) عندما يتحوَّل إلى جليد لا يعرف نوعاً ثالثاً يتوسط بين نوعيه السائل والصلب؛ إنَّه لا يعرف حالة يكون فيها الماء على شكل "عجينة"؛ فالماء (في هذا المثال) إمَّا أن يكون سائلاً وإمَّا أنْ يكون صلباً.
الإنسان لم يتطوَّر عن قرد؛ فأصل الإنسان ليس قرداً. الإنسان والقرد هما نوعان تَفرَّعا من أصل واحد (أيْ أنَّ لهما جدَّاً مشترَكاً). وهذا "الأصل (أو الجد المشترَك)" هو نوع من الحيوان، ليس بإنسان، وليس بقرد؛ ولقد انقرض هذا "الأصل".
النوع البشري نشأ فجأةً (كمثل سائر الأنواع). لقد اتَّخَذ نشوئه شكل "قفزة"؛ وهذه القفزة استغرقت زمناً قصيراً نسبياً، أيْ نسبةً إلى الزمن الذي استغرقه الوجود المستقر لأسلافه من الحيوان. والنوع البشري تفرع؛ فظهرت سلالات بشرية مختلفة انقرضت جميعاً، ولم يبقَ منها إلى سلالتنا (Homo Sapiens).
في قراءة نظريات التطور تَرِدُ دائماً عبارة تتسبَّب في سوء فهم؛ إنها عبارة "الحلقة الوسيطة بين.. وبين.."؛ بين الزواحف والثدييات مثلاً. هذه "الحلقة الوسيطة" لا تشذ عن قانون "التطور من طريق القفزة النوعية"؛ فـ "الحلقة الوسيطة" بين الزواحف والثدييات هي "نوع من الحيوان"؛ وهذا النوع (المستقل، القائم بذاته) فيه من السمات والصفات والخصائص ما يجعل علماء التطور ينظرون إليه على أنه "جسر انتقال" من الزواحف إلى الثدييات؛ لكن هذا النوع ليس من نوع الزواحف، وليس من نوع الثدييات؛ إنَّه نوع مستقل قائم بذاته، نشأ من طريق قفزة نوعية؛ فإنَّ بعضاً من نوع الزواحف تحوَّل فجأة إلى هذا النوع الحيواني الجديد المسمَّى "الحلقة الوسيطة بين الزواحف والثدييات"؛ وإنَّ بعضاً من هذا النواع (أيْ من أفراد هذا النوع) تحوَّل فجأةً إلى ثدييات.
حتى لا يلتبس مفهوم "القفزة" على بعض الناس، ويستغلق عليهم فهمه، نقول إنَّ "القفزة" هي لحظة زمنية (نسبية) تُقاس بـ "ساعة النظام"؛ فثمة "ساعة كونية"، و"ساعة أرضية"، و"ساعة تاريخية"، و"ساعة سياسية". إنَّ "القفزة" في تطوُّر الكائنات الحية هي لحظة زمنية تُقاس بـ "الساعة الجيولوجية"؛ وهذه اللحظة قد تعدل مئات أو آلاف.. السنين.
ليس بالأمر المألوف أنْ نعثر على مُسْتَحْجرات لكائنٍ ينتمي إلى "حلقة وسيطة" ما؛ لأنَّ هذا النوع الحيواني (أو النباتي) الذي يُصَنَّف على أنَّه "حلقة وسيطة" لا يظل موجوداً زمناً طويلاً (طويلاً نسبةً إلى زمن وجود الأنواع المستقرة).
التطور في الكائنات الحية محكوم بقانون "الانتقاء (الانتخاب، الاصطفاء) الطبيعي"، والذي بموجبه يبقى "الأصلح"، أيْ الأكثر توافقاً وتلاؤماً مع بيئته الطبيعية؛ لكنَّ هذا القانون يعمل بما يتوافق (ولا يتعارض) مع القانون الجدلي للنفي؛ فـ "النفي (الجدلي)" يتضمَّن دائماً ثلاثة عناصر: "الإلغاء"، "الاستبقاء"، "الإضافة". غير الصالح من صفات وخصائص النوع القديم يُلْغى؛ والصالح من هذه الصفات والخصائص يظل مستمراً في النوع الجديد، الذي لا يأتي إلى الوجود إلاَّ ومعه صفات وخصائص جديدة.
الكائن الحي يتكاثر، مقدِّما إلى بيئته الطبيعية عشرات ومئات وآلاف "المرشحين" مختلفي الصفات والخصائص؛ فتتولى "البيئة"، بصفة كونها "الناخب" اختيار الأصلح، تاركةً "الآخر" للهلاك المحتوم.
التطور الجيولوجي هو سجل يُسَجَّل فيه التطور في عالم الحيوان والنبات. كل طبقة جيولوجية تُمَثِّل حقبة زمنية؛ وفي كل حقبة زمنية تعيش أنواع معينة من الحيوان والنبات. ويَعْثُر العلماء في "الطبقة ـ الحقبة" على "مُسْتَحْجَرات" لأفراد من أنواع معينة من الحيوان والنبات. لو عَثَر العلماء، في "طبقة ـ حقبة" ما على مُسْتَحْجَرات لديناصورات وأخرى لبشر لَحَقَّ، عندئذٍ، لأعداء وخصوم نظرية التطور أنْ يحتفلوا بسقوط وتهافت هذه النظرية.