انتخاب ترامب والتوازن العالمى للقوى


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 5355 - 2016 / 11 / 28 - 09:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

انتخاب ترامب والتوازن العالمى للقوى
فهرس
مقدمة 2
سقوط المعسكر السوفيتى وبروز العالم أحادى القطبية 3
أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية 3
أوروبا بعد سقوط المعسكر الاشتراكى 4
بروز المعارضة الجماهيرية للعولمة 4
تناقضات الاستراتيجية الأمريكية فى عصر العولمة 5
أمريكا فى عهد المحافظين الجدد 6
احتلال أفغانستان والعراق 6
جبهة شرق أوروبا 7
استمرار مخطط الهيمنة العالمية فى عهد أوباما 8
جبهة شرق أوروبا 9
جبهة الشرق الأوسط 10
جبهة جنوب شرق آسيا والصين 11
أزمة الاستراتيجية الأمريكية مع المتغيرات الجديدة 12
كلمة أخيرة 14


جاء نجاح ترامب فى الانتخابات الأمريكية لكى يثير أصداءً عالمية تراوحت بين السرور فى روسيا ومصر والحيرة والقلق والحزن فى حلف الأطلنتى والخليج. لماذا؟ لابد وأن السبب يكمن فى التناقض بين سياستىّ كل من هيلارى كلينتون ودونالد ترامب فى مجال السياسة الخارجية، أو بالأحرى فى التكتيك الخاص بالعلاقة بميزان القوى الراهن على الساحة الدولية. ولكن تأمل سياسة كل منهما على الساحة الدولية يفرض علينا رجوعا إلى أسس تكون السياسة الدولية فى الفترة الأخيرة.
مقدمة
غنى عن الذكر أن الوضع الاستراتيجى العالمى قد شهد تطورا كيفيا جديدا منذ انهيار الكتلة السوفيتية حول عام 1990 ونشوء العصرالأحادى القطبية بهيمنة القطب الوحيد أمريكا. كانت أمريكا هى الأقوى عالميا بكل مؤشرات القوة الاقتصادية المترجمة إلى قوة عسكرية تقليدية ونووية، مع القدرة على صنع وقيادة التطور التكنولوجى العالمى، مع أعلى استثمارات خارجية فى أنحاء العالم، وعملتها هى عملة التداول الدولية، وقواعدها البرية والبحرية والجوية والصاروخية بالمئات منتشرة فى أنحاء العالم. كما إنها تمتلك مميزات جغرافية مثالية، بمساحة قارة (حوالى عشرة آلاف كيلومتر مربع)، وتقع بين أكبر محيطين فى العالم، وغير مواجهة بتهديد جغرافى من الدولتين الوحيدتين المجاورتين حدوديا لها، مع ثقل ديموجرافى هائل حيث سكانها يتجاوزون الثلاثمائة مليون نسمة ويتمتعون بقدرات إنتاجية فائقة.
يعترف الكتاب الاستراتيجيون مثل كيسنجر وبريجينسكى بأنهم رغم أنهم كانوا يعملون من أجل إضعاف خصمهم الأساسى، الاتحاد السوفيتى المتعادل معهم استراتيجيا منذ عام 1975، إلا أنهم لم يتوقعوا سقوطه بهذا الشكل فى هذا التوقيت، فالاتحاد السوفيتى سقط أساسا بسبب تناقضاته الداخلية، وكانت جهود الغرب عاملا مساعدا لا غير. ولكنها بالطبع كانت بالنسبة لهم مفاجأة سارة، فكيف تعاملوا معها؟
على المستوى الدعائى استمروا فى صنع أعداء استراتيجيين من نوع الإرهاب الدولى والحرب على المخدرات، ولكن كل هذا من أجل استمرار وتطوير الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على العالم، كما كانت جزئيا قصة معاداة الشيوعية غطاءً لفرض نفوذهم على العالم رغم معاداتهم الحقيقية لها بالطبع. وكانت سياسات العولمة هى اسم آخر لسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية كما قال هنرى كيسنجر.
يجب أن نتذكر بالطبع أن انهيار الاتحاد السوفيتى كان شهادة على تناقضاته الداخلية فى المحل الأول والسباق العسكرى المجهد اقتصاديا فى المحل الثانى والدعاية الإمبريالية ضده فى المحل الثالث، ولكن كل هذا ينهض دليلا على فشل النموذج السوفيتى الموجود ولكنه ليس شهادة لصحة النظام الرأسمالى كما حاول الغرب والمفكرون الإمبرياليون الادعاء، مثلا فى أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما وخلافه. بل إن هذا السقوط للمعسكر الاشتراكى جاء فى غمار أزمة اقتصادية طاحنة للنظام الاقتصادى الإمبريالى العالمى منذ انفجار التضخم الركودى أوائل السبعينات، وكان مظهره البارز هو انهيار الأساس الذهبى للتبادل التجارى العالمى (قاعدة الدولار الذهبى السارية منذ بريتون وودز عام 1944) بوقف تحويل الدولار لذهب وفقا لقرارات أغسطس 1971 التى اتخذها نيكسون.
ساهمت الأزمة فى انتصارات اليمين فى الدول الإمبريالية بالذات بنجاح ثاتشر فى انجلترا عام 1979 ونجاح ريجان فى أمريكا عام 1980. ولجأت الإمبريالية فى ظل تلك الظروف إلى حل مشاكلها الاقتصادية على حساب الجماهير بالاستفادة من الثورة العلمية والتكنولوجية، ثورة المعلومات فى الثمانينات، بالدخول فى أتمتة الإنتاج فى المصانع automation على حساب فصل العمال ورفع نسبة البطالة، وانتصار سياسات التقشف اليمينية على حساب مستوى حياة الجماهير وتقلُّص امتيازات دولة الرفاه الاجتماعى.
سقوط المعسكر السوفيتى وبروز العالم أحادى القطبية
ثم جاء سقوط الكتلة الشرقية لكى يدفع قدما بسياسات الليبرالية الجديدة ومحاولة تحطيم دولة الرفاه الاجتماعى قدما إلى الأمام. جاءت فترة حكم بيل كلينتون فى أمريكا عن الديمقراطيين (1992- 2000) تسمى محاولة حكم العالم بمجلس إدارة (أوروبا الغربية واليابان، غير كندا واستراليا وإسرائيل بالطبع) ترأسه أمريكا. وبرز طابع العداء للدول القومية من أجل إضعاف، وتفتيت كلما أمكن، الدول الكبيرة بالذات لأن إضعافها يصب فى تحطيم الأعداء المحتملين، وزيادة الهيمنة على العالم. تم تفتيت الاتحاد السوفيتى إلى 15 دولة، وتفتيت يوجوسلافيا إلى 7 دول، واعتبرت البلقنة أو التفتيت من سمات العولمة.
أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية
يجدر هنا الإشارة إلى تعقيد العلاقة بين أمريكا وأوروبا الغربية، وهو ما سيبرز بشكل خاص بعد فوز ترامب. فى البداية كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية هى فترة دخول رأس المال الأمريكى إلى العالم القديم فى آسيا وأوروبا شريكا لرأس المال اليابانى والانجليزى والفرنسى والألمانى فيما عرف بمشروع مارشال وغيره. وكان إنعاش أوروبا أيضا لازما لمواجهة الاتحاد السوفيتى الذى تحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكر اشتراكى بدخول أوروبا الشرقية معه، وكذلك الصين وكوريا الشمالية فى النصف الثانى من الأربعينات.
على المستوى الاقتصادى لجأت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى السياسة الحمائية لاستعادة قدراتها الاقتصادية بسماح من أمريكا ومؤسسات التمويل الدولية. استعادت أوروبا قدراتها الإنتاجية تدريجيا حتى تمكنت من استعادة سياسات الانفتاح الاقتصادى بين 14 دولة أوروبية مع بقاء الحماية ضد أمريكا منذ عام 1954، ثم استعادت الانفتاح على أمريكا عام 1958 بدخول هيكلها الإنتاجى بعد بنائه وتطويره مرحلة القدرة على المنافسة العالمية.
ولكن فى المواجهة أثناء الحرب الباردة ظلت أوروبا الغربية تعيش تحت حماية المظلة النووية الأمريكية مما يفرض درجات من التبعية لزعيمة المعسكر الإمبريالى. بلغت تلك التبعية أقصاها حتى الآن فى حالتى ألمانيا واليابان، الدول المهزومة فى الحرب العالمية، والمفروض عليها عدم دخول سباق العصر النووى. حاولت فرنسا الديجولية فقط أن تضع مسافة إلى حد ما مع أمريكا ووضعت ترسانتها النووية خارج مظلة حلف الأطلنتى، على عكس سلوك انجلترا التى تملك ترسانة نووية أقوى من ترسانة فرنسا ولكن مع اختيار المشاركة الكاملة تقريبا مع أمريكا دون طموحات استقلالية على غرار الديجولية.
أوروبا بعد سقوط المعسكر الاشتراكى
حاولت أوروبا الغربية تقوية وضعها السياسى والاقتصادى فى إطار علاقة التحالف- المنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية. وجاء سقوط المعسكر الاشتراكى كى يدفع هذا الاتجاه الاستقلالى عن أمريكا إلى اقصاه بعد أن زال الخطر النووى السوفيتى وانتهت الحرب الباردة والتحرر من أعباء حماية الشبكة الصاروخية الذرية الأمريكية. وكان رد فعل أوروبا هو محاولة توحيد أوروبا، ولهذا أقرّت اتفاقية ماستريخت عام 1992، بين أشياء أخرى، الوحدة النقدية الأوروبية وإنشاء عملة اليورو لكى تتم المبادلة بها بين البنوك منذ عام 1999 وبين الأفراد منذ عام 2002.
حاول أيضا مشروع الوحدة الأوروبية تمرير سياسات العولمة اليمينية المعادية للشعب، سياسات الليبرالية الجديدة بديلا عن سياسات دولة الرفاه الاجتماعى. كانت أوروبا الغربية تدرك أنها لو توحدت سياسيا واقتصاديا كما هى موحدة عسكريا (وإن مع أمريكا) فى حلف الأطلنتى فإن إنتاجيتها الاقتصادية ستتفوق على الولايات المتحدة وأخذت تعد العدة لذلك.
كانت السياسات اليمينية النيوليبرالية وسلب الجماهير منجزات دولة الرفاه الاجتماعى من ناحية التعليم والصحة والتأمين الاجتماعى وتوفير المرافق جميعا (كهرباء ومياه وصرف صحى..) بالتكلفة من خلال هيئات غير حكومية بالتكلفة، كانت كل تلك السياسات شديدة الأهمية بالنسبة للحكومات لتدعيم المنافسة مع الولايات المتحدة فضلا عن زيادة مكاسب الطبقات الحاكمة. ولا تفوتنا هنا الدلالة الرمزية لقرار الاتحاد الأوروبى فى عام 1993 بناء نظام تحديد المواقع العالمى Global Positioning System´-or-GPS الخاص بها رغم معارضة أمريكا (حيث لم يكن فى العالم حتى ذلك الحين سوى النظامين الأمريكى والروسى) بدلا من الاعتماد على النظام الأمريكى الذى يجعل كل التحركات العسكرية الأوروبية مكشوفة تحت نظر أمريكا. أيضا جاء توقيع اتفاق منظمة التجارة العالمية فى مراكش عام 1994 لكى يقنن ويدفع للأمام السياسات النيوليبرالية المعولمة المعادية للشعوب فى العالمين المتقدم والمتخلف سواءً بسواء.
بروز المعارضة الجماهيرية للعولمة
مثل الرفض الشعبى لمشروع الدستور الأوروبى الذى يمرر السياسات النيوليبرالية أحد النجاحات الشعبية فى الحد من الهجوم على منجزات دولة الرفاه الاجتماعى. كما مثل الإضراب الكبير لسيارات النقل الذى شل كل طرق فرنسا عام 1995 احتجاجا على رفع سعر الوقود، مثل أول ثورة ضد العولمة كما جاء وصفه فى عنوان جريدة اللوموند التى ربطت بحق بين رفع أسعار المحروقات وزيادة الضرائب غير المباشرة، وبين السياسات النيوليبرالية التى فرضتها العولمة.
لكن الرفض الشعبى الكبير والمؤثر ضد العولمة تمثل فى مظاهرات سياتل فى أمريكا حيث اجتمع المحتجون من كل أرجاء العالم ونجحوا فى إفشال الاجتماع الوزارى الثانى لمنظمة التجارة العالمية لكى يؤدى هذا إلى تأسيس المنتدى الاجتماعى العالمى عام 2000 فى البرازيل، ضد منتدى دافوس الاقتصادى الذى يمثل المليارديرات والشركات العالمية ومؤسسات التمويل الدولية. ضم المنتدى الاجتماعى العالمى المنتدى الاجتماعى العالمى كل الأحزاب والنقابات والمنظمات من جميع أنحاء العالم الرافضة للعولمة وللسياسات المتوحشة للّيبرالية الجديدة.
تناقضات الاستراتيجية الأمريكية فى عصر العولمة
ويهمنا هنا أن نقف وقفة أمام تقييم أحد أهم المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين، زبجنيو بريجينسكى الديمقراطى الذى كان مستشارا للأمن القومى الأمريكى فى عهد كارتر (1976- 1980) للاستراتيجية الدولية فى فترة التسعينات. صدر له كتاب "رقعة الشطرنج الأوراسية: الأولية الأمريكية وتحدياتها فى القرن الواحد والعشرين" عام 1997. يدرك بريجينسكى جيدا أن عنصر تفوق الولايات المتحدة الأساسى هو تفوقها الاقتصادى الذى جعل ناتجها المحلى الإجمالى طوال معظم النصف الثانى من القرن العشرين يبلغ حوالى ثلث الناتج العالمى، وهو ما تُرجِم فى قوة عسكرية شاملة للعالم، أصبحت القوة الوحيدة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية.
لكنه يدرك أيضا أن عنصر القوة الاقتصادى هذا فى تراجع مستمر، حيث سيبلغ الناتج المحلى الإجمالى فى أمريكا 28% عام 2000، وسيتفوق عليه الناتج المحلى الإجمالى للصين، صاحبة أعلى معدل نمو يبلغ أربعة إلى خمسة أضعاف معدل نمو الناتج المحلى الأمريكى، فى وقت ما بين عام 2022 و2030. ويحدد بريجينسكى هدفه فى كيفية استفادة أمريكا من عناصر قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية فى استدامة هيمنتها أو أولويتها العالمية لأطول مدى ممكن. وبعد دراسة تاريخية طويلة يحدد المنافسين المحتملين لمنافسة الأوليّة الأمريكية.
يحدد بريجينسكى المنافسين فى خمس دول: الصين وروسيا والهند وفرنسا وإيران. وهو يخرج انجلترا من تلك المجموعة رغم كونها أقوى من فرنسا من ناحية عناصر القوة الاستراتيجية لأنها لا تطمح لمنافسة أمريكا فهى تابعة مخلصة. كما أنه يعتبر أوروبا الغربية كلها هى المؤيد الأول والأقوى لأمريكا فى نشر قيم الحرية فى العالم (إقرأ: فى نشر السياسات النيوليبرالية التى تتيح لهم جميعا التشارك فى استغلال العالم)، وهو يؤيد الوحدة الأوروبية التى مركزها ألمانيا وفرنسا، ويدرك أن مفهوم ألمانيا عن الوحدة الأوروبية هو الأقرب لأمريكا من المفهوم الفرنسى، وهو يرى أن فرنسا تطمح إلى مركز عالمى يفوق عناصر قوتها الفعلية، ولكنه ينصح بالتساهل مع مطالب فرنسا. ليست فرنسا عدوا استراتيجيا مثل الأربعة الآخرين.
لنتذكر أن روسيا فى وقت تأليف الكتاب (1997) فى عهد يلتسين تشهد أشد انهيار ممكن: تمت الخصخصة بأسوأ أشكالها فى ظل الفساد الذى طال يلتسين شخصيا وحكمت المافيا فيه كل شيئ، واستولى المليونير خودورفسكى على قسم هام من احتكارات البترول بالبخس، واشترت الدول الرأسمالية بالذات ألمانيا من روسيا ألف مصنع تم فكها ونقلها إلى أوروبا الشرقية، واشترت إسرائيل مصنع صواريخ بعلمائه وفنييه وعماله مما طور بشدة صناعاتها الصاروخية ومكنها من تصنيع وإطلاق أقمارها الصناعية أفيك (أفق) واحد واثنين. أصبحت المرتبات لا تساوى شيئا بحكم التضخم، ومع ذلك تتأخر الدولة شهورا كثيرة فى صرف المرتبات، ويحرق البعض أنفسهم فى هذا المناخ المأساوى، ورغم كل هذا يحدد بريجينسكى أخطر الأعداء المحتملين لأمريكا فى روسيا وليس الصين.
إنه يُشَبِّه روسيا بالثقب الأسود، لأنها إذا نجحت فى التماسك فهى تملك كل عناصر القوة الاستراتيجية التى تمكنها من استعادة نفوذها: رغم تفتيت الاتحاد السوفيتى إلى 15 دولة مما أنقص مساحته من 22 مليون إلى 17 مليون كيلومتر مربع مازالت أكبر دولة فى العالم من حيث المساحة، ورغم تناقص سكانها من حوالى 300 مليون إلى 157 مليون إلا أنهم لا يزالون يمثلون ثقلا ديموجرافيا هاما فى عالم تلك الفترة. كما أن قدراتهم الإنتاجية الكامنة، وقدرتهم على صنع التكنولوجيا الراقية، وطموحاتهم إلى السيادة العالمية منذ التاريخ القيصرى، كل هذا يجعلهم الخطر الأول على الأوليّة الأمريكية قبل الصين. وها هى نبوءته تتحقق بعد عقد ونصف! لهذا فإن أنسب وضع لأمريكا كما يقول بريجنسكى هو تفتيت روسيا لثلاث جمهوريات: روسيا الأوروبية، وسيبيريا، والجنوب الإسلامى فى الشيشان وداغستان وغيرها.
أمريكا فى عهد المحافظين الجدد
جاء حكم بوش الابن والمحافظون الجدد فى الولايات المتحدة بين عامىّ 2000 و2008 لكى يمثل أكثر فترات التوحش الإمبريالى النيوليبرالى المعسكر. كانت الاستراتيجية المعلنة هى رفع كفاءة أمريكا العسكرية حتى تصير قادرة على خوض أكثر من حرب على أكثر من جبهة فى وقت واحد. شهدت تلك الفترة أيضا إجراءات تخفيف الرقابة المالية على البنوك وإطلاق حرية رأس المال وتقليل تدخل الدولة مما سينتج لاحقا مصائب اقتصادية ضخمة.
احتلال أفغانستان والعراق
شهدت تلك الفترة العدوان الأمريكى على كل من أفغانستان (2001) والعراق (2003). ومهما قيل فى تبرير تلك الحروب بهجمات 11 سبتمبر 2001 فى حالة أفغانستان ووجود أسلحة دمار شامل فى حالة العراق فإن ذلك الآن فى ضوء الحقائق التى تم اكتشافها لا تصمد أمام أى تحقيق تاريخى.
اعتمدت الولايات المتحدة فى مواجهة الدعم السوفيتى لأفغانستان بعد 1979 على أمراء الحرب العاملين فى تجارة وتصنيع المخدرات مثل عبد الرشيد دوستوم و أحمد شاه مسعود ونور الدين سياف. ولكن بعد انسحاب السوفييت من أفغانستان عام 1989 استمرت الحرب على الزعامة بين هؤلاء الأمراء وفشلت أمريكا فى التوفيق بينهم واضطرت إلى اصطناع منظمة جديدة هى طالبان (طلاب المعاهد الدينية) وساعدتها على الوصول للسلطة وبناء دولة موحدة فى أفغانستان، واستمرت الزيارات المتكررة لوزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت لأفغانستان واستمرت طالبان تتلقى مرتبات من المخابرات المركزية الأمريكية حتى 1999، وذلك من أجل عيون بترول وغاز بحر قزوين المخزن العالمى الأضخم أو التالى للجزيرة العربية.
عند الشروع الأمريكى فى بناء خط أنابيب لنقل غاز بحر قزوين لموانئ باكستان تلكأت طالبان وتحدثت عن مناقصة دولية واتصلت فى السر بمقاولين فرنسيين مدعومين حكوميا. حينذاك قررت أمريكا أن لا بديل للسيطرة على مخزون غاز بحر قزوين سوى السيطرة العسكرية المباشرة على أفغانستان، واستمرت مناورات التدريبات العسكرية على احتلال أفغانستان طوال عامين بين 1999 و2001 فى صحراء تكساس المشابهة لأفغانستان مناخيا. كان هذا هو الاستعداد الحقيقى للحرب، ولم يكن القرار والتنفيذ وليد شهرين مضيا بين أحداث 11 سبتمبر وغزو أفغانستان فى نوفمبر عام 2001.
أيضا بالمثل لم تكن أسلحة الدمار الشامل بالعراق سوى حجة مكشوفة، ولكن الجنرال رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكى عندما كان يقنع قادته العسكريين بخوض حرب احتلال العراق بعد فترة وجيزة من احتلال أفغانستان لم يحدثهم قط عن أسلحة الدمار الشامل ولكنه حدثهم عن أن المربع بين بحر قزوين والبحر الأسود والخليج العربى والبحر الأحمر يحتوى على 70% من احتياطى البترول العالمى، وأن بغداد هى مركز القوس الذى يمتد من مناطق سيطرتهم فى أفغانستان وتركيا وإسرائيل، وأن احتلال بغداد يؤمن ليس فقط بترول العراق لهم ولكن أيضا إمكانية مواجهة كل من إيران وسوريا فى شرق العراق وغربها، والهيمنة على منابع النفط العالمية مما يؤمن وضعا احتكاريا لأمريكا حتى فى مواجهة الأصدقاء مثل فرنسا وألمانيا واليابان.
جبهة شرق أوروبا
أما على جبهة المواجهة فى شرق أوروبا فرغم التعهد الشفوى لجورباتشوف عند اتخاذ قرار حل حلف وارسو بألا يتوسع حلف الأطلنتى فى أوروبا الشرقية، إلا أن طموحات السيطرة على العالم أجمعه التى لا حد لها من قبل الإمبريالية الأمريكية دفعت بهم إلى السعى لإغراء دول أوروبا الشرقية الشيوعية السابقة بالدخول فى حلف الأطلنتى ونصب قواعد صواريخ وقواعد جوية وبحرية فيه بدءا من دول بحر البلطيق الثلاث لتوانيا ولاتفيا وأستونيا.
لكن روسيا المنهارة فى عهد يلتسين استعادت تماسكها منذ عام 2000 بعد تخلى يلتسين وتولى بوتين السلطة، أولا بفضل صفقة بين بوتين رجل الكى جى بى السابق وبين يلتسين بتسليم السلطة بشرط عدم ملاحقته على أفعال الفساد التى اقترفها. وأخذ بوتين فى بناء الدولة، فبعد تدبير قضية تهرب ضريبى للمليونير خودورفسكى الذى اشترى جزءا من بترول الحكومة بالبخس والذى ارتبط بالمافيا وبالصهيونية العالمية، تم بيع شركات البترول التابعة له وفاءً للضرائب حيث اشترتها شركة جاز بروم الحكومية الروسية. وشهدت تلك الفترة ارتفاع أسعار البترول التى استخدمها بوتين فى إعادة بناء روسيا من جديد.
وعندما أتى الصدام الأول بين روسيا وجورجيا بعد ضم جورجيا إلى حلف الأطلنتى عام 2008 بدءا باستفزاز شاكاسفيلى ردت روسيا بعنف، وكان دليلا إضافيا أن الغرب لم يكن يعادى روسيا فقط لشيوعيتها، ولم ينته عداؤه لها بعد تبنيها الرأسمالية، ولكنه يسعى لفرض سيطرته على العالم وإخضاع زعمائه الكبار بانضمام جورجيا لعضوية حلف الأطلنتى عام 2008 وصل الناتو إلى حدود روسيا. استأنفت روسيا رحلاتها الدورية لطائراتها بعيدة المدى فى العالم فى عام 2008 عام المواجهة مع جورجيا. وبدأت فى استئناف أبحاث الفضاء والتطوير التكنولوجى للمعدات العسكرية.
انتهت فترة بوش التى مثلت أقصى الطموحات الشرسة لسياسات العولمة الليبرالية الجديدة المعسكرة بكارثة التورط فى حربين مستنزفتين فى أفغانستان والعراق، وأيضا بأزمة اقتصادية طاحنة بانفجار فقاعة الرهن العقارى الناتجة عن تخفيف الدولة للرقابة على البنوك والشركات، وبانفجار فضائح الفساد بتسويق شركات خاسرة مثل هاليبرتون ببيانات كاذبة ترفع سعر أسهمها حتى يبيعها كبار المساهمين من عائلات بوش وديك تشينى ثم إعلان إفلاسها.
استمرار مخطط الهيمنة العالمية فى عهد أوباما
نجح الديمقراطى أوباما فى الفوز بمنصب الرئاسة التى استمر فيها لمدة 8 سنوات منذ نهاية 2008 وحتى نهاية 2016، حيث سيسلم المنصب الجديد إلى ترامب الرئيس المنتخب فى نوفمبر 2016، عند تاريخ 20 يناير 2017. اضطر بوش تحت وطأة انفجار أزمة الرهن العقارى فى العام الأخير لحكمه، 2008، إلى اتخاذ إجراءات من نوع تأميم بنوك وفرض قيود على رأس المال. واصل أوباما سياسات معالجة الأزمة وفق مبادئ الحزب الديمقراطى وقلص من الحريات التى منحها بوش لرأس المال وأدخل مكاتب المحاسبة القانونية شركاء فى المسئولية الجنائية عن التقارير حتى لا تتكرر لعبة الجمهوريين بالتلاعب بصغار المستثمرين بإعطاء انطباع خاطئ بمركز قوى للشركة حتى ترتفع قيمة الأسهم ثم تنخفض بعد أن يقوم كبار المستثمرين العالمين ببواطن الأمور ببيع أسهمهم ويصيب الإفلاس الباقون. وحاول أوباما مواجهة آثار أزمة الرهن العقارى ووجود مئات الآلاف من الأسر مطرودة من مساكنهم لعدم سداد الأقساط وإفلاس البنوك، واضطرارهم للإقامة فى الحدائق، وبدأ توزيع كوبونات الإعانات الغذائية على المواطنين حتى بلغ عدد الوجبات الساخنة الموزعة يوميا عشرات الملايين.
قام أوباما بتعديل واحد هام لاستراتيجيته للهيمنة العالمية فى مؤتمر قمة حلف الأطلنتى المعروف بمؤتمر لشبونة عام 2010. فى تلك القمة تصالح أوباما مع الدول الأوروبية بالذات فرنسا التى شهد العقد الأول من القرن العشرين منافسة قوية بينهما بالذات فى المنافسة على النفوذ فى أفريقيا للسيطرة على دول منطقة البحيرات فى وسط أفريقيا. تحت تأثير الأزمة الاقتصادية وغيرها قرر أوباما تقسيم مناطق النفوذ مع أوروبا وتجنب الصراعات بينهما، كما طلب أن تساهم أوروبا مساهمة أكبر فى حمل عبئ الحماية العالمية لما يسمونه بنشر قيم الحرية والديمقراطية ونسميه نحن نشر النفوذ والاستغلال الاقتصادى والعسكرى. وبالتالى سمى البعض تلك السياسة سياسة "طى البساط" وتحميل أوروبا بعض أعبائها عن طريق زيادة إنفاقها العسكرى وزيادة مساهمتها فى ميزانية الأطلنتى. لهذا شجع أوباما فيما بعد فرنسا على التدخل العسكرى فى مالى، كما ترك الحرب على ليبيا للقوى الأوروبية الثلاث القوية، انجلترا وفرنسا وإيطاليا، ولم يتدخل إلا تدخلا محدودا نوعيا لدعمهم.
ولكن النقطة التى واصل فيها أوباما سياسة بوش العدوانية هى استمراره فى الهيمنة على العالم سواء فى صورة استمرار مخطط التفتيت الإقليمى للشرق الأوسط بالتعاون مع الإسلام السياسى وفى القلب منه الإخوان المسلمين، واستمرار مخطط تركيع روسيا على جبهة شرق أوروبا، واستمرار الصراع مع الصين فى بحر الصين الجنوبى.
جبهة شرق أوروبا
جاءت محاولة توجيه الضربة الكبرى لروسيا بانقلاب أوكرانيا الذى أزاح رئيسا مواليا لروسيا واستبدل به رئيسا محسوبا على الحزب النازى العنصرى، ومنحاز لانضام أوكرانيا لحلف الأطلنتى. فجر هذا مشكلة القرم، فالقرم التى كانت تابعة أصلا لروسيا قام خروشوف أيام الاتحاد السوفيتى بضمها لأوكرانيا عام 1954. وعندما انفصلت أوكرانيا بتفكك الاتحاد السوفيتى عام 1991 عقدت روسيا معاهدة مع أوكرانيا تتضمن تأجير شبه جزيرة القرم من أوكرانيا حتى عام 2017 فى مقابل إمداد أوكرانيا بالغاز الطبيعى بأسعار مخفضة. وتمثل شبه جزيرة القرم المخرج البحرى الوحيد لروسيا على البحر الأسود ومنه إلى البحر المتوسط، قلب العالم المعاصر تجاريا ومخزن البترول والغاز الرئيسى حتى الآن. بعد الانقلاب الموالى لأمريكا فى أوكرانيا عام 2014 بدأت المحادثات على ضم أوكرانيا لحلف الأطلنتى. وصف هنرى كيسنجر عن حق محاولة الغرب لضم أوكرانيا لحلف الأطلنتى وما يعنيه ذلك من حرمان روسيا من قواعدها فى القرم التى تتيح لها الوصول للمياه الدافئة، سواء بعدم تجديد الاتفاقية بعد عام 2017 أو بإلغائها قبل ذلك، وصفه بأنه تحويل روسيا من قوة دولية إلى قوة إقليمية أوروبية، فهى فى قلب القارة الأوروبية بريا، ولكن فى حالة حرمانها من موانئ القرم لن تعود لها موانئ سوى على بحر البلطيق شمال أوروبا على المحيط الأطلنتى، وفى أقصى الشرق فى فلاديفستوك على المحيط الهادى.
ولكن روسيا التى أعادت بناء نفسها كقوة استراتيجية بما فيها تطوير الأسلحة الاستراتيجية واستعادت التعادل النووى الاستراتيجى مع أمريكا فى عام 2012 لا يمكنها أن تقبل بتلك المهانة. استندت موسكو إلى سابقة تبعية القرم لها وكون أغلبية سكان القرم روسيين يتكلمون اللغة الروسية وليس الأوكرانية فضمت القرم إليها عن طريق دخوله عسكريا فى أعقاب انقلاب أوكرانيا، ثم تنظيم استفتاء بين السكان على ضم القرم لروسيا ووافقت أغلبية السكان بالطبع. ثم انقلبت على أوكرانيا لكى تستغل الظلم الواقع على الأقليات السوفيتية التى تشكل أغلبية إقليم الدونباس فأعلنوا فيه دولتين مستقلتين، واستمروا يحاربون السلطة الأوكرانية، ومطالبهم حدها الأدنى حكم ذاتى يعطيهم حقوقهم كأقليات من أصل روسى، وحدها الأقصى الاستقلال.
فرضت أمريكا والاتحاد الأوروبى (شركاء حلف الأطلنتى) عقوبات على روسيا لضم القرم. وبالرغم من التوصل إلى اتفاقية مينسك بشأن جمهوريات الدونباس فى أوكرانيا إلا أن أوكرانيا هى التى لم تلتزم بجانبها من الاتفاق. أصر الجانب الأمريكى على استمرار العقوبات مع تفاوتات أوروبية فى شدة الموقف من روسيا، حيث أقربها إلى روسيا هى فرنسا ذات المصالح المشتركة، وأقربها إلى أمريكا هى ألمانيا غير ذات القوة النووية والتابعة لأمريكا من أوجه كثيرة، ولكن فى إطار استمرار حد أدنى من العقوبات على ضمها للقرم. وكان هذا جزءا من استعراض القوة ومحاولة تحجيم روسيا والهيمنة الدولية عليها. بمعنى آخر عدم الاعتراف بميزان القوى العالمى الجديد كما سنرى لاحقا.
جبهة الشرق الأوسط
مثلت ثورات الربيع العربى الفرصة الذهبية لأمريكا لتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد وتفتيت الدول العربية والشرق- أوسطية بالتحالف مع الإخوان والجماعات الجهادية الإسلامية. احتفت الدول الإمبريالية بالثورات العربية فى أولها باعتبارها فرصة الإخوان، وفرصة الإمبريالية أيضا، لتمكينهم من تمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد بالتفتيت تحت ظل خلافة اسلامية شكلية، مع تبنى الاقتصاد الحر وتمكين الغرب من تعميق تبعية تلك الدول له اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. دعم هذا نجاح الإخوان بعد الثورات مباشرة فى اكتساب المواقع الأولى فى المجالس التأسيسية أو البرلمانات فى الدول العربية مثل مصر وتونس وليبيا واليمن. اعتمد هذا جزئيا على قلة الوعى السياسى للجماهير العربية التى انخدعت بهم باعتبارهم قوة مُضطَهدة فى العهود السابقة، وقوةً تملك من الدين والأخلاق ما يناقض فساد الطبقات الحاكمة قبيل الثورات العربية.
ولكن الجماهير اكتشفت سريعا التناقض بين محتوى ثوراتها التى تطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية المذلة للغرب، وبين إيديولوجية الإخوان التى أسفرت عن وجهها الفاشى المعادى للديمقراطية، ورفضها للعدالة الاجتماعية ودفع الظلم الاجتماعى قدما، وتعميق التبعية للغرب.
لهذا كانت الموجة التالية هى هبوط شعبية الإخوان وافتضاح أمرهم هم وفصائل الإسلام السياسى الأخرى. بدا هذا فى تراجع الأصوات التى حصلوا عليها فى ثانى انتخابات فى ليبيا وتونس، كما بدا بشدة فى سقوطهم المدوى فى مصر فى ثورة 30 يونيو.
بل بدا أيضا تآمرهم مع الإمبريالية، وتأييدهم الساحق للاحتلال الإمبريالى فى ليبيا، وللتدخل الإمبريالى الصريح فى سوريا، وتعاون الدول العربية الرجعية صراحة مع الإسلام السياسى كما بدا فى حلف السعودية، قطر، تركيا، أمريكا، الإخوان، القاعدة، داعش وغيرهم ضد سوريا وليبيا.
ولكن الإمبريالية انتهزت الفرصة للتدخل المباشر والعودة للاحتلال الكولونيالى والسيطرة المباشرة على البترول كما بدا فى اقتسام إيطاليا وإنجلترا وفرنسا لبترول ليبيا، واعتزمت التدخل بالمثل فى سوريا لإسقاط النظام السورى، ليس لديكتاتورية الأسد، فهى ليست قوة مدافعة عن الديمقراطية إلا بالادعاءات الكاذبة، ولكن لاحتلال سوريا والسيطرة على مواردها وموقعها الجغرافى الهام وتقسيمها كأكبر غنيمة لتمرير مشروع الشرق الأوسط الجديد.
بعد أن قامت دولة داعش (الدولة الإسلامية فى العراق والشام) فى يونيو 2014، وبعد أن أوشكت سوريا على السقوط، جاء طلب الأسد لتدخل روسيا لمعونته، واستعداد روسيا لتقديم تلك المعونة بعد وصولها للقوة الكافية كما أوضحنا حيث استعادت تعادلها الاستراتيجى النووى مع أمريكا منذ عام 2012، وردا على محاولات حصارها بإدخال حلف الناتو وأسلحته حتى حدودها الغربية عن طريق ضم دول أوروبا الشرقية للحلف، فتدخلت بفعالية عالية وتمكنت من عكس مسار الحرب فى سوريا وإنقاذ سوريا من الوقوع تحت سيطرة الإمبريالية وحلفائها الداعشيين، بحيث يشكل داعش والإرهابيين بنفوذهم العالمى خطرا عليها، كما يشكل التوسع الإمبريالى فى تلك المنطقة أيضا تضييقا لنفوذها الاستراتيجى.
على الرغم من أن صراع القوى مازال دائرا فى الشرق الأوسط إلا أن علامات فشل المخطط الأمريكى ما زالت واضحة: فمن ناحية سقطت مراهنتها على الإخوان فى مصر بثورة 30 يونيو كما أسلفنا، كما أن دولة داعش تتجه لهزيمة ساحقة فى معركتى الموصل وحلب، تتلوهم الرقة، والأهم افتضاح محتوى الإسلام السياسى بشقيه المتطرف والمتخفى المتمثل فى الإخوان، بحيث اكتسبت الجماهير العربية بتجربتها الملموسة حصانة جيدة ضد حكم الإسلامييين، رغم استمرار أقلية من الجماهير العربية بالطبع فى الثقة فيهم. لم يكن هناك سوى نموذج تونس الذى يفخر به الغرب نظرا لنظام الحكم الذى يقوم على تحالف النهضة (الإخوان) مع حزب السبسى ذى الأصول البورقيبية، أى التحالف الليبرالى الإسلامى.
ولكن أهم علامة تهمنا فى لوحة الشرق الأوسط الجديد حاليا هو دخول الجماهير العربية كطرف مهم جديد على الساحة يحسب حسابه فى ميزان القوى، فالقوى الجماهيرية التى رفعت شعارات وتبنت أهداف الجماهير من تلك الثورات تقدمت من ناحية وعيها ومن ناحية تنظيمها، وتمثلت أيضا فى المعارضة داخل البرلمان التونسى والبرلمان المصرى أيضا فى كتلة ائتلاف 25 -30 (المقصود بالطبع ثورات 25 يناير و30 يونيو).
جبهة جنوب شرق آسيا والصين
أما الصين فشهدت خلال تلك الفترة تطورات شديدة الأهمية. لقد أدى معدل نموها الاقتصادى إلى أن تتجاوز كثيرا من دول العالم من ناحية الناتج المحلى الإجمالى وتقفز إلى المركز الثانى فى القوة الاقتصادية العالمية بعد أمريكا مباشرة، وتستعد لتبوء المركز الأول عالميا خلال سنوات قلائل. كما برزت الصين فى امتلاك ناصية التكنولوجيا الحديثة حيث صنعت طائرات الشبح ومسبار الفضاء الكونى لدراسة غموض المادة المعتمة فى الكون، ونجحت فى صنع نظام لتحديد المواقع العالمى خاص بها GPS، وطورت تكنولوجيا الكمبيوتر المتقدمة.
اقترن مع ذلك توسع علاقاتها الاقتصادية بمناطق كثيرة من أبرزها أفريقيا، وبرزت قروضها الدولية لأفريقيا مما أعطاها امتيازات لاستخراج المعادن النادرة التى تحتاجها وتشتريها من الدول الأفريقية.
قررت الصين تغيير عقيدتها العسكرية فى عام 2009 من عقيدة دفاعية إلى عقيدة هجومية، وبدأت فى تصنيع حاملات الطائرات، وبدأت فى رحلات بحرية لأساطيلها العسكرية لتصل إلى البحر المتوسط وتقوم بمناورات عسكرية مشتركة مع دول مختلفة.
نشأت علاقات شراكة استراتيجية متعددة الجوانب بين الصين وروسيا. أمدت روسيا الصين بالغاز الطبيعى الذى تحتاجه بعقود لفترات طويلة. كما ساعدتها فى تطوير تكنولوجياتها فى جوانب متعددة. ردا على توسع حلف الأطلنتى شرقا وإقامة الولايات المتحدة قواعد عسكرية فى قيرغيزيا وأوزبكستان، أقدمت كل من روسيا والصين على بناء تحالف استراتيجى بينهما وبين بعض الدول الأسيوية فيما عرف بتحالف شنغاهاى عام 2001، والذى نجح بعد ذلك فى إبعاد القواعد العسكرية الأمريكية من وسط آسيا فى الجمهوريات الإسلامية التى كانت أعضاء فى الاتحاد السوفيتى السابق.
أزمة الاستراتيجية الأمريكية مع المتغيرات الجديدة
لعل كل ما سبق أدخل الولايات المتحدة الأمريكية فى منعطف استراتيجى. سياستها فى استمرار حصار روسيا وعزلها أدت إلى اكتساب روسيا قوة تحدى ضخمة، واستعادت التعادل الاستراتيجى الذى وصلت إليه سابقا عام 1975، استعادته عام 2012، وواصلت برامج الفضاء وتطوير الأسلحة الاستراتيجية والتمدد فى سوريا والمتوسط والشرق الأوسط.
وسياسة أمريكا مع الصين نتج عنها جزئيا تطور السياسة الصينية إلى سياسة هجومية وتطوير الأسلحة الهجومية وطواف اساطيلها البحرية فى المحيط الهندى والبحر المتوسط، والاستعداد لتجاوز القدرة الاقتصادية الأمريكية قريبا.
وسياستها فى الشرق الأوسط تبين فيها فشل مراهنتها على الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش. فهل آن الأوان للاعتراف بميزان القوى الاستراتيجية الجديد واستئناف تحقيق استراتيجيتها بوسائل أخرى مناسبة، أم تظل متمسكة بتكتيكاتها التى حققت كل تلك الخسارات؟
فيما يبدو فإن قسما أساسيا فى المجمع الصناعى العسكرى الأمريكى شاملا البنتاجون كان مناصرا لهيلارى كلينتون التى تعتزم الاستمرار فى السياسة العدوانية، والتى بالطبع تحقق مطامع المجمع الصناعى العسكرى فى التربح من الحروب بأنواعها.
ولكن برز صوت جديد داخل الدوائر الحاكمة فى الولايات المتحدة: مثلا فى شهادة رئيس المخابرات العسكرية، الجنرال فلين، الذى أمضى فى الجيش الأمريكى ثلاثة وثلاثين عاما خدم من ضمنها فى أفغانستان والعراق، فى شهادته أمام لجنة بالكونجرس. لقد جرؤ على تحدى استراتيجية أوباما وجاء فى شهادته أن الشعب الأمريكى أكثر عرضة للخطر ساعتها مما كانت عليه الأحوال قبل سنوات لأن إدارة الرئيس باراك أوباما لا تريد للرأى العام أن يسمع أن الجماعات الإرهابية مثل داعش وبوكو حرام والقاعدة وطالبان تنمو فى أعدادها إلى حد كبير وتتسلل إلى المجتمعات الغربية. بناء على هذه الشهادة تم طرده من منصبه!
ألف الجنرال فلين عام 2015 مع مايكل ليدن كتابا عام 2015 عنوانه "ميدان المعركة: كيف يمكن أن ننتصر فى الحرب العالمية على الإسلام الراديكالى وحلفائه"، طرح فيه استراتيجية بديلة لاستراتيجية أوباما- كلينتون.
انضم الجنرال إلى معهد لندن للدراسات الاستراتيجية فى الولايات المتحدة. رفع معهد لندن للدراسات السياسية فى واشنطن تقريرا سياسيا إلى ترامب لاستخدامه فى حملته. أحد معدى التقرير هو الجنرال مايكل فلين. يطرح التقرير أفقا لمنطقة الشرق الأوسط يرتكز على تأسيس منظمة اتفاقية الخليج والبحر الأحمر (GRSTO´-or-Gulf Red See Treaty Organization) تتكون من دول الخليج الست بالإضافة إلى الأردن ومصر والولايات المتحدة الأمريكية. تستند تلك الاتفاقية إلى ضمان أمن واستقرار ووحدة جميع دول المنطقة الأعضاء. تحدد تلك الورقة ثلاثة تهديدات للمنطقة:
• الإسلام المقاتل militant Islam الذى يسعى إلى تغيير النظم بالقوة بصرف النظر عن مذهبه (والعاجل بالطبع داعش والقاعدة ولكنه يضم أيضا حزب الله!)
• خطر القوى الإقليمية المهيمنة regional hegemon والمقصود بها إيران أولا ويطرح السعى لاحتوائها ويمكن فى المستقبل ضمها، ولكنه يتسع أيضا إلى روسيا والصين
• خطر حيازة الأسلحة النووية. (بالطبع لا يضع فيها إسرائيل ولكن يضع سعى إيران لامتلاك القدرات النووية، موضحا أن المعاهدة النووية تضمن عدم حدوث هذا ولكن لمدة 15 سنة من الاتفاق فقط).
ويطرح انتساب إسرائيل لتلك المنظمة كعضوية منتسبة خلال عشر سنوات أو حسب الأحوال. يتضح بالطبع الفرق بين تلك الخطة وبين خطة أوباما والديمقراطيين التى كانت تعتمد على الإخوان ثم التنظيمات المتطرفة على تغيير الأنظمة بالقوة، فتٌطَمئِن الخطة الجديدة الدول العربية وتعقد معها حلفا إمبرياليا جديدا يتضمن فى المدى المتوسط التعهد بالحفاظ على الدول الموجودة دون المساس بها والقضاء على التنظيمات المتطرفة حتى فى المغرب العربى، وتطوير القوة العسكرية والاقتصادية للدول، كما تتصدى لإيران بهدف احتوائها، وفى المدى البعيد عليها التصدى أيضا لروسيا والصين.
يتضح لنا لماذا تحدث ترامب فى حملته الانتخابية عن غياب ضرورة حلف الأطلنتى كله، وعن التفاهم مع بوتين، وعن أن أجندة نشر الديمقراطية وأجندة الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان يجب أن ترفع من السياسة الخارجية الأمريكية!
تحدثنا بهذا التفصيل عن مايكل فلين وتاريخه وكتاباته لأن ترامب اختاره بعد فوزه مستشارا للأمن القومى. وبالتالى نحن أمام خطة أخرى للهيمنة الأمريكية الاستعمارية، لا تختلف فى الأهداف ولكن تختلف فى الوسائل: فهى تعترف بقوة موسكو الحالية وتتنازل كهدف مباشر عن استمرار معاداتها، ويقترح ترامب ترتيب الأمور مع بوتين بدلا من معاداته، كما يقترح أن حلف الأطلنتى قد تجاوزه الزمن ولم يعد هناك حاجة إليه بعد انتهاء عهد الحرب الباردة.
كما يطرح إيقاف السعى لإسقاط السيسى فى مصر لصالح التحالف الفاشل مع الإسلاميين الذى لم يفشل فى مصر فقط ولكنه انقلب أيضا فى صورة إرهاب على أوروبا وأمريكا. بدلا من ذلك يتخلى عن مخطط التفتيت الإقليمى للشرق الأوسط ويبنى استراتيجيته الاستعمارية انطلاقا من الاعتراف بالدول الموجودة دون السعى لتفتيتها، مع ضمها للتحالف المعتزم للخليج والبحر الأحمر كما وضحنا.
لهذا رأينا سعادة كل من بوتين والسيسى بانتخاب ترامب وانفجار مرارات حلف الأطلنتى ضد انتخاب ترامب، والمطالبة بعد انتخابه بعقد قمة عاجلة للتنسيق. بالطبع يبقى الاختلافات المتوقعة ضمن هامش معين بين مناخ الحملة الانتخابية ووضع مؤسسة الرئاسة، حيث عليها بعد تشكيل الحكومة أن تنسق مع مختلف أجزاء النظام الحاكم، مع وزارة الدفاع (البنتاجون) والمخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، والكونجرس بمجلسيه، والتفاعل بين تلك المؤسسات يصنع السياسات الجديدة.
كلمة أخيرة
بالطبع لم تكن السياسة الخارجية هى المعركة الانتخابية الأساسية لترامب، ولكن موضوع المقال هو ما فرض التركيز عليها. ولكن فى الداخل اعتمد ترامب خطابا فاشيا
يخاطب عنصرية الرجل الأبيض الأنجلو- سكسونى ضد المهاجرين الأجانب باعتبارهم السبب فى قله فرصه فى العمل والرعاية الصحية والتعليم والنفقات العامة، وليس النظام الرأسمالى الاحتكارى، ويعد المواطن باستعادة أمريكا العظيمة مرة أخرى (لاحظ التشابه مع شعار هتلر ألمانيا فوق الجميع).
كان قدر جيلنا أن يشهد تغيرات جذرية فى الأنظمة السياسية والاجتماعية الأساسية فى النظام العالمى، وكلها ذات ارتباط وثيق بوضع بلادنا. رأينا العالم ثنائى القطبية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط المعسكر الاشتراكى. ثم رأينا عقدين من سيادة النظام العالمى أحادى القطبية، العقد الأخير من القرن الماضى والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين. ثم جاء العقد الحالى، العقد الثانى من هذا القرن بمولد العالم المتعدد الأقطاب.
رأينا فى منطقتنا مرحلة صعود الدول القومية وعدائها للاستعمار، كما رأينا عودتها إلى الحظيرة الاستعمارية. ورأينا المتغيرات الأخيرة من صعود النضال الجماهيرى المستقل منذ الثورات العربية، كما رأينا مناخا أكثر مواتاة فى بروز أقطاب متعددة متنافسة بدلا من هيمنة القطب الواحد، دون أن يعنى هذا بالطبع أننا نعود إلى ما يماثل فترة التحرر الوطنى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية ومناصرة المعسكر الاشتراكى لها، فالتاريخ لا يعيد نفسه! ولكن حديث المستقبل شأن آخر.
دكتور محمد حسن خليل
27 نوفمبر 2016