هل -الوعي- هو الذي اخترع -اللغة-؟


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 5347 - 2016 / 11 / 19 - 21:43
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

جواد البشيتي
القائلون بـ "المثالية"، وبـ "حُكْم الوعي للعالَم (حُكْماً أُوتوقراطياً مُطْلَقاً)"، يجيبون عن هذا السؤال، وعلى البديهة، قائلين إنَّ "الوعي" هو مُخْتَرِع "اللغة".
لكن إجابتهم "المثالية" هذه تتمخَّض، ويجب أنْ تتمخَّض، عن سؤالٍ آخر، هو: "هل للوعي (الإنساني) من وجود قَبْل اختراع اللغة؟".
كلاَّ، لا وجود له، ولا يُمْكنه أنْ يُوْجَد؛ فلا "وعي" بلا "لغة".
"مُخْتَرِع" اللغة، التي من دونها لا وجود لـ "الوعي"، إنَّما هو "العمل"، الذي هو "اجتماعي"، لا "فردي (شخصي)"، الطابع؛ فـ "الإنسان" لم يَظْهَر على سطح الأرض إلاَّ بصفة كونه "فَرْداً من جماعة"؛ إنَّه "مجتمعٌ (وكائنٌ اجتماعي)" مُذْ ظَهَر.
لقد زاوَلَت الجماعة البشرية البدائية "العمل"، أيْ تغيير "بيئتها الطبيعية" بما يلبِّي حاجاتها الأوَّلية (المأكل والملبس والمسكن والأمن). وقبل أنْ تَخْتَرِع "الأدوات (أدوات العمل)" استعملت "أدوات طبيعية"، أيْ مأخوذة من الطبيعة مباشِرَةً، كالحجر والعصا وعِظام الحيوان؛ ثمَّ أصبح هذا "الكائن الاجتماعي"، أيْ "الإنسان"، "صانع أدوات (للعمل)".
ومع صُنْعِه "أدوات العمل"، وتَوسُّعِه في تغيير "بيئته الطبيعية"، وتأسيسه، من ثمَّ، لـ "البيئة الاصطناعية (أو الطبيعة الثانية)"، تَعاظَمَت "المَدارِك الحِسِّيَّة" للإنسان، ونما وتنوَّع مخزونه من "المعطيات الحِسِّيَّة"، أي ما تعطيه إيَّاه حواسه من أحاسيس مختلفة متنوِّعة.
في "العمل"، وبه، اشتدَّت وتعاظَمت الحاجة لدى أفراد الجماعة البشرية البدائية إلى "أداة اتِّصال"، أيْ "لغة". ولقد جاءت "اللغة (المنطوقة أوَّلاً)" من "اللغة الحيوانية البدائية (الأُم)"، والتي قوامها "الصَّوْت (بتنوُّعه واختلافه). و"الصَّوْت (على هيئة صيحة تحذير وإنذار)" اسْتُعْمِل لدرء المخاطر (التي مَصْدَرها الأهم وحوش مفترِسة) عن أمن الجماعة البشرية البدائية.
ومن "الصَّوْت الإنساني"، وبتنوُّعه، نشأت "الكلمات الأولى"؛ وكانت "أسماء الأشياء (التي تهمُّ الجماعة البشرية البدائية)" الجزء الأهم من تلك الكلمات (المنطوقة).
لقد اخترعوا (بتواضُعهم واتِّفاقهم) طائفة (شرعت تتَّسِع وتنمو) من "الأسماء الجامدة"، والتي هي أسماء سُمِّيت بها أشياء من قبيل "رَجُل"، و"امرأة"، و"طفل"، و"نار"، و"كلب"، و"نهر"، و"شجرة"، و"قمح"؛ فـ "العمل"، الذي خَلَق "المجتمع الإنساني"، وَلَّد ونمَّا "الحاجة إلى الاتِّصال اللغوي (الاتِّصال بكلمات وأسماء من طريق النُّطق، قبل اختراع الكتابة والأبجدية)".
وإنَّ من الأهمية بمكان أنْ نَنْظُر في "المعاجِم" لِنَقِف على التطوُّر التاريخي لمعنى الكلمة الواحدة؛ فانْظروا، مثلاً، إلى كلمتيِّ "أَنْف" و"ريح".
المعنى الأقدم والأُم لكلمة "أَنْف" يدلُّ على "عضو (في الوجه)" هو "الأنْف"؛ ولَمَّا رأوا الإنسان "المُتَكبِّر" يَشْمَخ بأنْفِه استحدثوا كلمة "أنَفَه" ليدل معناها على العِزَّة والحَميَّة.
أمَّا "الرِّيح" فهي "الهواء إذا تحرَّك"؛ وكلمة "رَوْح" تؤدِّي معنى مشابهاً. ولَمَّا رأوا من علامات الموت علامة "عدم دخول هواء (أو ريح، أو رَوْح) إلى الرئتين، وعدم خروج هواء منهما" اسْتَحْدثوا كلمة "رُوح (أو نَفْس)"، وأعطوها معنى يشبه كثيراً معنى "الرِّيح".
لقد استهلُّوا تأسيسهم للغة (البدائية) بكلمات أساسية، تُنْطْق نُطْقاً؛ وكانت "أسماء الأشياء (المهمة لهم)" هي جزءها الأهم.
لكنَّ "التسمية"، أو "صناعة الأسماء"، ليست بالأمر اليسير السَّهل؛ فإنَّ "المنطق" هو وحده الطريق إلى "التسمية". إنَّ أفراد الجماعة البشرية البدائية لا يُمْكنهم التواضع والاتِّفاق على تسمية هذا الشيء "شجرة" إلاَّ بعد بَذْلِهم "جهداً ذهنياً خاصاً" يسمَّى "التجريد"؛ فَهْم ينبغي لهم أوَّلاً أنْ يعرفوا أنواعاً عدة من الشجَّر (برتقال وتُفَّاح وزيتون..). ثمَّ ينبغي لهم أنْ يُدْرِكوا "المُشْتَرَك" من الصفات والسمات والخواص بين أنواع الشَّجر التي يَعْرِفون.
الحيوان لا يُدْرِك (وليس في مقدوره أنْ يُدْرِك) هذا "المُشْتَرَك"؛ لأنَّ "التجريد (الفكري)" هو خاصية "الدماغ البشري"، أيْ خاصية الإنسان الذي هو، بالضرورة، عضوٌ في جماعة من جنسه، يعيش بينهم ومعهم، ويعمل بالتعاون مع غيره من أعضائها، ويُعبِّر لهم عن "الأشياء (والأفكار)" بـ "كلمات (منطوقة؛ ثمَّ مكتوبة)"، أيْ بـ "لغة".
وللتدليل على أهمية "القدرة على التجريد (الفكري)" أُجْرِيَت التجربة الآتية:
جيء بقرد، وعلَّمه الإنسان كيف يغرف (بمغرفة) ماء من برميل، ليُطْفئ ناراً.
ولَمَّا تعلَّم القرد، وَضَعوا له موزة، مُشْعلين حولها ناراً (فالموزة هي دافِعٌ قوي لقرد جائع).
وعلى مقربة من حلقة النار وَضَعوا له برميل الماء والمغرفة، فشرع القرد يغرف ماء من البرميل، ليُطْفئ به النار؛ فلمَّا أنجز هذه المهمة فاز بالموزة.
ثمَّ عُدِّلت التجربة؛ فالقرد وُضِعَ مع الموزة، التي حولها نار، ومع برميل الماء والمغرفة، فوق لوح خشب يطفو على سطح بركة.
القرد توجَّه فحسب نحو برميل الماء، وشرع يغرف منه الماء، ليطفئ النار، وصولاً إلى الموزة.
لم يذهب القرد إلى البركة ليغرف من مياهها؛ لأنَّ نشاطه الذِّهني لا يَعْرِف "التجريد"؛ وفي مثالنا هذا، لا يَعْرف القرد "الماء العام"، أيْ "المُشْتَرَك من الصفات والسمات والخواص بين ماء البرميل وماء البركة.
وهذا إنَّما يَدُلُّ على أنَّ "اللغة" و"المنطق" شيئان متلازمان، متَّحِدان اتِّحاداً لا انفصام فيه؛ فلا "لغة" بلا "منطق"، ولا "منطق" بلا "لغة".
الإنسان فحسب (وبصفة كونه كائناً اجتماعياً خَلَقَه "العمل") يستطيع وعي وإدراك الخواص المشترَكة (ومنها خاصية إطفاء النار) بين ماء البرميل والنهر والبئر والبحر..؛ ويستطيع، من ثمَّ، خَلْق "الماء العام"، أيْ "فكرة (أو مفهوم)" الماء.