بيروت تل أبيب القسم الثاني تل أبيب الفصل التاسع2


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5329 - 2016 / 10 / 31 - 15:30
المحور: الادب والفن     

عند هبوط الليل، عاد شالوم إلى المخيم في جيب صغيرة يقودها بنفسه. طلب من كلارا أن تنتظره في العربة، الوقت الذي يذهب فيه للكلام مع المرأة العجوز الغريبة. كان المخيم يغرق في الظلام والهدوء، كما لو كان يغرق في الأبدية، والعدم، والماضي، كما لو كان يغرق في الجحيم. أما شالوم، فكان يبدو معلقًا على هُوَّة الزمن. ما أن دخل البسطة حتى خنقته رائحة الإسمنت المغتسل بالماء التي تنتشر حوله، التي تخترقه. عاد إليه دُوار ذلك اليوم، مع فارق بالغ: كل شيء يدور أمامه لا في رأسه. الكلب الذبيح الذي يئن. ومن فرط ما استنشق رائحة الإسمنت، رأى وجوه الأشباح، وهي تظهر، وأجسادها، وهي تتشكل. رأى الآن أمه، وأخته، وأخويه، وعمته، وابني عمته. رأى نفسه الآن. جاءته المرأة العجوز في نفس الوقت الذي جاءته فيه كل ذكرياته، وشدته بقوة إلى صدرها.
- يَمَّا، تأوه بالعربية.
- عبد السلام، تأوهت، وهي تتعثر مع كل مقطع لفظي.
وأخذ كلاهما يبكي مِدرارًا.
حاولت أن تقول شيئًا، لكنها ثغثغت. سحبته من ذراعه، وأدخلته في التناكية، وهو يردد "يَمَّا، يَمَّا، يَمَّا، يَمَّا...". أجلسته، أشعلت الفرن لتسخن الشاي، وأحضرت الخبز والزعتر والزيت. حاولت التعبير من جديد، بلا جدوى. أعانها عبد السلام، تبعها، حاول أن يقرأ أفكارها. في بداية الأمر، من مات؟ أخته ياسمين؟ عمته بدرية؟ أحد ولديها، إسماعيل، إسحق؟ أخوه سالم؟ أخوه عزة؟ انفجرت باكية، شدت شعرها، لطمت. إذن، فهو عزة العرب. أخوه الأصغر عزة مات. عاد إلى الجلوس، ويداه على رأسه، مضنى. قامت أمه بفعل كل ما تقدر عليه من جهد لتصف كيف مات عزة. الجيش الإسرائيلي؟ قال عبد السلام. من السهل عليه أن يحزر ذلك. أكدت أمه بهزة من رأسها. لكن كيف؟ من جديد، حاولت الإجابة بينما يقترح عبد السلام تأويلاً. ودفعة واحدة، أفلتت أمه جملة كاملة.
- مات تحت التعذيب في المعتقل، تمكنت من القول أخيرًا.
أخذها عبد السلام بين ذراعيه، وكلاهما راح يبكي مِدرارًا.
- كان ينتظرك، تابعت وهي تذرف دموعها. كان يأمل أن تأتي لتحريره، كان يقول لجلاديه إنك فدائي عظيم، إنك تقاتل في بيروت لتكون القدس عاصمتنا، فكانوا يعذبونه أكثر فأكثر. دومًا ما كانت القدس عاصمتنا. كان أخوك الصغير عنيدًا. دومًا ما كانت عربية. القدس الغربية، أخذوها منا في 48. كان أخوك الصغير يناديك، تحت التعذيب. دومًا ما كانت القدس عربية. حتى هيكلهم، الله وحده من يعلم إن كان موجودًا، كان عربيًا. كان لأخيك الصغير أصدقاء مسيحيون يصلون بالعربية. اليونانيون، اليهود، الأحباش، يصلون بلغتهم، لكن أصدقاء عزة يصلون بالعربية. القدس كانت عربية، لكن حرة. كان أخوك الصغير يتوسل جلاديه أن يقتلوه لتكون القدس حرة كالماضي.
بعد قليل، هدأ رُوعُهُما. مسحت أمه دموعها، ومسح دموعه. ابتسمت له:
- يا الله، رحمتك! قالت بصعوبة. أعدت إليّ عبد السلام في الوقت الذي أخذت فيه عزة.
صبت له الشاي، ودهن قطعة خبز كبيرة بالزيت والزعتر.
- سالم يشتغل دومًا في باريس، قالت في هذا المصاب الكبير، كما لو كانت تريد التخفيف منه قليلاً. تزوج من فرنسية ليأتي بأولاد أربيهم، أضافت مبتسمة.
- تزوج، أعرف هذا، قال عبد السلام. نادين، أخت زوجته، كانت معنا في بيروت. وياسمين، أين هي؟ وبدرية؟ وإسماعيل؟ وإسحق؟
- كانت ياسمين في المستشفى، آه، كمان، تابعت، وهي تذرف الدمع. كلما كانت تتظاهر، كان الجنود يطلقون عليها. أوشكوا على قتلها عدة مرات. في المستشفى، كان هناك كثير من الجرحى الذين هم في زهرة العمر، والذين كان الممرضون يُصَفُّونَهُم. بكل سهولة. إبرة، أي واحد يمكنه عملها، فأرسلتها إلى عمان للعلاج. عمتك، بدرية، أقامت هناك. لم تعد تريد الخدمة في البيوت الأخرى. سافرت إلى الأردن. في مخيم جبل الحسين، فتحت مخيطة، صغيرة، ومع ذلك تعمل روائع. كبر ولداها، إسماعيل وإسحق. تحت الاحتلال، لم تكن المدرسة تنفعهما لشيء. الحياة نفسها لم تعد تنفع لشيء. فَضَّلا رمي الجنود بالحجارة أو الموت.
- هل ماتا، هما أيضًا؟ سأل عبد السلام بحمية.
- لحسن الحظ هناك عادلون بين اليهود، أجابت الأم بنبرة مطمئنة. بحث عنهما الجنود في كل مكان، وهما يختبئان الآن عند يهود في إسرائيل. من وقت إلى آخر، يرسلان إليّ نقودًا، بعض الشيكلات. وأنت، لماذا كل لباس التعاسة هذا؟ لا تقل لي إنك أصبحت...
- لا، قاطعها، أنا لا أتعاون مع العدو. فقدت ذاكرتي، وها أنا أرى أنهم أرادوا استخدامي بعمل كولونيل مني.
- والآن وقد عادت إليك ذاكرتك، ماذا تنوي أن تفعل؟
- لازم ما نقول استعدتها، يَمَّا، سامعة؟ لازم أفهم مكيدتهم.
- طبعًا. بالانتظار، تستطيع منع وقوع الأسوأ.
- هذا لأجلك، ولأجل قريتنا صفورية التي أريد إعادة بنائها، قال بصدق تاركًا استخفافه إلى الأبد من ورائه.
- صفورية، همست أمه، مفتتنة. الحُلم!
- أعدك، يَمَّا، بتحقيق هذا الحُلم، يومًا.
- حُلمي!
- أعدك.
- لكن متى؟ سأكون ميتة.
- لن تكوني ميتة.
- سأكون ميتة، عبد، ابني، سيكون عظمي غبارًا. سيكون ذلك لك، لأطفالك، ربما لأطفال أطفالك.
- لكن سيعاد بناء صفورية، ستكون أجمل من السابق.
- ستكون أجمل من السابق، همست حالمة.
- ثم، هناك ساندرا، خطيبتي. ساندرا، أريد الزواج بها، لتربي، كما ستربين أطفال سالم، الأطفال الذين سيكونون لي منها.
- تريد الزواج من يهودية؟
- أحبها، يَمَّا.
- وهي، تحبك كذلك؟
- تحبني كذلك.
- إذن، أباركها إلى أبد الآبدين.
- ساندرا، وليا، أختها الكبرى، من هؤلاء اليهود الذين دعوتِهِم بالعادلين.
- والتي تنتظرك في الخارج؟
- آه! إنها كلارا، نسيتها.
- جميلة في لباسها العسكري.
- كلارا متزوجة ولها ولدان صغيران. ساندرا من أريد الزواج بها.
- ساندرا، اسم جميل، كياسمين.
- انتظَرَتْ كلارا طويلاً، ستفكر في أشياء.
- هل هي بجمال اسمها؟
- هي من؟
- ساندرا.
- نعم. سأقدمها لك يومًا. يجب أن أذهب.
حركة في البسطة، فسارع عبد السلام نحو النافذة، وشادية تهرب ناظرة إلى الوراء عدة مرات.
- هذه شادية. سَمِعَتْ كل شيء، قال وهو يهز رأسه.
- لن تقول شيئًا. غم أهلها كغمنا. أختها الكبرى، شذى، ماتت شهيدة.
- يلزمني إمساكها، أَلَحَّ برأس يدور.
- لم تشرب شايك، لم تأكل خبزتك.
شرب كأس شايه دفعة واحدة، وبلع خبزته بلقمتين، وفجأة أحس بنفسه مصعوقًا بتوعك غير متوقع. لم يعد الدُّوار، ولا الغثيان. اشتعل جسده كالجمر، ولعنف ارتعاشه، سقط على كرسيه.
- ابني، صاحت، وهي تأخذه بين ذراعيها. يا الله، رحمتك!
التهمته حمى شديدة، ارتعد، اصطكت أسنانه، قال من اللازم إبلاغ الليوتنانت كلارا مردوخ، وطفا في حالةِ مَنْ فَقَدَ وعيه نصفًا.

يتبع القسم الثاني الفصل التاسع3