بيروت تل أبيب القسم الثاني تل أبيب الفصل التاسع1


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5328 - 2016 / 10 / 30 - 19:53
المحور: الادب والفن     

خلت الطريق المؤدية إلى مدينة نابلس، مركز الضفة الغربية، من السيارات، أو شبه خلت، وانطلقت عربة الجيب التي يركب فيها شالوم بأقصى سرعة. رافقته امرأة فاتنة في اللباس العسكري، الليوتنانت مردوخ كلارا، المسئولة عن بسيكولوجيا العدو منذ عدة سنوات. لزمت كلارا الصمت، كذلك شالوم. نظر كلاهما حولهما، ولم يريا سوى اليَباب ممتدًا من السهول إلى الجبال، وفي السهول والجبال قوافلٌ توارت، وجيوشٌُ، ومدن. كانت الحرارة لا تطاق، فتنفس الكولونيل الصُّعَداء، وقال لنفسه: إذن هذه هي "الأراضي"، إذن هذه هي أرض الميعاد: حجارة، رمل، وهضاب جرداء. في الواقع، يوجد القسم الأخضر من فلسطين في إسرائيل. هنا، لا غير سوى الشمس، شمس شديدة، جهنم تحرق كل شيء.
على أبواب نابلس، فتحت مدام الليوتنانت مردوخ فمها الجميل، لأول مرة منذ تركهم تل أبيب.
- أريد أن أريك شيئًا ذا دلالة كبيرة من وجهة نظر بسيكولوجية، لو أردت، كولونيلي، قالت، وهي تشير بإصبعها إلى بؤرة استيطانية محاطة بالأسلاك الشائكة، ترقد على تل من الحجارة والرمل.
نقطة استراتيجية احتلها أناس آتون من زمن آخر للسيطرة على القرويين، لمحاصرتهم، وجعل حياتهم أسوأ من الحياة في الجحيم. مستوطنون كهؤلاء، لم يكن هناك أكثر من مائة، ولم تكن إلا البداية. مما يساهم في محو الخط الأخضر، وكل هوية فلسطينية.
- أرجوكِ، ليوتنانت، أجاب شالوم متابعًا بنظره الظِّفر المُمَنْكَر على أكمل وجه.
- اصعدْ! أمرت السائق. اذهبْ إلى حيث اعتدنا الذهاب.
أخذ السائق أول منعطف، وبدأ صعوده. بعد عدة دقائق، توقف خلف صخرة كبيرة، وفتحوا كلهم عيونهم، حتى شالوم، دون أن يعلم ما يتعلق بِمَ. نظرت الليوتنانت مردوخ إلى ساعتها.
- إنه الموعد المحدد، كولونيلي، قالت.
نزل من البؤرة الاستيطانية ملتحٍ في الأربعين، في رداء أسود، وقَلَنْسَوة على الرأس، التوراة بيد، والمسدس بيد. تدحرج عشرة أمتار أو خمسة عشر، ثم ركع على الحجارة. تناول أحدها، فتح كتابه المقدس، وأخذ يتلو بصوت عال. من الناحية الأخرى للتل، كان أحدهم يتلو آيات قرآنية: عربي شيخ ذو وجه متجعد. اختلط الصوتان، فلم يعد شالوم يميز بين العبرية والعربية. مضت بضع دقائق لما أخذ المستوطن فجأة يضرب بالحجر جبينه مرددًا: "أرض ميعادي! أرض ميعادي! أرض ميعادي! أرض ميعادي!" والعربي من الناحية الثانية يعمل بقدر ما يعمل.
- شيخ، لماذا تفعل هذا؟ سأله شالوم.
- لماذا أفعل هذا؟ سأل العربي بدوره.
- نعم، لماذا تضرب بالحجر جبينك؟
- كل العساكر يطرحون عليّ نفس السؤال.
- لسنا كلنا علماء، إذا أردت أن تعرف.
- هذا، أعرف.
- إذن قل لي لماذا.
- لماذا أضرب بالحجر جبيني؟
- هو، نحن نعرف لماذا. لكن أنت!
- لأريه أنني أحب هذه الأرض بقدر ما يحبها.
- لكنه جنون!
- هو، الغريب، يضرب جبينه لحب هذه الأرض، وأنا، ابن هذه الأرض، تريدني أن أراه، وأن أبقى مكتوف اليدين؟
"أرض ميعادي! أرض ميعادي! أرض ميعادي! أرض ميعادي..." واصل الآخر، وهو يضرب بالحجر جبينه.
- هيا اذهب... افعل ما تريد، قال شالوم للعجوز العربي.
وطرده.
وهم يعودون إلى أخذ الطريق إلى نابلس، انفرجت الشفتان اللحيمتان لليوتنانت مردوخ.
- المغزى كبير، من وجهة نظر بسيكولوجية، قالت. هم يحبون هذه الأرض، يدللونها، يموتون من أجلها، مثلنا، هذا واقع. فما العمل؟
- أعرف أن المهمة التي بانتظاري صعبة جدًا، همهم شالوم.
بدت حواجز الجيش الأولى، وللحيلولة دون أية تجاوزات بسبب حرب إسرائيل في لبنان، ضُرِبَ الحصار على "الأراضي"، وتم عزل الضفة الغربية عن العالم. انتظر شالوم، وهو يخترق مدينة نابلس، أن يجد نفسه أمام غليان شعبي. لأن السياسة الاستيطانية نجحت في إخضاع اقتصاد "الأراضي" لشهوات الرأسماليين العبريين، فالتجارة تتوقف تمام التوقف على مشيئتهم، مثلما يتوقف العمل على مشيئة الجيش، عن طريق الجنرالات الذين يتمنون "إنعاش" هذا الجزء من العالم. هكذا يجبرون السكان على العمل كعملاء سريين، كمخبرين، أو كعمال على القطعة في "الفروع" الصناعية التي يمتلكونها: قناني كوكا كولا، قناني زيت، قناني خل، علب ملح، علب سكر، علب سردين، علب بندورة، مرتبانات مربى، أكياس قهوة، ألواح شوكلاطة، أقراص أسبرين... كل شيء على القطعة، كل شيء إطلاقًا. نَعُدُّ القطع التي تنتجها، وندفع لك. عشر ساعات عمل، خمس عشرة، أربع وعشرون ساعة، هذا شغلك. نَعُدُّ القطع، وندفع لك. أقل ما يمكن، لكن ندفع لك. الفائض نصدره إلى إسرائيل. هكذا، هؤلاء الجنرالات الأبالسة يعملون على انتفاع الوطن-الأم ببضائع ممتازة، ليست غالية جدًا، وبتفاديه استيراد الإرهاب. لكن في وقت الحصار، تتوقف كل هذه الصناعة المزدهرة للاستهلاك من نفسها، بلا انتظار أمر الحاكم. تتوقف وحدها، كما لو كان ذلك يأتي وحده، فيرتفع التوتر، لا يرتقي درجة، وإنما درجات، عشرات الدرجات، إن لم يكن مئاتها، مراعاةً لِخَطَر النقص الغذائي. لكن لا شيء من هذا... نفس البضاعة المنتجة هنا بسعر زهيد ستستورد من إسرائيل بسعر يتحدى كل نظرية، ثمن فاحش، ومع ذلك يفحشه (يدفعه) الناس، بفضل بيع الدم. يبيع الناس دمهم في نقاط جمع الدم التي أنشئت هنا وهناك، يقبضون قليلاً، ويبيعون كثيرًا، وكل يوم لو يلزم. ليفحشوا ما لا يُفحش، وليستطيعوا قضاء حاجاتهم. كانت فكرة عبقرية بشكل من الأشكال، "دماء بلا حدود"، سَتُبدي إسرائيل للعالم أجمع، بضربها الحصار بعد الحصار على مدن الأراضي، أنها لا تجوع الناس، بل على العكس، تحشوهم، في الوقت الذي تجعلهم فيه وديعين كالحملان.
في مخيم عين بيت الماء، يجري بيع الدم الفلسطيني بشكل منظم جدًا. لاحظ شالوم الصف الطويل أمام الخيمة البيضاء الكبيرة المكتوب عليها: "بيعوا قليلاً منكم لخير الإنسانية". ابتهجت الليوتنانت كلارا من النظام السائد، خاصية نادرة عند محتل، من وجهة نظر بسيكولوجية. أخيرًا استطاع شالوم النظر، على هينته، إلى هؤلاء الفلسطينيين. في قطاع غزة، لم يمكنه النظر إليهم كالآن. نظر إليهم، إلى وجوههم الخالية من الجراح، وإلى عيونهم الخالية من الضغناء: ملعونو العصر السعداء هؤلاء، المطرودون من الجنة التي لا يتفضلون حتى بالنظر إليها. كانوا يُبْدون صبرًا وإذعانًا مثاليين. تذكر توسلات ساندرا، "عِدْني، ميمو!" و "قل لي نعم!" وقال لنفسة إن ساندرا تعيش، في نهاية الأمر، بعيدًا عن الحقيقة. لم تكن هناك حرب لخوضها، لم يكن هناك عظم لكسره، لم يكن هناك دم لإراقته، يُرِيق الناس دمهم بأنفسهم.
- عندما أفكر... قال شالوم لليوتنانت مردوخ، أنني هنا لأتعارك مع كل هؤلاء الناس.
- هذا بفضل "دماء بلا حدود" من وجهة نظر بسيكولوجية، كولونيلي، قالت كلارا، وهي تعض شفتيها اللبابيتين.
- نعم، همهم شالوم، وهو يدير رأسه إلى الناحية الأخرى، لأن أسنان كلارا البيضاء التي تعضعض شفتيها المشتهاتين تثيره، وتمده برغبة في عضعضتهما بدوره.
وقع على وجه متجعد لامرأة عجوز تنظر إليه بين كل تلك الوجوه، فانزعج من تلك النظرة العميقة المتسائلة. أدار رأسه، وعاد يقع على شفتي كلارا التي تمر بلسانها فوقهما.
- ليوتنانت مردوخ، وجد الكولونيل القول، ما هو كَحُمره للشفاه؟
- كريستيان ديور، كولونيلي، أجابت الليوتنانت مردوخ بلا تأنٍ.
- أعني... كطعم؟
- كرز، أجابت الليوتنانت مردوخ من جديد، وهي تلاحظ التهيج الذي تثيره لدى قائدها. هل تريد أن تذوقه، كولونيلي؟
وأطلقت ضحكة مستفزة.
- لا، شكرًا، أجاب شالوم قائلاً لنفسه إنها آثرت الصمت طوال كل المسافة تل أبيب-نابلس، وها هي الآن تُبدي انحرافها. تلك المرأة، هناك، هل تعرفينها؟
- أية امرأة، كولونيلي؟
- العجوز التي هناك.
- العجوز التي هناك، أين؟
- العجوز، العجوز...
- معظمهن عجائز تقريبًا!
- العجوز التي هناك، التي لا تتوقف عن النظر إليّ.
- آه! العجوز التي هناك، قالت الليوتنانت أخيرًا.
- هل تعرفينها؟
- لا، كولونيلي.
- لماذا أيها الشيطان تنظر إليّ هكذا؟
- ربما وقعت في غرامك، من وجهة نظر بسيكولوجية، رمت كلارا لتناكده.
- أرجوكِ، ليوتنانت مردوخ، ليس الوقت للمزاح.
- اعذرني، كولونيلي، لم أشأ...
- كفى، كلارا، نرفز شالوم. تلعبين الحَصْناء منذ تل أبيب، والآن تفعلين كل شيء لتدغدغي لي بيضاتي، مِ-ن وُ-ج-ه-ة نَ-ظ-ر ب-س-ي-ك-و-ل-و-ج-ي-ة!
- لم أشأ أن أدغدغ بيضاتك، كولونيلي، أؤكد لك، تلعثمت كلارا. إنه هذا الجو غير المعتاد، هذا البيع الخارق للعادة، هذا التفهم اللا منتظر من طرف هؤلاء الناس، كل هذا يشهد على تعايش متناغم على أكمل وجه، هذا كل ما هنالك. صحيح إنْ عاملنا الأسد باحترام، بتفهم، وبحب، بكثير من الحب، حصلنا على احترام، تفهم، وحب. البشر حيوانات والحيوانات بشر. ونحن، أطباء النفس، بمعرفتنا النفس البشرية من وُجهة نظر بسيكولوجية، نتحرر من كل إكراه. نحن كما نحن عليه في حياتنا الخاصة الأكثر خصوصية، من وُجهة نظر بسيكولوجية.
- ليس هذا سببًا لإيقاعي في فخك، ليوتنانت.
- أؤكد لك، كولونيلي، لم يكن هذا قصدي، من وجهة نظر بسيكولوجية.
- كفى، توقفي عن قول من وجهة نظر بسيكولوجية، مِ-ن وُ-ج-ه-ة نَ-ظ-ر ب-س-ي-ك-و-ل-و-ج-ي-ة، قال مقلدها، هيا اسألي هذه المرأة لماذا تنظر إليّ هكذا.
- حالاً، كولونيلي.
تكلمت كلارا مع المرأة التي أدارت رأسها، ولم تجب. عادت الليوتنانت.
- لم تُرِد الإجابة، كولونيلي، قالت كلارا، متضايقة قليلاً.
- ربما هي خرساء.
- ربما. لكن من وجهة...
- ليوتنانت كلارا!
- من وجهة نظر...
- ليوتنانت كلارا!
- أوقفت، كولونيلي.
قبل الدخول في الخيمة، شخصت المرأة العجوز ببصرها إلى شالوم، وتنهدت عميقًا. تبعها الكولونيل، فَعَلا صوت الممرض.
- أنتِ، لا، زَعَقَ، أفرغتِ دمك مرة هذا الصباح، كفى. عودي غدًا.
العجوز خرساء فعلاً. ألحت بحركة حادة من رأسها، فزعق الممرض "لا!" من جديد، ونادى جنديًا.
- افعل ما تطلب السيدة، تدخل شالوم.
- لكن، كولونيلي، رد الممرض، بيع دم مرتين في اليوم، هذا خطر. إنها تجازف بحياتها.
- أفترض أن هذه السيدة في حاجة إلى نقود، قال شالوم وهو يراها تهز رأسها بقوة علامة الموافقة.
نطقت ببضع كلامات مفرومة، مكسرة، غير مفهومة.
- افعل ما تطلب، أمر شالوم.
- تحت أمرك، كولونيلي، همهم الممرض.
ابتسمت المرأة العجوز لشالوم ابتسامة غريبة، واتجهت إلى كرسي أبيض، دون أن تفارقه بعينيها، فابتعد مغادرًا المكان بعجلة.
في الزقاق الضيق لمخيم عين بيت الماء، نادته الليوتنانت كلارا مردوخ.
- خاصة لا تغامر وحدك، كولونيلي، أنذرته. اهرب من نظرة هذه المرأة العجوز، لكن لا تذهب على العميان.
- أولاً، أنا لا أهرب من نظرة هذه المرأة العجوز، كَذَبَ. ثانيًا، فيما نحن عليه من وضع، لا شيء يهددنا. انظري إليهم، حتى العصافير لا تهرب عند عبورنا.
- بدافع الحذر، من وجهة نظر بسيكو... بدافع الحذر، كولونيلي.
- نعم.
- بدافع الحذر.
- قلت نعم، أيها الشيطان!
ابتعدا في الزقاق الطويل: بيوت تنك، لكن بدون مجارٍ تصب كنوزها، بدون براز، بدون طين. مخيم أكثر متانة بقليل من مخيم دولشه فيتا. مع ذلك، أشارت الليوتنانت مردوخ إلى بعض الجرذان. عَزَت وجودها إلى جودة الحياة التي يعيشها السكان. "يأكلون جيدًا"، قالت. معظم سكان الأراضي ينامون دون أكل: تطويق، حصار، عقابات جماعية، عقابات أنا ضدها، شخصيًا. تخضع الأراضي لنا كليًا، اقتصاديًا وبسيكولوجيًا. حتى بدون تطويق، بدون حصار، الناس لا تأكل في المساء. هنا، في المخيم، يأكلون جيدًا، بفضل الفكرة العبقرية "دماء بلا حدود". ليست عبقرية-عبقرية، لكن مَشِّينا. وعلى عكس ما نفكر، توجد الفئران حيث يعيش الناس في بحبوحة، حيث وفرة الطعام لا القذارة. هذا جزء من البسيكولوجيا الغذائية".
- البرهان على ذلك، كولونيلي، تابعت كلارا، عين بيت الماء تعني "نبع المخرأة".
أدار شالوم بوجهه إليها، وهو يواصل السير، ونظر إلى مظهرها الجانبي: انفرجت شفتاها اللحيمتان وانغلقتا كدعوة للتقبيل، إلا أنه حدق في ذقنها، الصغيرة والناعمة، التي تتبع حركة الشفتين دونما توقف.
- من المحتمل أن يكون هذا الاسم مرتبطًا بالنبع الذي كان موجودًا هنا، والذي من حوله أُقيم المخيم، لكن من وجهة نظر بسيكولوجية –لا بد لي من القول- نبع ا-ل-م-خ-ر-أ-ة، هو الشخاخ، الخراء، وليس هناك خراء دون وفرة الغذاء.
الآن، حَطَّ شالوم بنظره على نهديها الكريمين. كانا يتبعان الإيقاع ذاته لذقنها، وكل حركة جسدها كانت مضبوطة على إيقاع الكلمات التي تلفظها. حتى مشيتها تتبع الإيقاع. كانت كلارا قافلة جنس وجمال.
- إذن، كنت أقول، كولونيلي...
- مردوخ، هل هو زوجك؟
- عذرًا، كولونيلي؟
- مردوخ؟
- إنه اسمي فتاة.
- أخمن بالتالي أنك لست متزوجة.
- بلى. بلى، بلى. أنا متزوجة، وعندي ولدان صغيران. زوجي من يربيهما. نعم، هو قاعد في البيت. ليس هذا عارًا، في وقتنا، خاصة عندما اختارت الماما أن تكون في البيت الكبير للصيادين، يعني مجندة 24 ساعة على 24 ساعة، ومرتبها أكبر من كبير. لكن...
- ماذا؟
- هذا لتنام معي، كولونيلي؟
- آه لا، لا لا، لا لا لا لا.
- أنا لا أقول لا، كولونيلي.
- ماذا!
- لكن هذا لم يزل مبكرًا، من وجهة نظر بسيكو...
- ...لوجية. هذا، أعرفه. وهذا ألماني، مردوخ؟
- هذا إنجليزي. زد على ذلك، زوجي إنجليزي، هو "بريتيش" مية بالمية.
- هو ليس يهودي؟
- لحسن الحظ لا.
- ولماذا هذا، لحسن الحظ؟
- أنت تعرف جيدًا، كولونيلي.
- هو ليس ذكوريًا، هذا هو؟ ليس أنا كذلك، أنا لست ذكوريًا.
- إذن، أنت لست يهودي، كولونيلي.
- بلى. بلى، بلى. بلى، بلى، بلى. أليس بائنًا.
- من وجهة نظر بسيكو...
- ...لوجية...
- ...لا، كولونيلي.
مرت المرأة العجوز أمامهما، ورمت شالوم بنفس النظرة الغامضة والعميقة، المليئة بالتساؤل.
- انتظريني هنا، كلارا، قال شالوم لليوتنانت مردوخ، أنا راجع حالاً.
- أنا أرفض، كولونيل شالوم، عارضت كلارا. يجب عليّ أن أرافقك.
- إذن ماذا تنتظرين؟
أخذها من يدها، وسارع إلى تعقب المرأة العجوز التي كانت، من حين إلى آخر، تلتفت إلى الوراء، بنفس النظرة دائمًا. مع الاقتراب من كوخها الحقير، سُمِعَت تراتيلٌ جسيمة لرجال يجلسون على العتبة، ومن البسطة، ندبٌ حاد لنساء يدورون بتابوت، ليس بعيدًا من خُمّ. على مرأى المرأة العجوز، رفع شيوخ ثلاثة أصواتهم: "أنت ملاك في السماء، يا شهيد! أنت طائر في الجنة!"...
- من الأفضل أن نفرنقع في الحال، كولونيلي، همست كلارا في أذن شالوم.
- نعم، عندك حق، همس شالوم في أذن كلارا.
- هيا بنا.
دون أن تتوقف المرأة العجوز عن النظر إلى الرجل الذي في لباسه العسكري، أعطت الشيوخ نقودًا، والندابات، وأشخاصًا آخرين. حملوا التابوت، وذهبوا كلهم. كانت شادية بين الحاضرين، بشعرها الأسود، شعرها الحقيقي الأسود، ووجهها الأسمر، حيث اختفت كل ابتسامة. عَكَسَ شعرها حزنًا مفعمًا بالكره. لم يتحرك شالوم، كذلك كلارا. ألقت المرأة العجوز نظرتها الداكنة للمرة الأخيرة، وأغلقت الباب.

يتبع القسم الثاني الفصل التاسع2