قراءة متمعنة في كتابات ياسين الحافظ


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 5327 - 2016 / 10 / 29 - 10:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

قراءة متمعنة في كتابات ياسين الحافظ
تكمن مشروعية التفكير فيما كتب ياسين الحافظ من كون فكره راهن ومعاصر لنا من جهة، وقابل لأن يكون أحد مكوّنات الفكر القومي الديمقراطي العربي في المستقبل من جهة ثانية . فهو يدعونا إلى الارتفاع من مستوى المشاعر القومية العربية إلى بناء الأمة، بما ينطوي عليه ذلك من أساس ديمقراطي لهذا البناء .
لقد أمسك الحافظ بمفهوم التأخر التاريخي للمجتمع العربي، الذي يتجلى سياسيا بغياب الرأي العام وبكونه صاغرا وعزوفا، ويتجلى اقتصاديا بكون الاقتصاد العربي مندلقا نحو الخارج وتابعا، ويتجلى اجتماعيا بسيطرة بنى اجتماعية ما قبل قومية ( طائفية، عشائرية، عائلية، محلية...)، ويتجلى فكريا بسيطرة فكر تقليدي تمتد جذوره إلى العصر الوسيط . لذلك فهو ينتقل من نقد " السطح السياسي " إلى نقد " العمق الاجتماعي " الذي يصوغ الحيّز السياسي ويفرزه .
كما كانت تجربة الحافظ الفكرية والسياسية استمرارا لأرقى التقاليد الوطنية والقومية الراديكالية لأبرز المفكرين اليساريين السوريين (خاصة سليم خيّاطة ورئيف خوري) وتتويجا لها، بعد أن قام بأكبر عملية نقدية مع أشكال الوعي التحرري العربي الحديث، بتياراته الثلاثـة : الليبرالية والقومية والماركسية، من خلال أداته النظرية الناجعة " الوعي المطابق " التي عنت إنتاج وعي عقلاني بالواقع العربي، ومن ثم إنتاج وعي مناسب بحاجات هذا الواقع للتقدم .
ولهذا كان الحافظ رجلا مرفوضا " لأنه كلما لامس تجربة لغمها بأسئلة عقله الطليق، ولأنّ ساحة السياسة كانت تجربة قدر الرجل، فكانت مأساته في مجتمع لا يعرف من تقاليد السياسة سوى السلطة، سلطة الدولة، الحاكم والزعيم والقائد، ولا تملك مفردة السياسة في بنيته اللاشعورية سوى دلالة فعل (ساسَ) الذي يصح للبشر والبهائم لغويا (ساسَ القوم، وساسَ الحصان)، بعد اختزال المجتمع وألوانه في صورة الرعية " (1) .
والحق أنّ خطاب الحافظ قد اكتسب أقصى نضجه وطلاقة تفكيره في السبعينات، بعد أن أكملت التجربة الناصرية دورتها على نفسها، وآلت إلى مصيرها المعروف بعد وفاة جمال عبد الناصر من جهة . وبعد تجربته في باريس التي عمّقت لديه الوعي بمسألة التأخر، والوعي بأهمية النهضة من جهة ثانية . فراح ينتقد السياسة، بوصفها تكثيفا للبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية . ولو أنه بدأ - بالممارسة - يستخدم أداته النظرية " الوعي المطابق " منذ أواخر الخمسينات ، ففي سنة 1958 كتب عدة مقالات تحت عنوان " خصائص الحركة القومية العربية " ، حيث بدأ تحليله لهذه الخصائص من خلال تناولها في المستوى الكوني، انطلاقا من " أنّ الإنسانية تسير في خط تطوري صاعد ومتوازٍ " ، وفي المستوى التاريخـي " إنّ مجرى تطور الأمم ليست متماثلة " .
لقد أنتج الحافظ خطابا نابضا بالحياة مُشْبَعاً بالدلالات السوسيولوجية والثقافية والسياسية والنظرية، فمنح الخطاب السياسي العربي بعدا نهضويا ذا طابع شامل . وبذلك، حرّر الخطاب القومي من البلاغية المترهلة، وأنقذ الماركسية العربية من ضيق العبارة والأفق وتكلّس الصيغ، حين استعاد روحها النقدية، بوصفها سؤالا مُشرَعاً ضد الثبات والسكون والامتثال والعقائدية المنغلقة على نفسها . فمع ياسين الحافظ اكتسب الخطاب العربي مفهوما يتجاوز التبسيطات اليمينية واليسارية حول المسألة القومية، يتجاوز المفهوم اليميني الذي يقوم بعملية تدليس بين الوعي القومي الحديث والوعي التقليدي المفوَّت، والذي أنتج مفهوما فيزيقيا عــن " الروح الأزلي الخالد "، والذي بدوره غدا أيديولوجيا للتمايز ومعاداة الآخر. ويتجاوز المفهوم الامتثالي الاقتصادوي الذي يغيّب الخصوصية التاريخية لأشكال الانتقال إلى القومية الحديثة . ومن خلال نقده المزدوج هذا، قدم وعيا جديدا بالمسألة القومية، بوصفها عملية تاريخية تخترق الفرد والمجتمع والثقافة، وليست تجميعا كميا لوحدات مُجزّأة .
وعلى أساس هذا الوعي فـ " القومية هي الحركة التاريخية التي ترفع سديما بشريا إلى كتلة متجانسة، متلاحمة، مندمجة، تستحق اسم الأمة " (2) . ولعل مصدر إشعاع خطاب الحافظ أنه لم يقارب السياسة والمجتمع في العالم العربي إلا من خلال إشكاليته المركزيـــة " التأخر" وبالتالي وعي " النهضة في وجه التأخر" . وفي هذا السياق انتقد الأيديولوجيا المهزومة " التقليدوية الجديدة " التي توهمت إمكانية دخول العصر بتجنب الثورة القومية الديمقراطية " المنظورالنهضوي " والقفز إلى تبنّي " المنظور التنموي "، فقال : " ما من شعب حقق تقدما اقتصاديا دون أن يكون قد حقق تقدما مجتمعيا وثقافيا وسياسيا " .
لقد كان الحافظ رائدا في التقاط عوامل هزيمة المشروع القومي العربي، حين استعاد الإشكالية المركزية للنهضة عبر سؤال " التأخر" ، باعتباره ليس تخلفا اقتصاديا يمكن تجاوزه عبر التنمية، وليس مسألة فقدان أصالة الذات التاريخية التي زُلْزِلَتْ موضوعيا أمام التوسع الكولونيالي، بل المسألة تكمن في التأخر كفوات حضاري يشمل كل بنى المجتمع العربي . وبسبب هذه الريادة، التي لم تكن مقصورة عليه وحده بالتأكيد، سوف نتوسع في تناول توصيفاته ومقولاته وتحليلاته : نقد التيار الماركسي (الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي) وتعريب الماركسية، أولوية الفكري والسياسي، توصيف المجتمع العربي، التأخّر العربي ، الفوات التاريخي ، الوعي المطابق (التاريخية، الكونية، الحداثة)، الاشتراكية والمنظور التنموي، نقد الحركة الناصرية، الأيديولوجيا المهزومة، نقد التيار القومي، الأُمَّويّة والقومية، التجزئة والوحدة، الدولة الحديثة، العلمانية، الديمقراطية .
I- نقده الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي ودعوته إلى " تعريب " الماركسية
ميّز ياسين الحافظ بين الأيديولوجيا والمعرفة العلمية حين أدخل أفكار المفكر الفرنسي ألتوسير (Althusser) المجال التداولي للفكر العربي، الأمر الذي ساهم في منح خطابه تفردا وخصوصية منهجية علمية متماسكة، فضحت مدى امتلاء الوعي الماركسي العربي السائد بأوهام الأيديولوجيا . وقد قدم لوحة أولية تقريبية عن سمات وخصائص كل من النظرتين الأيديولوجية والمادية التحليلية (3) :

النظرة الدوغمائية والأيديولوجية الفكر المادي التحليلي- التركيبي
- الواقع مؤلف من لونين : أبيض وأسـود . - الواقع مؤلف من ألوان لا حصر لها .
- الفطرة . - العقل .
- انفصال بين الباطن والظاهر . - لا انفصال بين الباطن والظاهر .
- الواقع معطى نهائي . - الواقع معطى متطور .
- الحَدْسُ، التقريب، العموميات . - التحليل، التركيب، التحديد، التفاصيل .
- تسندها رؤية " شلاّفة "، " مُشَبِّرة "، أي لا تندرج ضمن أي ناظم أو منهج . - يستند على منهج مدقَّق .
- تنطلق من المثال، الرغبة، الشعور، المعتقد . - ينطلق من الحقيقة الواقعية .
- تخمين الواقع مرة واحدة ونهائيا . - اكتشاف تدريجي للواقع وجهد مستمر للمطابقة .
- تقريرية . - تحليلية .

وقد أدت المقابلة بين المنهجين إلى أن يكتشف الحافظ السمات الأساسية للسياسات الصائبة تجاه قضايا المسألة القومية العربية، فحددها بثلاث : الأمّويّة / القومية، وبناء الديمقراطية ، والوعي المطابق بمستوياته الثلاثة ( وعي كوني، وعي حديث ، وعي تاريخي) . ومن الواضح أنه التزم المنهج الماركسي في التحليل ، إلا أنه دعا إلى استخلاص تركيبة ماركسية عربية ، بدونها " ستبقى الماركسية شيئا برّانيا بالنسبة للعرب لا يتغلغل في ثنايا الذهن العربـي " . ومن ثم دعا إلى ضرورة صياغة أبحاث ماركسية ملموسة عن الواقع العربي، بما يكفل " تحوّل الماركسية في المجتمع العربي من شيء برّاني إلى شيء جوّانــي " ، أي " من الماركسية إلى الماركسية العربية ، الأمر الذي يعطي هذه النهاجية كل فعاليتها في تحديث الفكر العربي ثم الأيديولوجيا العربية ، بوصفه أحد الأهداف الأكثر أهمية للثورة العربية " (4) .
ومن المنظور الماركسي الديمقراطي أدان الشيوعية العربية التي خاضت معركة الماركسية السوفياتية ـ الستالينية ضد الليبيرالية ، دون أن تستوعب أنّ نقد الليبيرالية من موقع متخلف عنها، من موقع المجتمع الذي لم يحقق منجزاتها، لن يكون نقدا اشتراكيا بــل " تأخراكيًا "، وتلك سمة ميزت خطابه الماركسي العربي عن الخطاب الماركسي التقليدي . خاصة وأنّ هذا الخطاب، بعد الحرب العالمية الثانية والانتصار العظيم للاتحاد السوفياتي على النازية، هاله هذا الانتصار ودفعه إلى مزيد من التأقلم مع الخطاب الستاليني، إن لم نقل " أصبح أكثر إذعانا وتماهيا مع خطاب المركز الذي كان يخوض معركة الستالينية ضد الديمقراطية الغربية البورجوازية واشتقاقاتها ومعادلاتها الليبيرالية، وإذا كانت الستالينية ذات مصلحة في حربها الأيديولوجية ضد الديمقراطية بصيغتها البورجوازية والاشتراكية لأنها تخدم وثنيتها السلطوية البيروقراطية، ولكن أين هي مصلحة الأحزاب الشيوعية في البلدان المتخلفة ذات الأيديولوجيا القروسطية ، الغارقة في سحر الرؤية المُعجبة بعالم لا يزال مكبّلاً بهالة الذاكرة الجماعية .
إنّ بلدان ما قبل الرأسمالية، بل بلدان ما قبل الدولة، المأهولة بسحر أوهام مَيْثِيَّة رفيعة، لم تكن حربها ضد الديمقراطية إلا حربا مجانية عبثية، ليست لها أية علاقة بالوعي التاريخي الماركسي الذي هو نتاج موضوعي لمجتمع العقلانية والديمقراطية والحداثة " (5) .
كما وجّه الحافظ نقدا للحركة الشيوعية العربية لأنها وضعت هدف " الوحدة العربية " على الرفِّ حينا وناوأتها حينا آخر، فأحزاب هذه الحركة استلهمت نظرية ستالين عن نشوء القوميات والأمم، والتي قد تصحُّ على تاريخ نشوء الأمم والقوميات الأوروبية، من خلال التعويل على أولوية السوق الوطنية الواحدة والاقتصاد المشترك، لكنها لا تصحُّ على تاريخ الأمم الأخرى ما قبل الرأسمالية . وعلى هذا فالقومية العربية لم تُولَدْ في السوق البورجوازيـة ، بل ولدت في " غمار الكفاح المشترك ضد الاستعمار" .
وأخذ الحافظ على الشيوعية العربية، التي كان من المفترض أن تمتلك وعيا كونيا يمثل الخلاصة الأرقى لتطور العقلانية ، أنها كانت في السياق العربي " امتثالية ووثوقية "، لم تنقد الخصوصية التاريخية لواقعها، لتتمكن من التمفصل في إشكالاته المركزية، ولتنتج وعيا خلاقا لهذه الخصوصية ، من أجل نقدها ومن ثم تجاوزها . ولهذا عجزت عن إنتاج ماركسية مبدعة خلاقة، ملتصقة بزمنها وتاريخها، مثلما فعلت الأنتلجنسيا الفيتنامية والصينية . بل حكمتها تجاه مسألة الوحدة العربية امتثاليتها الدوغمائية نحو النصوص الستالينية من جهة ، وواقع تكوينها الأقلوي من جهة أخرى، فأنتجت مفاهيم تحولت إلى سياج فكري في يد أعداء الوحدة ، لتبرير استمرارية التجزئة، تحت ستار وجود شعب متميز ، تحتويه النظريات العلمية وتعترف بكيانه الإقليمي (6) .
وفي محاولة منه لتحليل أسباب عزلة الأحزاب الشيوعية العربية وجد أنها " غير نقديـة " و" سياسوية " غفلت تماما عن المسألة المركزية في الواقع العربي : التأخر ، وإسقاط واقعة التأخر سيقود ضروريا إلى تشويه الديمقراطية، ومن ثم اختزالها إلى " إصلاح زراعي" لم يفعل في التجربة العربية ما ينبغي أن يفعله من حيث تحرير الفلاحين من قيم وقيود المجتمع التقليدي القاهرة، مما أدى إلى أن يقف هذا الإصلاح عند حدود " كولكة الريف " ، لذلك نعتها بـ " الماركسية المتأخرة " .
وانطلاقا من ذلك تساءل الحافظ : لماذا أسقطت الماركسية العربية المؤسسية مقولة التأخر، ولماذا كرّست المنظومات التنموية ؟ (7) :
(أ) ـ لأنها " كررت ببغائيا مقولات الماركسية السوفياتية " ، التي تجهل بالطبع المشكلات العيانية العربية من جهة، ومن جهة أخرى لأنّ الماركسية السوفياتية فرضت عليها إشكاليات وهموما لا تمت بصلة إلى الواقع العربي ، إضافة إلى الفهم السطحي للمنظـــور " التصنيعوي " السوفياتي الذي أسهم في دفعها لإسقاط واقعة التأخر العربي وتبنّي منظورات تنموية .
(ب) ـ لأنها أسقطت البعد التاريخي للواقع العربي، مما جعلها تضع جانبا مقــــولات " الاستبداد الشرقي " الماركسية ، هذه المقولات التي تقدم أدوات وعي مناسب بجوانب الضعف والقصور ، المكوَّنة عبر التاريخ في المجتمع العربي، وتدفع بالتالي إلى التأكيد على المكانة المركزية التي للثورة القومية الديمقراطية في تقدم المجتمع العربي .
(ج) ـ لأنها " اقتصادوية " ، وهذا ما جعلها تنكر الأبعاد المجتمعية والأيديولوجية والسياسية التي للتأخر العربي ، فعجزت عن التقاط تأثيراتها السلبية، بل الكابحة، على محاولات التنمية التي شهدها العالم العربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية .
لقد وجد الحافظ أنّ قصور وتأخر الشيوعية العربية يكمن في أنها لم تتمكن من تجاوز إشكالية المثقف التقليدي والحديث، فكانت تفتقر إلى الحصافة والجذرية في رؤيتها ومواجهتها للواقع التقليدي العربي ، كما أنها افتقرت إلى الجذرية في موقفها من الهيمنة الامبريالية ، وبذلك لم تكن أقل عجزا من النموذجين الآخرين (المغترب عن المجتمع، والمغترب عن العصر)، لأنها لم تتمكن من " تعريب " الماركسية ، كما " فتنمها " الفيتناميون، و" صيّنها " الصينيون، فكانت في أيديهم سلاح انعتاق من أسر التأخر، وسلاح تحرر راديكالي من الاستعمار.
ولم يكتفِ الحافظ بتوجيه النقد إلى الشيوعية العربية، بل أبدى طموحه إلى امتلاك الماركسية امتلاكا وطنيا ، وقوميا ، وتاريخيا، وكونيا ، فكانت ترسيمته النظرية عن " الوعي المطابق " ، أي المطابق للواقع والمناسب للهدف المرسوم . لذلك اعتبر الماركسية هي الفكر الغربي الوحيد الذي يمكن للمثقف الوطني في " العالم الثالث " أن ينتظم في منهجيته النظرية والمعرفية، دون أن توضع هويته الوطنية أمام سؤال (الأنا والآخر) نظرا لما مثلته الماركسية من فكر نقدي انشقاقي على تراث الرأسمالية وأطماعها التوسعية . أي أنها الفكر الغربي الذي يتيح لمثقف البلدان المتأخرة أن يكون وطنيا بحق، بالدرجة ذاتها الذي يكون فيها كونيا، أي عقلانيا وديمقراطيا، إنسانا يعيش ليس بجسده فقط في حاضر العصر ، بل يعيش بعقله مستقبله أيضا، بدون استسلام أو إلحاق واستتباع . وفي سياق محاولته " تعريب الماركسية " أعلن انتظامه في منهجية عدد من المفكرين الماركسيين، خاصة غرامشي (Gramsci) ولوكــاش (Lukacs)، إضافة إلى توظيفه عقلانية ماكس فيبر(Weber) الليبيرالية المضادة للماركسية، في خطابه النظري للانتقال من الوعي الامتثالي إلى الوعي النقدي، ومن الوعي الأيديولوجي إلى الوعي المطابق .
كما رأى الحافظ أنّ الماركسية ، بعقلانيتها النقدية وميراثها التنويري، قادرة على تغطية الفجوة التاريخية المتمثلة بانعدام فرص تكوّن طبقة بورجوازية في بلداننا . ذلك أنّ المستوى التاريخي من " الوعي المطابق " يعلّم أنّ الاشتراكية لا يمكن أن تُبنى على أرضية ومفاهيم ومناهج تقليدية ووسطوية، بل فقط على أرضية ليبيرالية . وقد أسس هذا الموقف على الأطروحة الماركسية القائلة " إنّ الأمة يجب عليها أن تستخلص درسا من تاريخ أمة أخرى، لكن عندما يصل مجتمع إلى اكتشاف درب القانون الطبيعي الذي يحكم حركته ... لا يمكنه أن يتجاوزه بقفزة ولا أن يلغي بمراسيم مراحل تطوره الطبيعي، بل يمكنه أن يختصر فترة الحمل ويلطّف آلام الولادة " (8) .
وهنا تحضر المقارنة التاريخية، فكتابات ماركس صيغت في سياق النضال الديمقراطي الألماني، الذي كان متجاوَزا من قبل الفرنسيين والانكليز، وعلى هذا فإنّ النضال القومي الديمقراطي الألماني هو الأقرب في سماته التاريخية إلى النضال القومي الديمقراطي العربي . ثم أنّ نقد الأيديولوجيا الألمانية من قبل ماركس ، تذكّر الديمقراطي العربي بمهمة أساسية، كان وما يزال يضعها جانبا، وهي : أنّ تصفية كل ما هو وسطوي وفائت في الأيديولوجيا العربية شرط لابدَّ منه لتلافي التأخر الذي يسحق الشعب العربي .
لقد كان طموح الحافظ لإدراج الماركسية في البنية التكوينية للثقافة العربية وطموحه إلـى " تعريبها " سابقا لتطور منظومته المعرفية ونضجها النظري والمفاهيمي، بل هو نتاج سيرورة تجربته وممارسته الفكرية والسياسية مع حزب البعث، والحزب الشيوعي، ومن ثم اختلافه معهما والبحث عن بديل يتجاوز ممارسته السياسية والحزبية . لهذا بدت له الماركسية، في النصف الأول من الستينات في العالم العربي عامة، وفي مشرقه خاصة " مُذَلَّةً، مُهَانَةً، مُطَارَدَةً، مَعْزُولَةً، وبكلمة : كانت الماركسية ضحية " (9) . لذلك وضع لنفسه هدفا تمثّل بكشف التضليل المتستر خلف محاربة الجمود العقائدي الستاليني بغية تحويل الماركسية إلى مجرد " مستشار أجنبي " من جهة، ومن جهة أخرى لابدَّ من نقد الممارسة الستالينية للأحزاب الشيوعية . وهذه العملية المزدوجة كانت تقتضي فهما جديدا للماركسية ، صاغه الحافظ بهدف التأسيس لممكنات نظرية ليسار عربي جديد منذ الستينات، وبلور مفاهيمه ومعطياته في السبعينات في ثلاث نقاط رئيسية هي (10) :
(أ) ـ تعريب الماركسية ، لأنّ إشكاليات الواقع العربي لا تجد لها حلا في الموضوعات الماركسية الكلاسيكية، وذلك يعني " تحقيق اندماجها مع حركة الجماهير العربية خلال الممارسة الثورية " . بما يقتضيه ذلك من " نبذ الصيغ المحفوظة " والمرددة كما هي، و" النقل السطحي الميكانيكي والمقارنات التاريخية " . فلابدَّ لعملية " تعريب الماركسية " من الانفتاح الدائم على الواقع العربي الملموس ، حيث النظرية تُصَحِّحُ وتُطَوِِّرُ نفسها على ضوء معطيات الممارسة، وهذا يعني " نفي وجود نظرية جاهزة ونهائية " .
(ب) ـ علمية وعلمانية الماركسية ، إذ أنّ الانطلاق من الواقع، واعتبار الحقيقة دائما ثورية كامنة في بنية وعي الحافظ ، ولذا فهو منذ الستينات يتنبه إلى خصوصيات الواقع العربي (خاصة التخلف الثقافي)، وعليه فإنها تتطلب الجانب العلمي والعلماني من الماركسية للاستجابة لحاجاته للتقدم .. وقد شدد الحافظ على خصوصية المجتمع العربي، بوصفه أشد حاجة لهذه العلمية والعلمانية " لأنه لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد الفكري والثقافي " . وقد تعمق فهمه لهذه المسألة بعد خيبته بالمشروع القومي التقدمي، وبعد استفادته من تاريخانية المفكر المغربي عبد الله العروي، وبداية إلحاحه على مسألة التأخر، وتهافت التفسير الطبقوي للقوى التي صنعت الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، ليبدأ السؤال المرير : أي ثورات صنعنا، وأي اشتراكيات بنينا ؟ .
(ج) - ثورية الماركسية ورفض الإصلاحية اليمينية، وهنا يشير إلى تمييز الماركسية بين إصلاحيتين : ثورية ، وهي التي تنتزع من الرجعية قسما من قواها ومواقعها تمهد لتقويض سلطتها. ورجعية، تصبح في خدمة الرجعية عندما لا تزعزع سلطتها ونفوذها.
وهكذا فإنّ " تعريب الماركسية " يتحقق عبر عملية اندماجها بإشكاليات الواقع العربي المعاش، وبتواصلها مع حركة الجماهير العربية ومطامحها .
وفي سياق بحثه عن " تعريب الماركسية " وجّه عدة ملاحظات نقدية للأحزاب الشيوعية العربية، ومن أهمها (11) :
(أ) ـ أنها بسبب ستالينيتها أدت إلى عزلة الماركسية، وقد ظهرت هذه الستالينية في تاريخ هذه الأحزاب بعدة مظاهر :
1 ـ اعتماد الحلول الجاهزة للواقع من خلال الاعتماد على الموضوعات الماركسية الكلاسيكية .
2 ـ الجمود العقائدي بوصفه ظاهرة انحطاط في الماركسية ، بينما اللينينية تَعْمَدُ إلى تعديل الأهداف خلال الممارسة، وتِبْعًا للواقع الملموس المتطور والمتغيّر.
3 ـ الصيغ المحفوظة غيبا، والمرددة كما هي ، والنقل السطحي الميكانيكي، والمقارنات التاريخية التي تستبدل الرؤية العلمية الصافية برؤية رمادية حَوْلاء، تُؤدي إلى " عقائدية كُلِّية " وممارسة الوصاية على الجماهير ، ومن ثم تقود إلى ضربٍ من الطغيان .
4 ـ الانطلاق من وجود نظرية جاهزة ونهائية ما أن تُلامس الواقع العربي حتى تُحدِّد سيره النهائي وتكشف حجب الغيب التي تنتظر هذا الواقع .
(ب) ـ إهمال الأحزاب الشيوعية للجانب العلمي ـ العلماني في الماركسية، مما قادها إلى تجاهل خصوصية المجتمع العربي ، الذي لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد الفكري والثقافي .
II- أولوية الفكري والسياسي
كان ذلك ثمرة تطور وعي الحافظ باتجاه امتلاك قانون " حكم الواقع " ، كبديل عن قانون " حكم القيمة " ، مما أتاح له إنتاج وعي مطابق لواقع المجتمعات المتأخرة التي يسبق فيها الأيديولوجي مجمل العناصر التكوينية لوجودها، وهو بذلك إذ يتفق مع عبد الله العروي وسمير أمين وماكس فيبر ، بأولوية الأيديولوجي في مجتمعات التأخر، مما أتاح له تفكيك المنظومات الساكنة، الإيمانية، التقليدية للماركسيات العربية في صورتها الحزبية المؤسساتية . ومن جهة أخرى ، في صدد حديثه عن مظاهر التأخر في المجتمع العربي، ومقارنته بين التأخر السياسي والأيديولوجي والعسكري ، رأى " أنّ البنية السياسية أشد تأخرا من سائر بنى المجتمع الأخرى، رغم أنّ التأخر الأيديولوجي يكمن في أساس تأخر السياسي... " (12) .
III ـ توصيف المجتمع العربي
خلافا للمنطق القومي العربي التقليدي وللمنطق الماركساوي العربي المسفيت ، ينطلق الحافظ من أنّ الأقطار العربية متفاوتة، لا من حيث حجمها ومستوى تطورها الاجتماعي والاقتصادي والحضاري فحسب، بل متباينة أيضا من حيث مكوناتها التاريخية، ومن حيث بنية المجتمع ومدى تلاحمه، ومن حيث عمق الترضيض والحضور الامبرياليين، وبالتالي من حيث إمكانات التقدم ومدى نضوج النزوع الوحدوي . فالعالم العربي فيه ما يمايز وما يماثل، ما ينبذ وما يحفّز، فيه المتأخر جدا والمتأخر والأقل تأخرا (ولكن ليس فيه ما هو متقدم البتة، فالعالم العربي كله عالم مفوّت) وفيه الفقر الذي يقترب من التسول والغنى الذي يذكّر بالأسطورة القارونية " إنّ هذا الوطن ـ العالم سيجد في الوحدة العربية، لا طرق الحفاظ على وجوده فحسب، بل الأرضية الملائمة لتقدمه " (13) .
ومن جهة أخرى ، فإننا عندما نتحدث عن طبقات في المجتمع العربي إنما نفعل ذلك على سبيل التقريب، فلم " يشهد مجتمعنا لا الإقطاعية ولا الرأسمالية في صيغتيهما الأوروبية ، والبنى التقليدية ما قبل البورجوازية والتطور الرأسمالي المحدود والمشوَّه مازالت تحجز الاستقطاب الطبقي . لذا فإنّ ما نسميه طبقات هو ، في الواقع ، بالأحرى فئات اجتماعية متشابكة ومتفاوتة في السُلَّمِ الاجتماعي، تتصارع فيما بينها وتمارس الواحدة إزاء الأخرى اضطهادا ما أو استغلالا ما " (14) .
ومن الخصوصيات العربية التي ركّز عليها الحافظ هي السياق التاريخي الذي تشكلت فيه الهوية العربية، إذ قال : إنّ العنصر الحاسم كان ثقافيا " دور الإسلام كحاضنٍ ورحَمٍ لتكون الأمة " . إضافة إلى خصوصية أخرى هي نمط " الاستبداد الشرقي " الذي يشكل امتدادا للمخزون الثقافي الجمعي، الذي يحكم اللاشعور المعرفي للمجتمعات التي تحكم الأيديولوجيا سيرورة تَشَكُّلِها وتطورها، وحيث أنّ الأيديولوجي والسياسي في المجتمعات المحيطية كالمجتمع العربي، ما يزال يلعب دورا وازنا تارة وحاسما تارة أخرى . ولم يكن الحافظ يهدف إلى تأييد هذه الخصوصيات ، بوصفها خاصيات لاصقة بهوية الأمة، بل بوصفها ظواهر لابدَّ من استقرائها، ليكون من الممكن بناء تصوّر قادر على استنباط البدائل الضرورية التي تفرضها حاجات الواقع العربي إلى التقدم .
إنّ هذه الخصوصيات الثقافية التي كانت امتيازا تاريخيا ساعد الأمة في الحفاظ على كينونة وجودها رغم كل التحديات التي واجهتها، فإنها غدت، من منظور تاريخي، عقبة أمام انتقال المجتمع من مرحلة " الملّة الدينية " إلى مرحلة " القومية الحديثة " .
IV- التأخر و" الفوات " التاريخي
استخدم الحافظ مصطلح " التأخر " بديلا عن مصطلح " التخلف " ، لما ينطوي عليه التأخر من معنى نهضوي أبعد من التخلف كمصطلح تقني ـ اقتصادي ، وقد استخدم مصطلح التأخر كمدخل مفهومي أساسي لتوصيف الواقع العربي، فضلا عن إغناء القاموس النظري والسياسي العربي بمصطلحات ذات دلالات عميقة .
وقد ترتب على مفهومه للتأخر العربي صياغة أخرى رائدة لمصطلح " الفوات " الذي يشرح معناه بأنه " خارج تسلسل وتاريخ الأحداث " ، ويدفع به ليتمفصل في السياق الثقافي والاجتماعي التاريخي العربي ، وذلك بأنّ " الشعوب التي تعيش حالة الفوات هي التي يشكل وجودها في عصر معيّن ضربا من غلطة تاريخية أو مفارقة تاريخية، باعتبار أنها تعيش في مرحلة تخطتها شعوب أخرى ... الشعوب المفوتة هي الماضي ملقى على هامش الراهن أو الحاضر، هي التي تعيش في غير عصرها " (15) .
لقد اعتبر الحافظ التأخر هو المسألة المركزية في الواقع العربي المعاصر، لذلك انتقـــد " المنظور التنموي " الذي توهَّم بإمكانية دخول العصر و " تَجَنُّبِ الثورة القومية الديمقراطية " التي دشنت العصر الحديث من خلال قلبها وتصفيتها المجتمع التقليدي القديم، وعبر هذه التصفية أمكنها أن ترسي بنى المجتمع الحديث المجتمعية والأيديولوجية والسياسية وإطلاق قواه الإنتاجية . إنّ هذه المنظورات التنموية هي " ضرب من محاولة عمل زركشة تحديثية على سطح مجتمع قديم مفوّت " ، وقد استنتج من تجارب الشعوب المتقدمة أنه " ما من شعب حقق تقدما اقتصاديا دون أن يكون قد حقق تقدما مجتمعيا وثقافيا وسياسيا " (16) .
واستنادا إلى استقرائه لتاريخ الفكر السياسي العربي الحديث وجد أنّ جماع السياسة العربية متأخر، فالتأخر كامن في البنية السياسية العربية، ليس في المنطق اليميني فحسب، ولا يقتصر على الأقليات العربية الحاكمة " لسنا إزاء أخطاء فحسب بل إزاء تأخر، لسنا إزاء سياسات يمينية فقط بل سياسات لا عقلانية، لسنا إزاء تأخر الأقليات المهيمنة فقط ، بل إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها . وبكلمة : إنها سياسات قرية في عالم المدن " (17) . ومن هنا ألحَّ على الحاجة إلى الثورة القومية الديمقراطية التي لا تستدعيها نظرية المراحل، بل تستدعيها لا عقلانية السياسة العربية بجماعها، يمينها ويسارها .
إنّ التأخر العربي العام جعل العقل العربي، حسب ياسين الحافظ، وكأنه " برميل بلا قعر، لا يجمع ولا يراكم ، مع كل صباح نبدأ تجربة جديدة، وننسى تجربة البارحة، كما لا نفكر باحتمالات الغد . على الدوام نبدأ من جديد وكأننا ولدنا اليوم، أشبه بفئران عاجزة عن اكتشاف أنّ المصيدة تصيد " (18) .
V- الوعي المطابق
أي تَمَلُّك السياسات العربية الوعي المناسب لحاجات تقدم الأمة العربية وتحررها ووحدتها، وهو لا يمكن أن يتكون إلا على أرضية الحقيقة الواقعية، وليس الحقيقة التي تنطوي عليها النصوص في اكتمالها المنهجي الداخلي الذاتي . وهو ذو ثلاثة مستويات : أولها، وعي كوني . وثانيها ، وعي حديث . وثالثها ، وعي تاريخي . ولم يجد الحافظ حرجا في القول بـ " إنّ عبد الله العروي، من خلال منهجه التاريخاني، هو الذي أضاء رؤيته للواقع العربي في بعديه الكوني والتاريخي، وبأنه هو صاحب القول من منظور تاريخاني بتكامل الليبيرالية مع الماركسية في سياق تاريخية واقع التأخر العربي ، رغم تناقضهما في السياق التاريخي العربـي " (19) .
إنّ الوعي الكوني هو فهم الجزء المتقدم من العالم، وخاصة بعد الوحدة التي فرضتها الرأسمالية عليه، انطلاقا من قانون وحدة الجنس البشري عقلا، وتمايزه تاريخيا . وعندها سيتم كشف مدى الفوات التاريخي للخصوصيات المحلية وأشكال تموضعها التقليدية المتأخرة عن العصر " إنّ وعيا كهذا الذي هو وعي القسم المتقدم من العالم هو الذي يفتح لشعب متأخر الطريق إلى ولوج العصر . فالوعي المحلوي ـ القوماوي لأمة مفوّتة، هو وعي مفوّت، لذا لم يعد كافيا ولا مطابقا لحاجاتها المتمثلة في تحديث بنيانها ورفعها إلى مستوى العصر ... والواقع أنّ الليبيرالية والاشتراكية، على ما بينهما من تكامل وتناقض، وبخاصة الماركسية، ماركسية ماركس، هما الأيديولوجيتان الحديثتان اللتان تقدمان مناهج وأدوات وقيما تسهّل امتلاك الوعي الكوني المنشود " . وحينئذ لابدَّ من الارتقاء من الواقع الأقوامي المفتت إلى الواقع الأمّوي الذي يحقق الاندماج القومي، وينتج وعيا مواطنيا جديدا يستجيب لصورة الأمة /الدولة الحديثة، في صيغة وعي قومي ـ عقلاني ـ ديمقراطي ـ علماني ـ حديث .
أما بالنسبة للمستوى الثاني، أي الوعي الحديث فإنه مستدعى جدليا بالمستوى الأول، فلا يمكن امتلاك وعي مكونن مطابق بدون امتلاك الحداثة أو الوعي الحديث، حيث لا يمكن الامتداد مكانيا في العصر دون الامتداد زمنيا في امتلاك وعي العصر " في البلدان العربية تجنبت القوى التي تريد نفسها تقدمية التعرض للتقليد ورضيت بحداثة قشرية، توضعت فوق التقليد وعقدت مصالحة مدلَّسة معه، بل ساهمت في بعث التقليد وتجديده، في حين أنّ الحداثة والتقليد نقيضان ولا يتصالحان ، ذلك أنّ الأولى تتمحور حول المستقبل في حين أنّ الثاني يتمحور حول الماضي " (20) .
وواضح أنه يدعو إلى حداثة مطابقة قادرة على التمفصل في بنية المجتمع العربي للاستجابة إلى حاجات تقدمه، وهي تتجسد في ثلاثة أحداث تاريخية : عصر الأنوار والثورة الفرنسية، والمجتمع الصناعي، والحركة الاشتراكية المسنودة بجملة من المناهج والقيم التي أهمها " الأمّوية / القومية أي سيادة الأمة، والمواطنوية، والإنسانوية، الواقع أو ربط الكلمة بالواقع، السيطرة على الوقت، والقانون، والفكر العقلاني التحليلي ـ التركيبي، والنفعوية، والدنيوية أو العلمانية " (21) .
وعلى المستوى التاريخي " بالطبع الواقع العربي ليس لحظة يتيمة مسطّحة ومسوّرة : له امتداد في المكان هو العالم المعاصر، وله امتداد في الزمان هو التاريخ الذي مازال التقدميون العرب ينكرون بصماته بل ثقله على الحاضر وينكرون بالتالي قانون كل تطور تاريخي : ماضـــي  حاضر  مستقبل في المجتمعات التي تحرز تقدمات تاريخية كالمجتمعات العربية، يكاد الماضي والحاضر أن يتمازجا أو يتواحدا ، ومن هنا الأهمية الحاسمة للوعي التاريخي في أي تشخيص للحاضر أو الواقع الراهن . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية من الأهمية بمكان ربط الممارسة السياسية بالحقيقة التاريخية، الأمر الذي يتطلب نبذ كل رؤية أيديولوجية أوروبية للتاريخ " (22) .
وهكذا فإنّ الوعي المطابق لدى ياسين الحافظ هو أولا، عقل وإعقال للواقع، لا يتم الوصول إليه بداهة بل بالتحليل الدقيق للعناصر والمكونات، في حركتها الجدلية الدائمة . وفي التحليل الأخير هو ليس سوى التقاط الواقع في سيرورته التاريخية، في خط تطورها العام . وهو ثانيا، وعي عقلاني ، يعتمد العقل منطلقا ووسيلة، ويستبعد الرؤى المثالية أو الإشراقية. وهو ثالثا، وعي نسبي ، لا يدّعي الحيازة على الحقيقة المطلقة، إنه وعي يقترب من الواقع يلتقط ظاهراته ويحللها ، ومن ثم ينقدها ليصل إلى تكوين تصور مفهومي يعاد اختباره في الممارسة، ويتم تصويبه على أساسها، والمفاهيم لدى الحافظ هي " توسطات ضرورية تجعل الواقع المتنوع والمعقد جاهزا للوصف والتحليل، وليست أقانيم للعبادة والتقديس، توسطات ضرورية، لكنها ليست الواقع " (23) .
وهو رابعا، وعي حديث، تكمن أهميته في مجتمع متأخر تشكل الأنماط التقليدية فيه هيمنة وسيادة، ليس على الفئات الرجعية وحسب، بل هي متجذرة أساسا في وعي الكتلة الشعبية الأكثر فقرا، وهذا ما يفاقم تأخرها، ويعيد إنتاج خضوعها للطبقات السائدة من جديد، وهو وعي يجب كسبه باستمرار في معركة دائمة مع الذهنيات والبنى التقليدية، ومع القوى والمؤسسات التي تحرسها من جهة أخرى . وهو خامسا ، وعي نقدي في رؤيته لظواهر الواقع، يؤكد على الصحيح، وينقد ويقوّم المعوج، ويترك الخاطئ ، أي أنه وعي يتجاوز نفسه باستمرار.
وهو سادسا ، وعي تاريخي ، يمكن الحكم عليه بمدى مطابقته لحاجات تقدم الواقع العربـي ، ومدى تمثيله لحركة الضرورة التاريخية، التي تصبح في حال وعيها إحدى صور الحرية، وأحد حدودها . وهو سابعا ، تراكمي لا يمكن اكتسابه دفعة واحدة، بل عبر الاستفادة النقدية من التجارب التاريخية، وعبر تصويبه في علاقته بالممارسة .
VI- الاشتراكية والمنظور التنموي ونقد التجربة الناصرية
لقد كانت قراءة الحافظ للناصرية في كل مراحل نجاحاتها وإخفاقاتها، وهذا ما يفسر حديثه في سيرته الذاتية " موقفي من الناصرية : دعم ونقد، تَرَجٍّ ويأس " . فمن جهة، اعتبر النظام الناصري يلعب دورا تقدميا أساسيا في الكفاح العربي العام، حين فتح أمام تطور العرب آفاقا واسعة جديدة، وحوّل القومية العربية إلى قوة تاريخية، وفتح إمكانية عملية لتحقيق الوحدة العربية . ومن جهة ثانية، فإنّ التجربة الناصرية ليست رائدة، فالنظام الناصري ليس النظام الثوري النموذجي، بسبب فقره الأيديولوجي، وافتقاد أهدافه الاشتراكية لدقة الوضوح والتحديد، وبسبب إغراقه في البيروقراطية، وانعدام النفحة الشعبية في أساليب نضاله وأدواته (24) .
كان للتجربة الناصرية حضور متميز في كتابات ياسين الحافظ لعدة اعتبارات من أهمها : أنها شكلّت ممكنا نهضويا عربيا، باعتبار أنّ وعي عبد الناصر كان أكثر انطباقا على حاجات المجتمع العربي من المواقف الأخرى . ففي حين أنّ النزعة القومية العربية المشرقية قد حوّلت الوحدة العربية إلى " أسطورة سلفية " مقطوعة أو ضيقة الصلة بسياستها التحررية ، فإنّ السلفية لم يكن لها وزن هام في نزوع عبد الناصر الوحدوي، فهو وريث حركة وطنية مصرية انشغلت بالتجديد والتحديث والتحرر من الاستعمار، ومن هنا فقد استنتج الحافظ " أنّ النزعة القومية العربية أصبحت أكثر عصرية وأكثر راديكالية عندما صبّت من جديد في المقال الناصري " (25) .
إنّ التقاط الحافظ للمهمة التاريخية التي كانت مناطة بالناصرية على مستوى المشروع القومي العربي، هو الذي يفسر لنا وعيه وشعوره بأنّ الناصرية فرصة تاريخية استثنائية ضاعت على الأمة العربية، وذلك بالرغم من نقده لتناقضاتها ، خاصة التناقض بين الثورة السياسية والمحافظة الأيديولوجية المجتمعية " إذ في الوقت الذي كان فيه النظام الناصري يحصد الأخوان المسلمين (ونرمز بهم هنا إلى التيار السلفي كله) سياسيا كان يزرعهم ثقافيا وأيديولوجيا، الأمر الذي ألقى به في سلسلة اختناقات انتهت بضربة 5 يونيو / حزيران القاصمة " (26) .
ومن خلال واقعيته الثورية، التي تذهب من الواقع إلى الهدف، كان الحافظ سبّاقا في إدراك رغبة الامبريالية الأمريكية وإسرائيل أن تقضيا على الناصرية، رغم ما كان يراه من قصورها . لذلك فإنه ، إبان الحملة الإعلامية المركّزة بعد الانفصال في العام 1961 على موقف عبد الناصر من القضية الفلسطينية، كان سبّاقا إلى معرفة أنّ المقصود لم يكن تحرير فلسطين، بل رأس عبد الناصر ومشروعه الثوري ، فكانت هزيمة يونيو/حزيران تحقيقا لما كان يستشعره في أنّ رأس عبد الناصر هو المطلوب (27) .
ولكنّ الحافظ وجّه نقدا عميقا لأزمة علاقة الناصرية بالديمقراطية، فعندما أعلنت الثورة المصرية الميثاق الوطني في العام 1962 وصّفه الحافظ قائلا " جاء على شكل أبوي، فكانت علاقة الثورة مع الجماهير علاقة وصاية، أي التزام مصلحة الجماهير والوصاية عليها في نفس الوقت، لم يتح خلق الجماهير الواعية لمصالحها الطبقية، بل خلق الجماهير المتحمسة السديمية ... " (28) . وفي الوقت نفسه انتقد ما يسمى بـ " الاشتراكية العربية " ، إذ أنها افتقدت إلى قاعدة ديمقراطية، وبالتالي أصبحت " تأخراكية " ، ذلك لأنّ الاشتراكية عندما تُبنى على أرضية وسطوية لا يعود يجمعها نسب بالاشتراكية في صورتها الأصلية، باعتبارها فرع من الديمقراطية والتحقيق الأمثل لها .
وفي هذا السياق فإنّ الحافظ انتقد " المنظور التنموي " عندما مسخ مفهوم النهضة إلـــى " التنمية الاقتصادية " التي طمست كل أبعاد مسألة التأخر العربي . فالمشكلة ، حسب ياسين الحافظ ، هي مشكلة ( تأخر /حداثة ) ، لا مشكلة " اقتصادوية " ( تخلف /تنمية ) ، مشكلة حضارية ( فوات /معاصرة ) وليست إشكالية تراثية ( أصالة /معاصرة ) . وهو يعيد جذور المنظور التنموي إلى قصور وعي دعاته، الذين اعتقدوا بممكنات تجاوز مشكلة التأخر عبر الخيار " الاقتصادوي " والتقني، ولكن من خلال الحفاظ على البنى التقليدية ومنظومة القيم المرافقة لها .
VII- هزيمة يونيو/حزيران 1967
يعتبر كتاب الحافظ " الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة " من أهم المقاربات العربية للهزيمة، ففي تعليقه على لقاء عدد من " المثقفين " تحت اسم " لقاء المفكرين العرب " ، وتحت شعار" الإعداد لمعركة التحرير" قال : " لقد عكست مناقشات هذا اللقاء الواقع الفكري المتخلف، السطحي الممزق، الراكد، الذي لم يخترقه العصر ولم يشعر جديا بانسياب الزمن، وبالتالي فإنّ المرء ليكتشف في المناقشات جذور الهزيمة في عقولنا اللاعقلانية وفي ثقافتنا، الهجينة، السطحية والمتيبسة " (29) .
لقد رأى فيها الحافظ تتويجا لهزائم أجيال الأنتلجنسيا العربية الثلاث، فالجيل الثالث رغم نزوعه الراديكالي لكنه " كان محافظا على الأصعدة الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية، كانت قدرته على تحديث المجتمع العربي، بما في ذلك الاقتصادية، محدودة جدا تارة ومعدومة جدا تارة أخرى، وهذا ما جعل راديكاليته السياسية المستندة إلى بنى مهترئة ومُفَوَّتة، في تصديها للهيمنة الامبريالية وإسرائيل، تأخذ طابع رومانسية ثورية، كانت تتحول مع تأكد العجز والتآكل، كما تجلى في هزيمة حزيران وعقابيلها، إلى تفنيص ثوري . ومن طبيعة الأشياء أن يتحول التفنيص الثوري، بعد ارتطامه بالواقع، إلى استسلام " (30) .
وفي محاولة منه لوضع اليد على مكمن الخلل، بعيدا عن نظرية المؤامرة التي راجت في العالم العربي، وجد الحافظ أنّ التكنولوجيا الحديثة بدون قاعها التاريخي المعرفي، العقلاني، الثقافي، وتمازج سيرورات هذه العناصر، ليست إلا حديد " خُردة " في اليد الجاهلة . فمشكلة العرب هي القطيعة بين تكنولوجيا الأسلحة الحديثة وقاعها الثقافي العقلاني الحديث .
VIII- نقد التيار القومي التقليدي وبلورة قضايا المسألة القومية العربية
رأى ياسين الحافظ أنّ هذا التيار لا تاريخي ، حين لم ير الجذور التاريخية، السابقة للاحتلال الاستعماري، لبعض الكيانات الإقليمية العربية المميزة، ولا مفاعيل الهيمنة الامبريالية وقوانين عملها في العالم العربي . وقد وصّف رؤية هذا التيار على النحو التالـي " نحن العرب نشكّل أمة واحدة، يجمعنا تاريخ طويل، تربطنا لغة واحدة، نعاني آلاما واحدة، تحرّكنا آمال واحدة، ينتظرنا مصير مشترك، وما التجزئة سوى صنيع الاستعمار . مادام الأمر كذلك، فمن الطبيعي، بل من الحتمي، مهما راوغ القدر، أن يؤطِّرنا، بعد زوال الاستعمار ورواسبه، كيان سياسي واحد " . وبعد أن أقرَّ بصحة مقدمة هذه الأطروحة، قـال " إنّ بناء دولة تؤطِّر أمة واحدة يتوقف، مع جملة عوامل أخرى، على وعي هذه الأمة ضرورة وحدتها. فالحتمية الوحدوية إنما تنبع، إذا لم تواجَه بعرقلات أخرى، من وعي أجزاء الأمة ضرورة وفائدة الوحدة، فضلا عن الإرادة " (31) .
وبسبب قصور وعي التيار القومي التقليدي فقد انتقل العديد من أنصاره إلى " مواقع إقليميـة " ، لأنه عاجز عن تصور المسار الوحدوي كصعود شاق " يتواكب مع الوعي السياسي السائد ومع الأيديولوجيا السائدة، وبالتالي اعتبار الوعي الوحدوي خلاصة وزبدة الوعي العام لمجتمع يعاني شقاء قوميا من جهة، ويواجه ضغوطا ساحقة من قبل الامبريالية من جهة أخرى " (32) .
ومن منظور تنويري، انتقد الحافظ التيار القومي التقليدي، كما ظهر واضحا في كتابات ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، حيث " أدانت بلا تحفظ الثورة الفرنسية ورأت بذور التفكير الفرنسي ، الدخيل على العرب والمشوِّه لتفكيرهم، قد سمّم النهضة العربية الحديثة منذ ولادتها، بدخوله مصر مع حملة نابليون بونابرت " . كما أشار إلى أنّ هذه الأيديولوجيا القومية رفضت الماركسية وأدانتها، انطلاقا من النظر إليها بوصفها " ذات أصول أوروبية صرفة تمثّل نزعة إنسانية " (33) .
والقومية، بالنسبة لياسين الحافظ ، ليست أيديولوجيا، كما حاول الفكر القومي التقليدي أن يصوغ أصالتها من خلال ترجمة هذه الأصالة عن الفكر الألماني " الروح الأزلي الخالد ". وهي ليست تجميعا كميا لوحدات وكيانات مجزأة، بل هي عملية تخترق الفرد لتجعل منه مواطنا، وتخترق المجتمع المُكسَّر عموديا في أنساق سوسيولوجية تعود به إلى نظام القرابة الدموية البدوية، لِتُنَضِّدَهُ في أنساق اجتماعية حديثة . والقومية، أخيرا، تحقيق لذات الأمة، بالدرجة نفسها كتحقيق لذاتية الفرد الحر المسؤول أمام القوانين، إنها تحقيق لمفهوم سيادة الفرد على مصيره، وسيادة الأمة على مصائرها . وعلى هذا فـ " الأمّويّة " ، في فكر الحافظ ، ليست شعورا متمحورا حول السيادة القومية إزاء الخارج فقط بل إنها " شعور ووعي متمحوران حول سيادة الأمة في الداخل، سيادتها على نفسها " (34) .
إنّ " الأمّويّة " ليست، كما يتداولها الخطاب القومي " رابطة سلبية أو تضامن سلبي تتخذه جماعة بشرية إزاء جماعة بشرية أخرى مغايرة أو معادية، أي ليست شيئا من قبيل نزعة كره الأجنبي، التي لازمت وتلازم الجماعات البشرية التي تعيش مرحلة ما قبل الأموّيّة " . فإذا كانت " رابطة الدم " أو" نظام القرابة " كانت تسود قبل مرحلة " الأمّويّة " ، فإنّ الأمم الحديثة تكونت تاريخيا وحلّت تدريجيا محل نظام القرابة، وأنشأت الدول القومية الحديثة . وهذا النمط من الأمم الحديثة يفرز روح المواطنية، التي تتبدى في صيغة " الدولة الأمّويّة الديمقراطية العقلانية ومؤسساتها ممثلة للأمة ومصالحها العامة " . فهي إذن " وعي المرء وشعوره بأنه عضو في جسد جماعة إنسانية معينة.. بأنه ندّ للآخرين.. متساوٍ في الحقوق والواجبات أمام القانون الذي يعبّر عن إرادة الأمة " (35) .
لقد قام الحافظ بتقصّي سير تطور الأمة العربية، للتعرف على الخصوصية التاريخية التي ميّزت خط تطورها المميَّز في إطار المقارنة التاريخية بين خطوط السيرورة الكونية، فوجد أنّ العامل الذاتي الثقافي (الإسلام) هو عامل التفاعل والصهر. ففي ظله، كتراث حضاري وثقافة مشتركة وتكوين نفسي مشترك، تبلورت الثقافة المشتركة والتكوين النفسي الحضاري . لكنّ الحركة القومية العربية استيقظت تحت تأثير الفكر الأوروبي، ثم اكتسبت زخما أشد ضد محاولات التتريك أولا ثم ضد اضطهاد السيطرة الاستعمارية ثانيا . وعلى هذا، فإنّ الحركة القومية العربية لم تستيقظ في " غمار نضال طبقي حاد " كما جرى في أوروبا .
والبرجوازية العربية لم تتطور إلى الحد الذي تجعل مقتضيات السوق الواحدة تتحول إلى أداة هدم بين الأقطار العربية، ليخلص من ذلك إلى مغايرة أخرى لسياق التطور الأوروبي هي " أنّ القومية العربية لم تولد في السوق " ، وبالتالي فإنّ الوعي القومي العربي سبق التطور الاقتصادي العربي (36) .
إنّ الخصوصية الثقافية التي مهرت شكل تكوّن الأمة ووعيها القومي، المتمثلة بالدور الإيجابي للإسلام، غدت ، في المنظور القومي الديمقراطي العلماني لياسين الحافظ ، الجذر الأساسي للفوات التاريخي، بمثابتها " تعبيرا عن وعي سكوني لمجتمع تقليدي، وعي رؤية دورانية لحركة التاريخ " (37) .
لقد ربط الحافظ صلة وثيقة بين التقدم والوحدة العربية، فـ " العالم يغذُّ الخُطى نحو تكوين كتل كبرى من الشعوب، وستبقى " الشعيبات " على هامش التاريخ " . فلا يمكن تصور تنمية ناجحة إلا في تجمعات كبرى " إنّ الأقطار العربية، الكبيرة منها بخاصة، قد تستطيع، في أحسن الأحوال، تطوير صناعتها القائمة إلى هذا المدى أو ذاك، إلا أنه سيصعب عليها، في ظل التجزئة، أن تتعدى حدود الصناعات التي قامت في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين . أما الصناعة العصرية التي جاءت نتيجة الثورة الصناعية الثالثة، فمن الصعب جدا، إن لم أقل من المستحيل، أن تقوم في ظل التجزئة " .
إنّ الأقطار العربية، عندما توضع ضمن مقاييس عالمية، مخالفة لوجهة العصر، لـــذا فـ " إنّ على أولئك الذين يحبون الصناعة الثقيلة والتصنيع الثقيل أن يحبوا الوحدة العربية التي تعتبر الشرط الأولي واللازم لقيام هذه الصناعة " (38) .
إنّ المنظور الوحدوي لياسين الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، ويستشرف كل سبل الخلاص العربي، أي تلافي التأخر التاريخي المتراكم للشعوب العربية . وفي هذا السياق حدّد الميول الجاذبة في السيرورة الوحدوية بثلاثة ميول : أولها، شعور هؤلاء البشر المنتشرين من الخليج إلى المحيط بأنهم ينتمون إلى أمة واحدة ويجمعهم مصير مشترك، ولا شك أنّ هذا الشعور يتفاوت من حيث عمقه ووضوحه بين قطر وآخر، أو إقليم عربي وآخر، فمثلا ليس من المناسب تجاهل الفجوة التاريخية بين المشرق والمغرب العربيين، التي قامت منذ القرن الثامن الميلادي حين أُنشئت الدول المغاربية المستقلة عن الدولة العباسية ( الأغالبة ، الرستميون ، الأدارسة ، بنو مدرار ) . إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي فعمل على " تعميق وتوسيع هذه الفجوة وصياغة غطاء أيديولوجي لها، مارس تأثيرا راضّا عميقا على صعيد الثقافة في صفوف الأنتلجنسيا المغربية، كما قام بعملية بتر كامل على صعيد الاقتصاد عبر إمكانية إلحاق الطرف المستعمَر بالمركز المستعمِر " ، وفي الوقت نفسه من المغالطة إنكار وزن الرابطة العربية في المغرب العربي .
وثانيهما، يتمثل في العامل الخارجي، أي مفاعيل الهيمنة الامبريالية وضغوطها ونهبها للشعوب العربية، بما يشحذ النوازع الوحدوية، ويوجه حدها ضد سائر أشكال نفوذها " إنّ الامبريالية قد جزّأت الوطن العربي وولّدت وحدته من جديد " . وثالثها، يتمثل في النزوع العربي إلى التقدم، إلى دخول العصر، إلى تأكيد الذات (39) .
أما الميول النابذة للسيرورة الوحدوية فقد حددها الحافظ بخمسة : أولها ، التأخر العربي العام . وثانيها، الهيمنة الامبريالية ومحاولتها ممارسة ضرب من التجميد للاحتمالات الوحدوية السياسية ، فالعداء للوحدة لايحرّك سياسات الدول الامبريالية وحدها، بل " يحرّك أيضا، وبعداء أشد، سياسات الدول المجاورة للوطن العربـي: إسرائيل، إيران، تركيا، الحبشة... ولعل موقف إسرائيل يشكل الحالة القصوى " .
وثالثها، واقع التجزئة والمقاومة التي يبديها والذي " لا يتمثل فقط بمصالح الأشخاص والفئات الراكبة على بنية سياسية ما قائمة، بل يتمثل أيضا، في كيفية أوزن وأشد تأثيرا، في الأيديولوجيا الإقليمية " . ولأنّ الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، فقد قال : " إنّ العمل في سبيل تصفية الواقع الموضوعي للتجزئة إنما يتطلب منّا أن نأخذ بعين الاعتبار الوزن والجذور التاريخية والجغرافية للتجزئة . وهذا يعني أنّ المشروع الوحدوي، فضلا عن ضرورة مرونته، لكي يمكنه استيعاب تضاريس التجزئة، لا ينبغي أن ينفي على المدى القريب والمتوسط، وبعد توفير الإطار السياسي لوحدة حقة، الأخذ بالاعتبار المصالح الإقليمية التي لا تعرقل سيرورة التذويب الوحدوية ... وأن تتوفر هذه السيرورة على ضمان توازن ما في مصالح الأقطار، بحيث تتدرج عملية التذويب مع نمو وعي الشعب بسلامة تخطّي ما هو إقليمي لصالح ما هو قومي ، توازن يشكل التحقيق الأسلم والأبعد نظرا حتى للمصالح القطرية المفهومة فهما صحيحا " .
ورابعها، يتمثل في الأيديولوجيات الضمنية أو الصريحة للأقليات الدينية والقومية في العالم العربي، وهي مسألة غير ممتنعة، وبخاصة موقف المواطنين العرب المسيحيين أو موقف الفرق الإسلامية غير السنّية " إنّ التأكيد على علمانية الحركة القومية العربية ودولة الوحدة العربية والنضال لتطبيقها سيفتح أرحب السبل لحلها بدون تأخير وبجدية " . أما مشكل الأقوام غير العربية " فينبغي أن يُحل على أساس مصلحة الوحدة العربية والاندماج القومي العربي . وهذه الحلول تصبح ممكنة بقدر ما يدمقرط المجتمع العربي " .
وخامسها، يتمثل في شخصنة السلطة، التي " أصبحت تظاهرة غالبة في الميدان السياسي العربي " ، وهذه الشخصنة في البنية السياسية العربية عززت وتعزز إلى أقصى حد العوامل النابذة الأخرى للسيرورة الوحدوية، ذلك لأنّ السلطة المشخصنة " لا بدَّ أن تستخدم سائر العوامل والعناصر المؤاتية للتجزئة في سبيل تدعيم مواقعها، بحيث يصبح الوضع أو البنيان الإقليمي مرتكزا وسياجا ومجالا حيويا لها " . وعليه، بدا لياسين الحافظ أنّ الديمقراطية، التي تشكل نقيضا مطلقا لشخصنة السلطة، تشكل الطريق الأكثر مواتاة وملاءمة إلى الوحدة العربيـة (40) .
كما رصد الحافظ عاملين آخرين يشكلان نقطتي ضعف وثغرتين تجعلان السيرورة الوحدوية أكثر صعوبة : أولهما، افتقار العالم العربي إلى تطور بورجوازي حق . وثانيهما، ضعف دور القطر العربي - المركز، أو القائد للعملية الوحدوية .
VIV- الدولة الحديثة
تندرج ضمن رؤية ياسين الحافظ للثورة القومية الديمقراطية، بما تنطوي عليه من إمكانية امتلاك وعي مناسب بالواقع، ووعي مطابق لحاجات التقدم العربي . وتبدو أهمية هذه الرؤية إذا عرفنا أنّ الدول العربية، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي ، استندت إلى تقليد سياسي ثيوقراطي، أتاح أوسع الفرص لممارسة أقلية ما هيمنة دائمة، كما أتاح المجال للصراع حول السلطة داخل هذه الأقلية . لهذه الأسباب فإنّ دعوته إلى الدولة الحديثة تمثل استجابة لحاجة الواقع العربي إلى تجاوز فواته التاريخي، حيث يبدأ ذلك بتحديث السياسة بـ " الديمقراطية " وتحديث الثقافة بـ " العلمانية " و " العقلانية " . وفي ذلك يقول " الديمقراطية لا يمكن أن تؤجل أو تقنّن، ولا توضع على الرف اليوم بزعم ممارستها غدا عند النضج، فالنضج السياسي وليد الممارسة الديمقراطية بالدرجة الأولى، فالديمقراطية اليوم هي أمر لا بدَّ منه للديمقراطية غدا، لأنّ ممارسة الديمقراطية على نحو ناضج مسؤول ومنضبط، لا يمكن أن يتهيأ إلا بالممارسة الدائمة، فلكي نتعلم السباحة غدا، يجب أن نمارسها اليوم " (41) .
وعلى ضوء تجربته في فرنسا، قارن الحافظ بين الفرد في المجتمعين الغربي والعربــي " في الغرب، كنت أُذهَل عندما أرى قوة الفرد وجرأته وثقته بنفسه أو تحرره الكلي من مختلف أشكال الخوف ... لا شك أنّ عوامل عديدة، مجتمعية وأيديولوجية واقتصادية، مهدت لإسقاط الخوف من الغرب، بيد أنّ الإطار الذي صُفّيَ فيه الخوف كان الإطار السياسي، أي الديمقراطية " (42) .
أما العلمانية، فهي تحضر لدى الحافظ بمثابتها منظومة متكاملة، تستدعي جميع حيّزات التجربة التاريخية للأمة : معرفيا، واجتماعيا، وسياسيا. فهي على المستوى المعرفي معادل للعقلانية ، فهي " تؤمن بالاكتشاف التدريجي للحقيقة سواء في الطبيعة أم بالمجتمع، بواسطة العقل وحده تحت رقابة التجربة.. وبدون هذه العقلانية ما كان للعلوم أن تتقدم هذا التقدم المذهل، وبالتالي لا يمكن للعلم أن يتقدم في مجتمع يرفض هذه العقلانية ... فالعلمنة إذن إحدى التظاهرات الفرعية لعملية عقلنة المجتمع " (43) . وهنا نلاحظ أنّ التلازم الذي طرحه بين القومية الحديثة والعلمانية، لم يتوقف عند حدود السطح السياسي، والترسيمات المحدودة عن " فصل الدين عن السياسة " بل استعاد المنظور المعرفي دوره، بوصفه أساسا جوهريا لبناء الدولة القومية الحديثة .
وهكذا توصّل الحافظ إلى منظومته الفكرية بعد ممارسة النقد للأيديولوجيا على مستويين : (44) : أولهما، نقد الأيديولوجيا التقليدية السائدة في المجتمع، هذه الأيديولوجيا المفوَّتة التي تكرس روح الامتثال والعزوف، وتحول المجتمع إلى كتلة هامدة خارج أسوار العصر وتفاعلاته، هذه الأيديولوجيا هي التي تحدد موقف الإنسان العربي من ( الشغل، المرأة ، الطبيعة ، الوقت ... الخ ) وهي التعبير الفكري عن التأخر التاريخي العربي .
وثانيهما ، نقد أيديولوجيا الأنتلجنسيا العربية، إذ رأى أنها أيديولوجيا مستلبة بسبب كونها إما أيديولوجيا سلفية أو أيديولوجيا اغترابية . وفي تناوله لهذا المستوى ميّز الحافظ بين محاولتي نهضة شهدهما العالم العربي : الأولى ، التي قادها محمد علي باشا، والتي حمل جيلها أيديولوجيا " تقليدية " . والثانية ، التي مثلتها وقادتها التجربة الناصرية، والتي حمل جيلها أيديولوجيا " تقليدية جديدة " ، لم تشكل تجاوزا بالمعنى التاريخي للأيديولوجيا التقليدية .
لقد ميّز الحافظ ثلاثة تيارات رئيسية :
(أ) ـ تيار إسلامي ، تراثي ، سلفي " يكره الحاضر، ويرى بخوف إلى المستقبل، ويتطلع بشوق وحنين وتقديس إلى الماضي . وبكلمة : إنه يرفض العصر ، العصر الذهبي في المستقبل هو أن نستحضر عصرا مضى من ألف وأربعمائة عام، إنه تيار يعيش بدلالة الماضي " .
(ب) - تيار قومي أو" قوماوي " : " قومي في أهدافه، شبه عصري في نواياه وشبه تقليدي في واقعه، وتلفيقي في منهجه... تحت وطأة العصر وإذلاله أصبح يرنو إلى هذا العصر، ولكنّ ثقل رواسب الماضي يجعل سعيه إلى ولوج العصر أشبه بسعي المهربين، إذ يريد الدخول إلى العصر خلسة عن أعين الماضي أو بمباركة منه " .
(ج) - ماركسي أو " ماركساوي " ، بقي هامشيا ولم يستطع الانغراس في متن الأمة، وذلك نتيجة نهجه الدوغمائي واغترابه كوعي، وافتقاره إلى عمق ثقافي وبعد تاريخي (45) .
وهكذا ، فإنّ ياسين الحافظ أدرك أهمية دور العامل الثقافي في إنتاج وعي الأمة العربية بذاتها، بوصفه وعي مجتمع وليس وعي طبقة، وبالتالي " الخصوصية " الثقافية المتمثلة بدور الإسلام الإيجابي في التاريخ العربي، من حيث كونه أمّن سياجا أيديولوجيا للأمة حماها من التبعثر، وإن غدت هذه " الخصوصية " ، في منظور الحافظ ، الجذر الأساسي لـ " الفوات التاريخي " ، بصفتها تعبيرا عن وعي سكوني لمجتمع تقليدي .

الهوامش
1- د . عيد، عبد الرزاق : ياسين الحافظ /نقد حداثة التأخر ، الطبعة الأولى – حلب – سورية ، دار الصداقة – 1996 ، ص 22.
2- الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، الطبعة الثانية - بيروت، دار الطليعة - 1979، ص 203.
3 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والايديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 262 ـ 263
4 ـ الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية الديمقراطية ، بيروت – معهد الإنماء العربي – 1990 ، ص 194.
5 - د . عيد، عبد الرزاق : ياسين الحافظ ...، المرجع السابق، ص 53- 54 .
6 ـ الحافظ ، ياسين : حول بعض قضايا الثورة العربية ، الطبعة الأولى – بيروت ، دار الطليعة – 1965 ، ص 16.
7 ـ د . عيد ، عبد الرزاق : ياسين الحافظ ... ، المرجع السابق ، ص124 ـ 125.
8 ـ الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية الفيتنامية / تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية ، الطبعة الثالثة - دمشق ، دار الصياد – 1997 ، ص 16.
9 - الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية... ، المرجع السابق ، ص 262.
10 - الحافظ ، ياسين : حول بعض... ، المرجع السابق ، ص ص 271-279.
11 ـ د . عيد ، عبد الرزاق : ياسين الحافظ ... ، المرجع السابق ، ص 118.
12 - الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 229
13 ـ الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية... ، المرجع السابق، ص 20 .
14 ـ الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية... ، المرجع السابق، ص 71.
15 - الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية ... ، المرجع السابق ، ص 24 ـ 25.
16 ـ د . عيد ، عبد الرزاق : ياسين الحافظ ... ، المرجع السابق ، ص 121 .
17 ـ الحافظ ، ياسين : اللاعقلانية في السياسة العربية / نقد السياسات العربية في المرحلة ما بعد الناصرية ، الطبعة الثانية - دمشق ، دار الحصاد – 1997 ، ص 5 .
18 - الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 264.
19 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 49 ـ 50 . حيث ينوّه في فصل " تاريخ وعي أو سيرة ذاتية أيديولوجية ـ سياسية " بأنّ العامل الأكثر أهمية في هذه المحطة من تاريخ وعيه الأيديولوجي ـ السياسي كان كتابات العروي، وتحديدا " الأيديولوجيا العربية المعاصرة " و" العرب والفكر التاريخي " .
20 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 255.
21 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 256 .
22 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 257 .
23 ـ د . الجباعي ، أحمد (الأيديولوجيا والوعي المطابق/ مدخل أولي ) ـ عن مجلــة " الوحدة " ، المجلس القومي للثقافة العربية ـ الرباط ، العدد (75) ـ ديسمبر/كانون الأول 1990 ، ص 40 ـ 41 .
24 - الحافظ ، ياسين : حول بعض...، المرجع السابق، ص 145-146.
25 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيـا ... ، المرجع السابق ، ص ص 83 ـ 85 .
26 - الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا... ، المرجع السابق، ص 32 .
27 - خاطب الحافظ أكرم الحوراني، الذي كان رأس حربة ضد عبد الناصر في تلك الفترة، قائلا : " الحقد مُوَجِّهٌ سيئ في السياسة ، ليت الأستاذ الحوراني يجعل من عبد الناصر وقودا لتحرير فلسطين ، لكنه يريد أن يجعل من قضية فلسطين وقودا لإحراق عبد الناصر" .
- الحافظ ، ياسين : حول بعض...، المرجع السابق، ص 233 .
28 - الحافظ ، ياسين : حول بعض...، المرجع السابق، ص 142.
29 - الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 208 . مع العلم أنّ الكتاب يتألف من ثلاثة أقسام رئيسية : أولها، تاريخ وعي أو سيرة ذاتية ايديولوجية -سياسية لتطور وعي ياسين الحافظ في مختلف المراحل التي مر بها. وثانيها، الهزيمة الكبرى التي عانتها الأمة العربية منذ " وعد بلفور " ، ويتضمن تقييما للتجربة الناصرية وتشخيصا لمسيرة التطور العربي ولاحتمالات المستقبل . وثالثها، نقد الهزيمة نقدا معمّقا والانتقال من نقد السياسة إلى نقد " الايديولوجيا المهزومة " .
30 - الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية ... ، المرجع السابق ، ص 165.
31 - الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية ... ، المرجع السابق، ص 22.
32 - الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية... ، المرجع السابق، ص 74.
33 - الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية ... ، المرجع السابق ، ص 163.
34 - الحافظ ، ياسين : اللاعقلانية في ... ، المرجع السابق ، ص 168.
35 - الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 242-243.
36 - د . عيد ، عبد الرزاق : ياسين الحافظ ... ، المرجع السابق ، ص 195-196.
37 - الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 24.
38 - الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية... ، المرجع السابق، ص 18-19.
39 - الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية... ، المرجع السابق، ص ص 26-30.
40 - الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية... ، المرجع السابق، ص ص 32 – 39 .
41 – الحافظ ، ياسين : حول بعض...، المرجع السابق، ص 142 .
42- الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 37.
43- الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية ...، المرجع السابق، ص 23- 24 .
44 - الخطيب ، منير : ( مفهوم الأيديولوجيا في الفكر العربي المعاصر) - عن مجلــة " الوحدة " ، المجلس القومي للثقافة العربية- الرباط ، العدد(75)- ديسمبر/ كانون الأول 1990، ص 120- 121 .
45 - الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا ... ، المرجع السابق، ص 210 .

غازي عينتاب في 28/10/2016 الدكتور عبدالله تركماني
باحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة