بيروت تل أبيب القسم الثاني تل أبيب الفصل السابع1


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5325 - 2016 / 10 / 26 - 16:36
المحور: الادب والفن     

الجو حار في غزة كتل أبيب، تنبأت الأرصاد الجوية بحلول موجة حرارية في كل المنطقة، ولأيام عديدة. لم تكن مضاعفات الحرب في لبنان، لكن انقضاض إعصار معاكس، قوي، لا يقهر، قادم من جزيرة العرب، من الربع الخالي تحديدًا. بقي الناس، الفلسطينيون، كما يحب شالوم القول، يغلقون على أنفسهم الأبواب، رغم الحرارة الشديدة. لم يكن الحصار الذي يفرضه الجيش عليهم السبب الحقيقي لهذا الاختلاء، لأن منع التجول لا يبدأ إلا عند سقوط الليل، في الساعة التي يكون فيها التنظيف عند نهايته. قال المساعدون العسكريون، الذين يعرفون جيدًا أرض المعركة، لكولونيلهم، إنه ليس من العادي أن يتخفى العرب هكذا، في المنطقة التي سبق "تنظيفها"، وفي المنطقة التي "سَتُنَظَّف". هم حتمًا يعدون شيئًا ضدهم. لم يقولوا هجومًا، كانوا يتحاشون كلمة "هجوم"، وهم يفضلون ألا يسموا الأشياء بأسمائها، وأن يتركوا للكولونيل تصور ما يقصدون. شيء ليس غير هجوم. لكنه هجوم من أي نوع؟ فردي؟ جماعي؟ انتحاري؟ بالسلاح الأبيض؟ بالبازوكا؟ بالكلاشينكوف؟... وشالوم ينظر إلى ناحيتي المدينة، التي تم تنظيفها، والتي سَتُنَظَّف، أراد قبل كل شيء أن يراهم، هؤلاء الفلسطينيين. كان يعرف أولئك الذين يأتون للبحث عن خبزهم اليابس في إسرائيل، كان يعرف الأقلية العربية، المزيَّفين، لكن لم يكن يعرف الأصيلين، الذين يفضلون الموت من الجوع على "الذهاب لكسب بعض الشيكلات عند العدو"، لم يكن يعرف وجوههم، أيديهم، أذرعهم، نساءهم أو أطفالهم.
في تلك اللحظة، وصل نباح قصير من مستودع في مخيم دولشه فيتا، تبعه شيء صائت، بُمْ بادابُمْ. أخذ كل الجنود الحاضرين يطلقون كالمعتوهين، وهم يُبْدُون أنهم لم يعد باستطاعتهم التوقف لو لم يأمرهم شالوم بوقف إطلاق النار فورًا.
- عصابة ساقطين! صاح. من اللازم أولاً التأكد مما وقع: النباح القصير، من الواضح أنه كلب جعلوه يخرس بوحشية، أما الشيء الصائت، بُمْ بادابُمْ، فهل هو حقًا قنبلة؟ عيار ناري؟ ضربة بالسيف، ولو أني أشك في ضربة بالسيف تعمل صوتًا كهذا؟ ضربة ش-ي-ء م-ا عمل بُمْ بادابُمْ؟ وضد من؟
- ضد من في رأيك، كولونيل؟ تهكم الليوتنانت عزرا، أحد المساعدين العسكريين. نحن لسنا في العيد السوقي!
- شكرًا لإبلاغي بذلك، ليوتنانت عزرا، تهكم شالوم بدوره.
- كنت أريد القول إننا نحتل هذه الأرض، وإنه...
- شكرًا أيضًا لتحديد ذلك لي.
- ...عادي أن نُهاجَم، أوضح الليوتنانت.
- غير عادي، صحح شالوم.
- عذرًا، كولونيلي؟
- قلت جيدًا غير عادي.
- غير عادي، كولونيلي؟
- غ-ي-ر ع-ا-د-ي.
- تعني غير عادي أن نُهاجَم عندما نكون مدججين بالسلاح؟
- هذا ما أعني، ليوتنانت عزرا. غير عادي... عندما نكون مدججين بالسلاح، من غير العادي أن نُهاجَم.
- تعني، عاد الليوتنانت عزرا إلى القول محاولاً أن يتابع المنطق الحاذق لرئيسه، أنها لم تكن قنبلة؟ أنه، بالنظر إلى قوتنا العسكرية، ليس من الممكن أن تكون قنبلة؟
- هذا ما أعني، ليوتنانت عزرا. حزرت، برافو!
- أنت غلطان، كولونيل!
- ماذا تقول؟
- أنت غلطان، كولونيل شالوم. في بولندا، كان أجدادي أكثر ضعفًا من الفلسطينيين، لكنهم اختاروا الانخراط في صفوف المقاومة، ومهاجمة النازيين الذين كانوا أكثر قوة منا. أرادوا الموت وقوفًا بدلاً من أن يهلكوا في معسكرات الاعتقال، أوشفتز وغيره.
هو، شالوم، لم ير شيئًا، ولم يسمع شيئًا، غير هذا الشيء الصائت الذي عمل بُمْ بادابُمْ، كان هذا يشبه مفرقعة أكثر من قنبلة أو رصاصة أُطلقت عليهم. زرع الليوتنانت عزرا الشك في صدره، ورأى أن من اللازم التأكد حالاً.
نادى سيمون، الذي عُيِّن كابورال. كان كل شبان البرجوازية الإسرائيلية يتقنون معالجة السلاح منذ مولدهم كالننتندو، وكانت هذه هي حال سيمون. هو، فوق ذلك، كان متحمسًا. لم يكن الحماس الديني، كان مثله، نوعًا من الحماس الشخصي، نوعًا من الحماس الوطني، ش-ي-ئ-ًا م-ا كالبطولة المزيجة بالشعور بالعظمة الذي ورثته الأسرة سيمون (اسمه سيمون سيمون) من جيل إلى جيل، قبل القديس سانت-سيمون بكثير، المدعو "الحماسي"، حِواري عيسى-المسيح، والذي كان يعمل طرفًا من الفرع المُسَيْحَح لهذه الأسرة العظيمة. هذه الأسرة العظيمة نفسها التي كانت تسكن الدائرة السادسة عشرة العظيمة في باريس قبل أن تهاجر إلى إسرائيل العظمى، والتي كانت تعيش على ذاكرة نابليون العظيم. كان أحد أكبر خَلَفِها، المُسَيْحَحين دومًا، يتباهى بكون فرنسا العظمى، بفضل أسرة سيمون العظيمة جدًا، بشكل ما. إذن من العادي أن يكون العظيم سيمون سيمون واحدًا يريد أن يفعل أكثر مما يقدر عليه، ليثبت أنه ع-ظ-ي-م، وأن جلده هو بيته، بيت عَيِّنَة نادرة. لم يكن خجله سوى غطاء يغطي خَلْفَهُ خصاله الحقيقية. وهو يراه يتقدم برأسٍ عالٍ وبإصبعٍ على زناد عوزيه، تساءل شالوم لماذا ضل سيمون سيمون الطريق إلى دراسة الصيدلة، بينما يوجد مكانه الحقيقي في الجيش، إن لم يكن على رأسه.
- كابورال سيمون-العظيم! هتف شالوم. أنت من عليه الذهاب للتأكد إذا ما كان هذا الشيء الصائت الذي عمل بُمْ بادابُمْ قنبلة أو ش-ي-ئ-ًا م-ا آخر. اختر ثلاثة جنود بواسل، وإلى الأمام! وقبل أن أنسى، اطلب من هؤلاء الفلسطينيين الشياطين أن يروني وجوههم، لأجل محبة الرب!
- أنا لا أطلب، كولونيلي، هتف سيمون، أنا أفرض!
- افرض، يا صغيري سيمون، افرض! أنا على عجلة من أمري لتفرض، لكن اختر أولاً ثلاثة جنود بواسل، واذهب حالاً لتتأكد من ماخور الشيء الصائت الذي عمل بُمْ بادابُمْ.
لم يختر سيمون. بالنسبة له، كل الجنود، مهنيين أو احتياطيين، جنود مِقدامون. تركهم يختارون أنفسهم بأنفسهم. تقدم ثلاثة من بينهم: روبن الأمريكي، خوليو الإسباني، وإسحاق المغربي. كانت لهم هيئة سكان الفضاء بلباسهم العسكري "المصفح" –ضد الصواريخ- وكل مجموعة أسلحتهم. تبعوا كابورالهم بقدم مصممة، الرأس عال، والإصبع على زناد عوزيهم.
- اخفضوا رؤوسكم، عصابة المتكبرين! صاح شالوم من ورائهم، واتركوا رؤوسكم الهالكة الخراء تفكر في قنابل المقبرة المحاذية، عصابة المتزوقين!
أدخلوا رؤوسهم في أكتافهم، وتقدموا بحذر في الأزقة الضيقة الطينية، والمجاري تصب كنوزها –بول وبراز وماء غسيل قذر وماء أرض إسمنت وماء من كل الخراءات-. لم يعرف الجنود الثلاثة البواسل، على رأسهم سيمون، كيف يتحاشون التخبط فيها، وكل انتباههم مركز على هجوم محتمل مباغت. من نافذة المستودع، حيث دوى الشيء الصائت، بُمْ بادابُمْ، ارتفع بعض الدخان. وهم على بعد عشرين مترًا من المكان، برز قط فجأة من باب، تتبعه بنت صغيرة، عمرها خمس سنوات. أطلق سيمون. سقط القط والبنت. ارتمى روبن وخوليو وإسحاق في الأوساخ للدفاع عن أنفسهم. مقابل الهدوء المطلق المهيمن، أشار سيمون إليهم بالقيام. تقدموا بخطوات بطيئة، وهم ينقبون بنظرهم عن كل ظل، باتجاه الجثتين اللتين أخذهما سيمون بين ذراعيه. بقي متحجرًا خلال لحظة، قبل أن يعيد وضعهما على الأرض، وينفجر بالبكاء.
- إلى المخبأ، كابورالي! صاح روبن. ليس هذا وقت الانهيار!
رفعه بعون رفيقيه، وركضوا كالمجانين نحو باب المستودع. فتحه روبن بضربة من قدمه، ثم دخل، وهو يشهر سلاحه على أناس وهميين. لم يجد سوى رجل ممزق غير بعيد من قنبلة حِرَفِيَّة بألف قطعة. أجلس خوليو وإسحاق سيمون، المصاب بالخبل، على حَزمة قش، وأرتجا بسرعة باب المستودع.
- إنه هذا الخرائي أصل الشيء الصائت الذي عمل بُمْ بادابُمْ، رمى روبن باحتقار ضاربًا الجثة بقدمه. نال ما يستحق!
من جديد، انفجر سيمون بالبكاء. ردد: "قتلت طفلة! قتلت طفلة! قتلت قطًا صغيرًا!"
- القط حيوان، كابورالي، قال روبن، وهو يريد أن يرفع معنوياته، وقتل عربي، طفل، شاب أو شيخ، ليس جريمة!
- قذر! رمى إسحاق وهو يرمي روبن بقبضته في صميم وجهه. قذر! ابن قحبة! منيك أمريكاني! تابع وهو يواصل لَكْمَ روبن قبل أن يصفعه هذا بكل قواه صفعة جهنمية، رد إسحاق بأفظع منها.
- توقفا! صاح خوليو. ألا تريان أننا في مخرأة مفعمة بماء الورد!؟
سقط كلب مذبوح من السقف على رأس سيمون، فقفز كالمنصعق، وأراد ترك المستودع بأي ثمن، غير أن رفاقه الثلاثة منعوه.
- هذا هو النباح القصير للكلب الذبيح، زعق سيمون. الرسالة واضحة، سيذبحوننا كالكلاب، كالكلاب!
- اهدأ، يا كابورالي، يلعن دين! زعق خوليو بدوره.
ثم، بكل هدوء يقدر عليه:
- لن يمكنهم فعل شيء ضدنا، فلن يتأخر الكولونيل شالوم وكل رفاقنا عن المجيء لعوننا.
- متى؟ ولماذا لم يجيئوا بعد؟
- لكن، كابورالي، ها نحن نصل المستودع.
- يجب مغادرته حالاً.
- لا نستطيع، كابورالي.
- لماذا؟ لماذا لا نستطيع؟ قل لي لماذا؟
- بعد مصرع البنت وقطها الص... من الممكن أن نكون محاصرين.
عاد سيمون إلى البكاء، وفكرة مقتل الطفلة وقطها تستبد به.
- أنا من قتلها، أنا من قتلها... ردد.
- كان الأمر أقوى منك.
- أنا من قتلها... حَسِبتها بالغة، شخصًا يريد مهاجمتنا، واحدًا من أولئك الشياطين الذين لا يتوقف التلفزيون عن الحديث عنهم.
- أرأيت، كابورالي؟ كان الأمر أقوى منك.
- أنا هنا لأقتل أولئك الشياطين الذين لا يكف التلفزيون عن التكلم عنهم، لألقن المتمردين الأربعة درسًا، الذين رفضوا القيام بالخدمة العسكرية في الأراضي، أنا هنا لأظهر لهم كل الشجاعة التي لي لا لأقتل طفلة صغيرة.
- كان الأمر أقوى منك، كابورالي.
- أنا هنا لأقتلع الشر وأعاقب الذين يعملون على إدامة الجريمة، لا لأحطم رأس طفلة تركض وراء قطها الصغير، لا لأقتل حيوانات تعسة.
- كان الأمر أقوى منك، كابورالي.
- كما تقول، كان الأمر أقوى مني. لكن البنت ماتت مع قطها الصغير.
- فات الأوان، كابورالي.
- كما تقول. فات الأوان، الآن.
- فات الأوان، كابورالي، ومن المستحيل التراجع. إنها الحرب.
- هذه الحرب التي تقتل الأطفال ليست حربي.
- فات الأوان، كابورالي.
- لا، ليست حربي. عندهم الحق، المنشقون، الحرب التي نخوضها في الأراضي حرب احتلال تقتل الأطفال. هذه الحرب ليست حربي.
- فات الأوان، كابورالي.
أشار إلى الكلب المذبوح:
- الرسالة واضحة، كما تقول خير قول، كابورالي. سيذبحوننا كالكلاب. لهذا يجب الدفاع عن أنفسنا، يجب خوضها حتى آخرها، ويجب كسبها.
- لا أريد هذه الحرب التي تقتل الأبرياء.
- فات الأوان، كابورالي.

يتبع القسم الثاني الفصل السابع2