ماذا رأى ابراهيم نصر الله فوق قمة كليمنجارو؟


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5316 - 2016 / 10 / 17 - 13:11
المحور: الادب والفن     


ماذا حصل فوق قمة جبل كليمنجارو قبل اكثر من ثلاث سنوات ونصف لقلب هذا الروائي المُبدع إبراهيم نصر الله المجبولة روحه وحروفه وعيونه بهوى فلسطين وجرحها؟ سكن الجبل قلبه واطلق فيه صرخة لم تهدأ إلا عندما سالت حروفاً روائية جميلة، شيقة ورشيقة بعنوان “ارواح كليمنجارو”. قارىء النص لا يقرأ وحسب بل يتسلق جبلاً، يتحدث مع الهواء، يغازل منحدرا هنا، ويماشي اشجاراً هناك، يحدق في قوافل الارواح التي جاءت إلى هنا تبحث عن شيء غامض. نص إبراهيم نصر الله يصنع اطرافاً صناعية للقراء حيثما كانوا ويبعث فيها الحياة والروح ليشاركوه وياسمين ومعتصم مغامرة التسلق الكبيرة، ياسمين ابنة نابلس بساق واحدة، ومعتصم ابن غزة بساق واحدة ايضا. كلاهما افقده جيش الإحتلال الاسرائيلي ساقاً في الانتفاضة الثانية. الوف المتسلقين لا يصلون إلى القمة ويتعبون، ياسمين ومعتصم وابراهيم يصلون إليها وفوقها يرفعون علم فلسطين. قبل صعوده الجبل بعدة اشهر التقيت إبراهيم في لندن، وتحدث بفرح مثير عن رحلته القادمه، وعن “جمعية إغاثة اطفال فلسطين” التي تنظم الرحلة. آنذاك فاوضت اوقاتي والتزاماتي بشراسة آملاً الإنضمام إليه في رحلة الإرتقاء الصوفي تلك، لكني فشلت، وكم ندمت. تفاقم ندمي قراءة كل صفحة من “ارواح كليمنجارو”. كانت ساقاي تختفيان ثم تنبتان من جديد وانا اقرأ الرواية، اركض مع ياسمين ومعتصم وابراهيم، اسابقهم، اتعب، اجلس، يسبقونني، الحقهم، ثم نركن جمعياً في خيمة.
“ارواح كليمنجارو” تنتشر من حولنا هذه الأيام لفوزها المُستحق تفوز بجائزة كتارا للرواية العربية. روح إبراهيم “الكليمنجاروية” ظلت مع اطفال فلسطين الذين قادوه إلى القمة فقدم قيمة الجائزة، ستين الف دولار، دعماً لجمعيتهم. إبراهيم يتفوق علينا جميعاً ويسبقنا جميعاً: بساقيه ونبله.
قبل ثلاث سنوات ونصف وإثر هزيمتي الفادحة امام وقتي والتزاماتي تابعت ورصدت رحلة الارواح الفلسطينية فوق جبل الحرية، بخليط من الحب لهم والنقمة على ذاتي: “ساق واحدة فقط تبقت لياسمين ابنة نابلس، وساق واحدة فقط تبقت لمعتصم ابن غزة، هما ما ورثاه من الانتفاضة الثانية في عمرهما القصير. كانت السنوات تركض متباهية لتكسو حياة الولدين، وكانت قنابلُ وحياةُ قاسية تسابق العمر لتبتر الساقين. اليوم ياسمين ومعتصم في عمر اليفاعة والمراهقة يجري كل منهما بساق بقيت واخرى صناعية استنبتت. بعد اسبوعين من الآن واكثر قليلا، في السابع عشر من يناير (2013)، سيكون الإثنان قد شرعا تسلق جبل كليمنجارو، رابع قمم العالم ارتفاعاً. سيتعقبان هاري بطل قصة أرنست همنجواي "ثلوج كليمنجارو" الهائم على وجهه بلا بوصلة وقد فقد معنى الحياة، وصار بلا هدف، فيمسحان بأيديهما الصغيرة عرق جبينه ويهدهدان قلقه ويقدمان له على طبق من امل حجرا مقدسا وغرفة ماء، وبوصلة حياة ومعنى. هناك فوق القمة الملتهبة من برودة "شيطان البرد" كما يعني اسم الجبل بالسواحلية سيُضرب موعد عشق بين جبل جرزيم وبحر غزة في رحلة السيقان النابتة دعما لحملات إغاثة الاطفال الفلسطينين المصابين او المرضى ممن لا يجدون من يساعدهم على استنهاض طرف فقدوه، او إنهاء مرض استبد بهم. الخشية الوحيدة في الرحلة هي في إغواء السباحة في الغيم الابيض الذي قد يستحوذ على معتصم ابن البحر وهاويه. من فوق القمة سيرى تحته البياض الكثيف فائضا بالماء. ستختلف الأمكنة وزوايا النظر. سينظر إلى القمة تحته. سيقف وياسمين فوق الغيوم كإلهين إغريقيين يمتطيان المطر فيهطل اقداما وسيقانا واياد تنبض بالدم وتطير عائدة إلى اولاد وبنات في هذه الارض تقدح عيونهم بالغضب كل صباح لأنهم فقدوها.
تتدرب ياسمين ويتدرب معتصم يوميا على المشي عدة كليومترات وعلى ظهر كل واحد منهما حمل ثقيل يكافىء حمل التسلق استعدادا لرحلة العمر. قبل الوصول الى القمة عليهما ان يمشيا ثمانين كيلومترا، ثم يتسلقان الجبل المهيب وقمته ذات الكيلومترات الستة. اهم ما في التحدي هو الوصول الى القمة وعدم التراجع من منتصف الطريق. سترافقهم ارواح وأدعية وقلوب. وسترافقهم روح طائرة لشاعر جاء معهم وقد انبثق من النقطة التي تتوسط جرزيم وبحر غزة تماما. بنبوءة الشاعر المُدهشة سطر لهم قبل عشر سنوات، وقبل ان تُبتر سيقانهم، مستقبلهم الجبلي، وكتب عن الحنة التي ستتركها اقدامهم فوق القمة، ويتساقط فوقها الضوء كأنما هم "مرايا ملائكة". يومها كتب اليراع الرهيف لإبراهيم نصر الله ":
"هناك الكثير ولكنهم ههنا لا يريدون غير الاقل
جدةً قرب رأس الصغيرة تحكي حكاياتها
لم تزر ذات يوم طبيبا ولم تتناول دواء
تدوركزيتونة في السهول وقبل صياح الديوك تشق دروب الامل
وبصحبتها يضربون المثل
هناك الكثير .. ولكنهم ههنا لا يريدون غير الاقل: صعود الجبل".
ابراهيم تصير روحة طفلة تطير يوميا ولا تكاد تصبر لتلتحق بالثلوج. يتدرب جسده يوميا على المشي الطويل وحمل اثقال التسلق على الظهر. سيرافق ياسمين ومعتصم ويشد لهم الأحصنة قادمة من "زمن الخيول البيضاء". في المساء يوقد لهم حطبا على بحيرة الغيم ويقرأ لهم شعرا وسيرة ملك في عكا كان يصنع قناديل للبحر. وفي النهار وهم يصعدون الامل ويغرسون في حنايا الجبل غصن نعنع مع كل توكىء على عصييهم، سيسرد عليهم كيف كان كليمنجارو مُلهما لثوار حرب التحرير في تنزانيا ضد الاستعمار، وكيف قادهم غموضه وكبرياءه الملتحف بالسماء إلى قيادة شعلة التحرر في القارة كلها. سيقول لهم: "ذات يوم كتب جوليوس نيريري احد قادة حركة التحرير التنزانية والرئيس الاول لها بعد الاستقلال: سنوقد شمعة على قمة الجبل لتضيء خارج حدودنا وتعطي الشعوب الامل في وضع يسوده اليأس، الحب في وضع يسوده الكراهية، والاحساس بالكرامة في وضع يسود فيه الإذلال".
كم كانت كلماته اخاذة ذلك القائد وكم نفذت الى قلب التاريخ والمستقبل. كليمنجارو ازداد غموضا وبهاءا وطقوسية. صار كالجد الخرافي لا للقارة الشابة وحدها، بل لكل يفاعة الشباب والانعتاق. تحول من جبل ثلجي يضيع فيه هاري وتلتبس الامور على همنغوي عند التأمل فيه إلى نار مشتعلة بالدفء، الى منارة وسط بحر الغيوم في السماء يستهدي بها المتسلقون نحو الامل، ينفضون اليأس ويدوسونه بسيقانهم الصناعية، يشدهم الى قمته وعد بالحب وموعد عشق يلتقي فيه الجبل والبحر، ومن هناك يرميان الكراهية في هاوية العدم.
ذلك السر الدفين في هذا الشيء الغامض المُسمى "الامل" هو ما دفع مئات المتطوعين لدعم ياسمين ومعتصم في رحلة السيقان النابتة نحو القمة. هو جزء من جهد ساقه الامل والحب وعوض مئات من الاطفال مثلهم ممن فقدوا اجزاء عزيزة عليهم من اجسادهم، وهو الجهد الذي ينتزع انحناءة تبجيل واجلال. لكن ياسين ومعتصم سيكونان اول مراهقين يتسلقان الثلج هناك بسيقان اصطناعية. وسيكونان بطبيعة الحال اول فلسطينين وعربيين يقومان بذلك. الجندي الدؤوب وراء الرحلة هي سوزان الهوبي عاشقة اخرى للامل والجبال والققم، واول عربية وفلسطينية تتسلق قمة أيفريست. كأنما مسها سحر القمم بعد ان عرفت طعم الغيوم من فوق الجبال. صارت تشد الاحصنة وتنافس الشاعر في جلب خيول من بياض الثلج، تجيء بها لبنات واولاد غرقوا في الدمع والبكاء على اجسادهم التي اقتنصت القنابل اجزاء منها، فتحملهم على ظهور خيول الثلج وتقودهم الى قمة لا بكاء فيها."
قريبا من القمة هناك فوق كليمنجارو حيث يثقل الهواء ويقل اكسجينه وتضرب الرئتان وقبلهما تكون الساقان قد أنهكتا، تتمرد ارواح الصاعدين على نداء الضعف الإنساني المُغري بالتوقف والعودة والبقاء في جانب السلامة. كلما صعدوا إلى القمة يرون الأشياء اكثر وضوحاً، يكتشفون ان وصولهم إلى الذروة يعني إكتشافهم للجبروت الداخلي في ذواتهم هم. الجبل المهيب والصامت لا يمدهم بقوة خارجية ولا بسحر يأتي من عوالم لم يعهدها البشر. كل ما يقوم به هو مساعدتهم على إكتشاف ارواحهم ودفعها للوثوب، ولديمومة الفوران: "...الجبل لن يمنحك كرامة وانت مُنتهك الكرامة، ولن يعطيك نصرا وانت مهزوم. الجبل يريد روحا قوية تشبهه، حتى يستطيع التواصل معها والاندماج معها والإنحناء لها ايضا في طريقها إلى قمته" ( اروح كليمنجارو، ص 317). هكذا قالت ريما التي صعدت كليمنجارو مرات عديدة وهي تقود فرق المتسلقين والقادمين والمتحمسين. صارت تعرف عن قرب مدى قرب الناس إلى الجبل وتماهي ارواحهم فيه، او عدم تلاقيهم مع روحه الصامتة الغامضة.