قلب العالم العربى والثورات ومواجهة الإمبريالية


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 5307 - 2016 / 10 / 7 - 17:57
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

قلب العالم العربى والثورات ومواجهة الإمبريالية
مقدمة
منذ بدء الثورات العربية من ست سنوات والمنطقة تخوض صراعا عنيفا مازال جاريا حتى الآن، وتتشكل وفقه خريطة جديدة للمنطقة. لم تتحدد الخريطة بعد، وليست أبعاد تشكل الخريطة بالوضوح الكافى فى نظر الكثيرين، كما أن هناك ما لن تقدر على حسمه التوقعات التفصيلية حيث إن صراع موازين القوى على الساحة ما زال دائرا لم تحسم نتيجته، ولم يقل فيه التاريخ كلمة "نهائية" ولو إلى فترة من الاستقرار، ولكن المؤكد أن شيئا لا يمكن أن يعود إلى الوراء.
ورغم أننا نتحدث عن أحداث مازالت جارية حتى الآن وهناك بالطبع مفاجآت، إلا أننا لا نملك ترف الصمت فى انتظار النتيجة إذا ما أردنا أن نكون عنصرا فاعلا فى المساهمة فى تشكيل مستقبل هذه الشعوب وفق مصالحها. ومن هنا محاولة تأمل ملامح تطور تشكل لوحة المنطقة فى الفترة الأخيرة، وظروف تشكلها على النحو التى هى عليه الآن، وميزان القوى فى الصراع الراهن، وتكتيك المراهنة على القوى الشعبية الجماهيرية لتطوير ميزان القوى الراهن لتحقيق مصالحها.
وما دام قدر منطقتنا أن تسعى للنهوض فى وقت سادت فيه الإمبريالية العالم كله فلم تتمكن من الفكاك بالكامل من قيود التبعية للاستعمار، وحكم الصراع ضد المستعمر قسما مهما من تاريخنا. ومنذ انهيار المعسكر الاشتراكى حول عام 1990 وبداية عصر العالم أحادى القطبية برئاسة أمريكا ازدادت شراسة المعسكر الرأسمالى وعدوانيته ورغبته فى مزيد من السيطرة على العالم. انعكس هذا، رغما عن الغطاء الدعائى بالكفاح ضد الإرهاب، فى السعىّ فى الحقيقة للهيمنة على العالم، وللعداء وتفتيت الدول القومية وإحكام السيطرة الاقتصادية والعسكرية عليها تحت مسميات محاربة القومية المتطرفة extreme nationalism والقومية الراديكالية إذا صحت هذه الترجمة مع التصرف لكلمة fundamental nationalism. (أنظر فى ذلك مقالنا فى الحوار المتمدن بعنوان (هل هناك خطر جدى لتفتيت الدول العربية؟).
وإذا كان الكتاب الاستراتيجيون الإسرائيليون يتحدثون منذ الثمانينات عن خطأ سايكس بيكو التاريخى وأهمية تفتيت الدول العربية إلى دويلات متعددة على أساس عرقى ودينى فإن تلك أصبحت السياسة المعتمدة أمريكيا على الأقل منذ تبنى المحافظين الجدد فى أمريكا بوش الابن عام 2003 لها، والاتفاق السرى مع الإخوان المسلمين عليها، حيث تتلاقى المصالح بين الإخوان الذين لا يؤمنون أصلا بالوطنية والتراب ويعتبرونها من أصنام العصر الحديث، ويكفيهم مظلة شكلية لخلافة إسلامية مزعومة كغطاء لمشاركتهم فى تفتيت الدول القومية، مع مصالح الإمبريالية فى الاقتصاد الحر والهيمنة، وبالتالى أصبح هناك أساس مشترك لمساعدة الغرب للإخوان فى الوصول للحكم فى الدول العربية شرط التزامها بالتفتيت القومى للدول العربية وبناء الشرق الأوسط الجديد، وضمان السياسات الليبرالية الاقتصادية التى يؤمن بها أصلا الإخوان. أُعلِن أن هذا الاتفاق قد تم تأكيده فى اجتماع تم فى أوروبا عام 2010 بين ممثلى المخابرات الأمريكية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، قبل أى ربيع عربى.
يهمنا هنا توضيح نقطة حول فهم التاريخ بين مفهوم المؤامرات الخارجية وتفاعل القوى الاجتماعية. بالطبع هناك مؤامرات فى التاريخ، ولكن تفسير الأحداث الكبرى فى التاريخ باعتبارها مؤامرات يجعل البشر عرائس ماريونيت تلعب بها قوة واحدة قاهرة والباقى كلهم عديمو الإرادة ليس لهم من أمرهم شيئا ولا فاعلية فى تحديد مستقبلهم. إن تفاعل القوى الاجتماعية الطبقية الحية وميزان القوى الطبقية هو ما يصنع الأحداث التاريخية، حتى لو احتوى ذلك فى داخله على بعض المؤامرات. المثال البارز هنا هو أن الإخوان المسلمين فى مصر كانوا تنظيما سياسيا يخطط للوصول للحكم عبر تنمية قواتهم العسكرية، وتقوية تنظيمهم المدنى، وتطوير تغلغلهم فى أجهزة الدولة المختلفة، وكانوا يخططون أنهم سوف يمكنهم الاستيلاء على الحكم فى مصر عام 2018. ولم يثمنوا فى البداية إمكانيات ثورة 25 يناير وقرروا عدم المشاركة فيها.
أما فى الحقيقة فقد كانت أوضاع السخط الجماهيرى من الاستغلال والقهر المشترك الواقع على الجماهير العربية من عبئ التبعية ومن قهر واستغلال طبقاتها الحاكمة يتصاعد حتى رأينا على الأقل فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بالذات تصاعدا منتظما فى الحركات الجماهيرية ونشأة تنظيمات جماهيرية نقابية وسياسية وأهلية مهما كانت جنينية وصغيرة، وكذلك تفاقم مستوى السخط الشعبى وتطور الحركات الاحتجاجية والإضرابية، بحيث كان كل مشارك أو متابع قريب لتلك الحركات يتوقع شيئا كبيرا، وإن لم يتوقع الأغلبية ثورة عارمة.
بالمثل، لم يكن بعيدا عن إدراك أجهزة المخابرات الغربية مستوى الضعف الذى وصل له النظام الداخلى فى مصر وفى جميع الدول العربية، وكانوا يعتبرون أن الإخوان المسلمين هم البديل الملائم فى المنطقة باعتباره العنصر الداخلى المُنَظَّم الذى اتفقوا معه على مخطط تفتيت الدول العربية. ولكن لم يكن لهذا موعد محدد إنما يتفاعل هذا المخطط مع الأحداث الجارية، وتتطور الخطة فى الزمن. والإمبريالية أيضا فى بداية ما عرّفوه بعد ذلك بثورات الربيع العربى، كانوا مع دعم الأنظمة التابعة لهم بالذات فى تونس ومصر. ولكن بعد الأبعاد الشعبية الواسعة التى اتخذها السخط الشعبى وأصبحت ثورة فى الشوارع بالملايين قرروا ركوب الموجة والاحتفاء بها كثورة ديمقراطية، ذكرتهم بربيع براج وانهيار دول أوروبا الشرقية، ومن هنا أطلقوا عليه اسم الربيع العربى، ودعموا استغلال الفرصة لتمرير مخططهم فى خلق الشرق الأوسط الجديد المفتت والخاضع لهم بحكم شركائهم من الإخوان المسلمين وغيرهم من المتأسلمين، ومعهم بعض التيارات الليبرالية التى لا تختلف معهم على مبدأ الليبرالية الاقتصادية.
عندما انفجرت الثورة فى تونس أولا ثم فى مصر. وبعد الأيام الأولى التى اتضح فيها أننا لسنا أمام انتفاضة محدودة ولكنها نضال مستمر يقدم مئات الشهداء وعنده القدرة على مواصلة النضال، وعندما اتضحت للإخوان أنها ثورة حقيقية، وأنها أدت مثلا فى مصر فى رابع يوم لها (الجمعة 28 يوليو 2011) إلى انهيار جهاز الشرطة، قرر المعسكر المعادى من إخوان وإمبريالية أن الفرصة متاحة أمامهما لتنفيذ مخططهم الخاص بوثوبهم إلى السلطة باعتبارهم أكبر فصيل معارض منظم ويمتلك جهازا شبه عسكرى، غير صلاتهم بالطبع بالأعوان الدوليين فى التنظيم الدولى وعلى رأسهم حماس على الحدود، وفى نفس الوقت تكثيف الاستغلال الأمبريالى للمنطقة.
من هنا بدأ التكتيك الاستعمارى الأمريكى الغربى بمساعدة الإخوان لإسقاط الأنظمة الحاكمة فى المنطقة. بدأ الغرب بالترحيب والتهليل للثورات العربية، وأمريكا تتعلم منها وانجلترا سوف تدرسها فى المدارس! وفى نفس الوقت أدركت الأنظمة العربية أنها أمام ثورات لابد وأن تقتضى منها خطة للمواجهة تستدعى القيام بتغيرات ضرورية تتضمن بعض التنازلات مع الحفاظ على الحد الأقصى الذى يمكنها الحفاظ عليه من نظامها القديم.
يجب ألا ننسى أن أنظمة الدول العربية الأكثر نموا ومأسسة لجهاز الدولة، والتى تمتلك جيوشا نظامية تدرِّس فى معاهدها العسكرية وكليات أركان الحرب عقيدة الأمن القومى التى مفادها الحفاظ على النظام من الأعداء الخارجيين والداخليين. وتُدَرِّس فى حماية الأنظمة من المخاطر الداخلية حماية النظام من ثورات الشعب بدءا من قمع التمردات والانتفاضات وحتى مواجهة الثورات إما بالمذابح الواسعة أو بالتبريد والاحتواء، وتقديم أقل التنازلات، ومحاولة استعادة أغلب ما يمكن من ملامح الأنظمة التى ثار عليها الشعب. بل إنه حتى فى الدول التى لم تبنِ أنظمة ومؤسسات الدول الحديثة كلها فهى تتقن بالضرورة فن الحكم والاستمرار بمختلف الطرق بما فيها زرع الفتن بين فئات الشعب المختلفة (أعراق، ديانات، قبائل) حسب طبيعة الشعب.
كان هناك ملامح مشتركة بين ثورات الدول العربية فى تلك الفترة، كما كان هناك بالطبع خصوصية لكل بلد حسب سماته التاريخية الخاصة من تطور المؤسسات العامة الحكومية والمعارضة، ودرجة تطور النضال الجماهيرى، والواقع الإثنى والقبلى والدينى..الخ.
السمات المشتركة للثورات العربية
1. بروز التيارات الإسلامية
ومن أهم الملامح المشتركة بين الدول العربية بروز الدور السياسى المتنامى للتيارات الإسلامية، وصعودها فى الانتخابات الأولى بعد الثورات، وهو ما يعود إلى ما سبق توضيحه من كونه أكثر التيارات تنظيما واتساعا بحكم ظروف تاريخية لا مجال لاستعراضها هنا، كما يعود كذلك إلى تفضيل كل من الإمبريالية والأنظمة الحاكمة القديمة فى الدول العربية لمشاركة تلك التيارات الأقرب إليها من المعارضة الجماهيرية الديمقراطية الحقيقية بسبب من اتفاقهما على مصالح الاستغلال الطبقية (كونهم جزءا من الطبقات المالكة الكبيرة) وقبولهم لدرجة محدودة من الديمقراطية تستند إلى الشكل البرلمانى فى الحكم دون أن تشتمل على الديمقراطية للجماهير المتمثلة فى حقوق التعبير والتظاهر والإضراب وغيرها. ولكن هناك أيضا سبب آخر لصعود التيارات الإسلامية يتمثل فى حسن ظن أغلبية واسعة من الجمهور بها، ويعود ذلك إلى التعاطف معهم كفئة مضطهدة، مع حسن الظن بهم كفئة تدافع عن الأخلاق وضد الفساد. ولكن ذلك بالطبع يعنى محدودية تسييس الجماهير وانخفاض وعيهم السياسى بالأهداف الحقيقية للتيارات السياسية المختلفة، بسبب من سيادة ديكتاتوريات الأنظمة وغياب مناخ الحريات الديمقراطية القادر وحده على رفع وعى الجماهير، وتواضع الصراع الطبقى قبل الثورات، وهو القادر على فرز التيارات المختلفة من حيث اقترابها أو ابتعادها عن تأييد مصالح الجماهير الحقيقية.
انعكس هذا فى حيازة التيارات الدينية لأعلى نسبة أصوات فى انتخابات أول مجلس يضم معنى المجلس التشريعى والجمعية التأسيسية معا فى تونس (41% من المقاعد للنهضة تيار الغنوشى الإسلامى)، وكذلك فى مصر فى البرلمان المنتخب فى ديسمبر 2011 وحاز الإخوان والتيارات الدينية الأخرى نسبة 71% من المقاعد، وفى المؤتمر الوطنى العام فى ليبيا وفى اليمن (حزب الإصلاح) أيضا.
2. تراجع التيارات الإسلامية
إلا أن من أهم السمات المشتركة بين أغلبية الدول العربية هو التراجع السريع الضخم فى التأييد الشعبى لتلك التيارات الإسلامية. وبرز هذا فى تراجع عدد المقاعد التى حصلت عليها التيارات الإسلامية فى ثانى انتخابات برلمانية فى كل من تونس وليبيا (انتخابات مجلس النواب الليبى كما سيرد). إلا أن أكبر خسارة منى بها التيار الإسلامى كانت فى مصر، بقيام ثورة 30 يونيو ضد حكم الإخوان التى سنتعرض لها لاحقا.
يعود هذا فى رأينا إلى جوهر التناقض الكامن بين الأهداف التى وضعتها الحركات الجماهيرية الثورية كأهداف لثوراتها "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية" وذلك عن طريق ثورى "الشعب يريد إسقاط النظام" وبين عقيدة التيارات الإسلامية التى وضحت فى سلوكهم عندما شاركوا فى الحكم كتيارات ممثلة لقطاعات من الطبقات المالكة الكبيرة، والرافضة لتحقيق مصالح الشعب الاقتصادية فى العدالة الاجتماعية، والمتواطئة مع المخططات الإمبريالية، والرافضة للحقوق الديمقراطية للطبقات الشعبية.
3. زيادة التدخل الإمبريالى المباشر وغير المباشر
كما أوضحنا لم تكن الدوائر الإمبريالية فى أى وقت بعيدة عن التأثير فى التحركات فى المنطقة قبل وبالذات أثناء الثورات العربية، رغم تبعية المنطقة للإمبريالية، وذلك من أجل معاظمة نفوذها وتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الكبير ومفاقمة استغلالها لدول المنطقة.
برز دور التدخل الإمبريالى المباشر فى ليبيا كأبرز مثال، كما برز أيضا فى سوريا. لكنه كان واضحا أيضا فى كل من العراق ومصر واليمن وغيرها. ونرجئ تفاصيل توضيح ذلك الدور إلى ملاحظاتنا السريعة على المسار المستقل الذى اتخذته الثورات فى بعض بلدان القلب العربى.
4. الحركات الثورية بين رجعية الأنظمة وعداء الإمبريالية والأخوان للدول القومية
تعرضت الحركة الثورية فى مصر وسوريا بالأخص إلى تناقض أصيل تاريخيا على هذا النحو على الأقل من الزاوية التفصيلية. لقد ثارت تلك الحركات على أنظمتها الاستغلالية الاستبدادية. ولكنها وجدت أن كيان دولها ذاته مهدد من قبل قوى الإمبريالية المتحالفة مع الرجعية الدينية فى الداخل، وأصبحت بين فكى الرحى: إما استمرار النضال ضد النظام القديم والتضحية بالوقوع تحت هيمنة تحالف الرجعية الدينية والاستعمار، وإما التصدى لتحالف الرجعية الدينية مع الإمبريالية مما يعنى بالضرورة درجة من تأجيل الصراع المصيرى مع الأنظمة وممارسته ضمن حدود معينة. ولا يعنى بالطبع مساندة موقف النظام من زاوية عدائه لمخطط التفتيت القومى التطابق مع سياسات النظام، ولكنه يعنى تأييد مواجهة الإمبريالية ومحاولة طبع تلك المواجهة بطابع شعبى، مع أخذ موقف نقدى من النظام فى كل خطواته السياسية والاقتصادية المعادية لمصالح الجماهير، ولكن التأجيل المؤقت لشعارات إسقاطه وهو يقف فى مواجهة خطة الإرهاب والإمبريالية للتفتيت القومى. ولعل تفاصيل ذلك التناقض لا تتضح إلا بتتبع المسار الخاص لكل دولة على حدة كما سنحاول أن نفعل على نحو موجز فيما سيلى.
بعض الدول العربية وخصوصية المسار
مصر
منذ بداية الثورة فى مصر، وعندما اتضح أنه لا يمكن استيعاب الثورة إلا بالاستجابة إلى بعض مطالبها العاجلة ثم محاولة الالتفاف عليها وتبريدها، قرر المجلس العسكرى عدة قرارات هامة أُعلِنت منذ الثانى عشر من فبراير عام 2011. فبعد تنحية مبارك تم الحديث عن تحديد مدة الرئاسة بفترتين فقط مدة كل منهما 4 سنوات. كما قرر المجلس العسكرى مواجهة الثورة بالاحتواء والتحالف مع الإخوان المسلمين وبعض اتباعهم الإسلاميين باعتبارهم أكبر فصيل معارض، وفى نفس الوقت يشترك مع الحكومة فى الانحياز لليبرالية الاقتصادية، من أجل حصار وقهر قوى الثورة الشعبية ومطالب الجماهير العادلة. قرر المجلس العسكرى القبول بمشاركة الإخوان وتيار الإسلام السياسى مشاركة لها حدودها فى السلطة السياسية، بدلا من الوضع السابق الذى كان فيه الإخوان يمثلون قسما من الطبقات المالكة الكبيرة ولكنهم غير ممثلين فى السلطة السياسية.
كان الاتفاق الأول أن أغلبية السلطة التشريعية، محدودة الفعالية فى البلدان الاستبدادية، سوف تمنح للإخوان فيما تظل السلطة التنفيذية وأجهزة الحكم من جيش وشرطة وبوليس وبيروقراطية فى يد المجلس العسكرى ومن يختاره رئيسا للجمهورية. تعهد الإخوان بعدم ترشيح أحد لمنصب رئيس الجمهورية.
لكن بعد أن حقق الإخوان والإسلاميين الأغلبية فى مجلس الشعب الذى انعقد لأول مرة فى يناير 2012 واغتر بقوته ومساندة أمريكا له عاد فرشح الشاطر ثم محمد مرسى رئيسا للجمهورية فى مواجهة أحمد شفيق ممثل المجلس العسكرى. ضغط الإخوان بعنف وهددوا بحرق البلد إذا ما أُعِلن خسارة مرسى. وضغطت أمريكا أيضا بكل عنف لانتخاب مرسى إلى درجة تقديم استجواب بالكونجرس عن أوجه صرف المعونة العسكرية الأمريكية طوال الأعوام الأربعة والعشرين المنقضية منذ كامب دافيد (!) مهددين بقطع المعونة العسكرية الأمريكية لمصر.
قرر المجلس العسكرى إعلان فوز مرسى، وحصن نفسه بإعلان دستورى يعطيه وحده الحق فى تعيين وزيرالدفاع. لا شك فى أن نية المجلس العسكرى كانت إشراك قطاع من الطبقة المالكة الكبيرة، الإسلام السياسى، فى الحكم معه، مع الصراع على الأنصبة، بنيّة الحفاظ على نصيب الأسد له بحكم سيطرته على أجهزة القوة من جيش ومخابرات وبوليس. وتراجعت لجنة الكونجرس عن مطالب إحراج المجلس العسكرى بتقديم قائمة بأوجه صرفه للمعونات العسكرية منذ كامب دافيد قائلين أن سياستهم تقوم على عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول (!)، وهذا طبعا بعد إعلان فوز مرسى. إلا أن الإخوان المسلمين كان لهم رأى آخر.
بدأ الإخوان فور تولية مرسى فى السعى للانفراد بالحكم دون مشاركة الأجهزة المعبرة عن الطبقات المسيطرة السابقة، مع محاولة استبعادها بالكامل. كما بدأوا بحماس فى أخونة جهاز الدولة والإعلان عن بقائهم فى الحكم لخمسمائة عام على الأقل! دبر الإخوان مع حماس مذبحة الجنود المصريين على الحدود مع إسرائيل لكى يقيل مرسى المجلس العسكرى ويلغى إعلانه الدستورى. ولما لم يكن لهم اختراق عالى المستوى فى قيادات الجيش فقد عينوا السيسى وزيرا للدفاع متوسمين فيه إمكان محاباتهم، على الأقل لحين إعداد بديل. كما ساروا بعيدا فى أخونة جهاز الدولة بتعيين ثلاثة عشر ألفا من الموظفين بالذات فى المحليات والتعليم، الأجهزة التى تُنتَدب عادة للإشراف على الانتخابات.
اتضحت نوايا الإخوان الحقيقية، وبدأت ثورات الجماهير ضدهم بالذات منذ مرور 100 يوم على تولى مرسى، كانت كافية لفضح حقيقة حكم الإخوان فى نظر الجماهير. حدد الإخوان أن أبرز أعدائهم هم القضاء (الذى حكم ببطلان جمعيتهم التأسيسية) والإعلام، بالذات قنوات التلفزيون الخاصة التى أخذت كلها تقريبا (ماعدا التابع لهم) فى مهاجمة سياستهم بعنف. بدأ الإخوان الحرب على كل من القضاء والإعلام بمحاصرة المحكمة الدستورية العليا، ومحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامى، وإصدار إعلان مرسى الدستورى فى نوفمبر 2012 بعد أقل من خمسة أشهر من توليه، الذى حصن جميع قراراته ومنحه سلطات مطلقة.
استمر وتوسع انفجار الحركات الجماهيرية ضدهم، وانحاز ضدهم أيضا جهاز الدولة من جيش ومخابرات والكثير من قيادات الشرطة. كما كونت المعارضة الليبرالية واليسارية معا جبهة الإنقاذ صبيحة إعلان مرسى الدستورى. بدأت معركة مجتمعية شاملة ضد الإخوان شملت جهاز الدولة القديم البيروقراطى والعسكرى، وشملت أيضا المعارضة الجماهيرية الثورية، والمعارضة الليبرالية. ولم يكن من الممكن حسم المعركة بالشعب وحده نظرا لوجود الوحدات العسكرية المنظمة لدى تنظيم الإخوان وباقى التنظيمات الإسلامية، وكذلك تبعية حماس له، وهذا يقتضى على الأقل فترة طويلة من الكفاح والمذابح حتى يتمكن الشعب وحده من تشكيل ميليشيات ثورية ضد الإخوان. كما لم يكن ممكنا للجيش وحده القيام بانقلاب عسكرى ضد الإخوان نظرا لمعاداة العالم الديمقراطى للانقلابات العسكرية وتربص أمريكا والغرب المتحالفين مع للإخوان بأى تحرك مضاد، والإمكانية العالية لاتخاذه ذريعة للتدخل العسكرى المباشر على غرار النموذجين الليبى والسورى. ومن هنا نبعت الضرورة لتحالف مؤقت أو للسير منفردين والضرب معا ضد الإخوان بين كل من الحركة الجماهيرية، والمعارضة الليبرالية المحدودة، وجهاز الدولة القديم بشقيه البيروقراطى والعسكرى.
نجح هذا "التحالف" المؤقت فى إسقاط نظام الإخوان فى ثورة 30 يونيو، حيث خرجت الجماهير بعشرات الملايين إلى الشوارع ضد حكم المرشد وضد الإخوان وحلفائهم، كما ساندهم الجيش بتحييد الجهاز العسكرى للإخوان والسيطرة السريعة على مفاصل الحكم فى البلاد والقبض على مرسى. شهدت الأيام الأخيرة لمرسى جهودا ضخمة للغرب فى مساندته تشمل استخدام سيارات السفارات القطرية والتركية فى إدخال الأسلحة إلى اعتصام رابعة، ونصائح السفيرة الأمريكية للإخوان بإعلان حكومة فى رابعة، ومحاولة تصدى الإخوان عسكريا لجهاز الدولة العسكرى بشكل فعال ولو لمدة قصيرة تتيح للغرب التدخل عسكريا لنصرة الإخوان باعتبار أن البلاد قد دخلت فى حرب أهلية على غرار السيناريو الليبى السورى. وبالفعل تحركت بارجتان أمريكيتان قرب مصر بعد 30 يونيو مباشرة، وهو ما أعقبه تحليق طيارات هليكوبتر مصرية فوقها وتحرك واسع للأسطول الروسى والتهديد بالتدخل المضاد إذا قام الغرب بالتدخل.
لم تهدأ الحملة السياسية الغربية ضد ثورة 30 يونيو. ومن أدلة نفاق الغرب أن ثورة 30 يونيو التى جاءت برئيس مدنى هو عدلى منصور رئيس المحكمة الدستورية العليا، وبحكومة مدنية نصفها من رجال مبارك ونصفها من المعارضة الليبرالية لأحزاب الدستور والمصرى الديمقراطى الاجتماعى مع وزيرين ينتميان للجناح الناصرى فى المعارضة شعبية الطابع، لقيت هجوما كاسحا من الغرب باعتبارها انقلابا عسكريا، فى الوقت الذى لم تطلق تلك التهمة على حكم المجلس العسكرى الصريح فى أعقاب تنحية مبارك، لموافقة الغرب على تنحية مبارك لصالح مستقبل حكم الإخوان، ومعارضة الغرب أيضا للرغبة الشعبية الهائلة فى إسقاط الإخوان!
حدد ميزان القوى الطبقية بين الشعب الثائر من جهة، والمعارضة الليبرالية المحدودة من جهة أخرى، ونظام جهاز الدولة القديم (المباركى فى معظمه) نوع الحكم الجديد. كسبت المعارضة الليبرالية قسما من السلطة التنفيذية تحت رقابة مشددة من نصف مجلس الوزراء المباركى بجانب سلطة الأجهزة العسكرية بالطبع. مثلت المعارضة الشعبية فى مجلس الوزراء الأول بعد الإطاحة بمرسى بوزيرين ينتميان للمعارضة الشعبية ناصرية الطابع، وسط حصار شديد لم يمكنهما من التأثير إلا فى أضيق الحدود، بل وخضع بعضهم لتقديم تنازلات هامة للحكم. ولكن أكبر مكسب شعبى فى أعقاب ثورة 30 يونيو فى ظل فضل الحركة الجماهيرية فى الإطاحة بالإخوان، وفى ظل التربض العدوانى من الغرب بالنظام الجديد ودعمه للمعارضة العسكرية للنظام من خلال الإخوان وأشقائه من المعارضة الإسلامية المسلحة، أقول أكبر مكسب شعبى فى ظل هذا التوازن الطبقى الداخلى والدولى كان بلا شك دستور يناير 2014.
اشتملت لجنة الخمسين لوضع الدستور على قسم هام من جهاز الدولة المباركى، وقسم هام من المفكرين والسياسيين التقدميين المدافعين عن حقوق الشعب ولهم تاريخهم فى حركة كفاية وفى حركات الأدباء والمثقفين والفنانين التقدمية، وفى مجموعة دينية من الأزهر والقوى السلفية، ومن بعض القوى الليبرالية. وكانت محصلة هذا هو أفضل دستور رأسمالى فى تاريخ مصر يقر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية، وينتهج الديمقراطية (تطبيقه بعد ذلك قصة أخرى)، ويؤسس لدولة وسط بين الدولة الرئاسية والبرلمانية مع تغليب الجانب الرئاسى.
برز تناقض هام أمام كل من القوى الحاكمة وكذلك أمام القوى الشعبية. فإذا تعرضنا فى البداية للقوى الحاكمة فرغم تبعيتها لأمريكا منذ أيام السادات – مبارك، إلا أنهم اكتشفوا أن أمريكا قد تخلت عنهم لصالح من يوافق على تفتيت الدولة القومية وأخونتها تحت زعم إحياء الخلافة، ويوافق على حل للقضية الفلسطينية على حساب تهجير فلسطينيين إلى سيناء، وهو ما رفضه مبارك من قبل، ويطيح بجهاز الدولة الحديث فى مصر ويلغى استقلال القضاء ويعلى سلطة الفقيه فوق كل سلطة. كان هذا أكبر اصطدام للنظام بأمريكا والغرب منذ تبنى سياسة الانفتاح الاقتصادى عام 1974 (الليبرالية الاقتصادية) وتوقيع اتفاقية كامب دافيد 1978 ومعاهدة السلام مع إسرائيل 1979. وكان التحضير لثورة 30 يونيو يتضمن زيارة السيسى فى إبريل 2013 (وهو ما زال بعد وزيرا للدفاع فى نظام مرسى) إلى السعودية وروسيا.
كانت السعودية والإمارات والكويت تساعد الإخوان المسلمين شرط ألا يقومون بافتتاح فروع لهم أو أنشطة فى دولهم المضيفة وأن يقتصر نشاطهم على البلاد من نوع مصر وسوريا وغيرهما من البلاد العربية والأجنبية الأخرى. ولكن بعد كشف خلية الإخوان فى الإمارات وما تردد عن اكتشاف المخابرات السعودية لأنشطة هامة للإخوان المسلمين داخل المملكة، أدرك الملك عبدالله بالذات ما أدركه النظام المصرى من أن أمريكا مستعدة للتضحية بهم هم المخلصون لأمريكا لصالح الإخوان الأكثر تبعية لها، والذين يوافقون على مخطط التفتيت القومى الذى لا يقتصر على تحويل مصر لدولة نوبية ودولة مسيحية ودولة إسلامية وإمارة سيناء الإسلامية التى يسيطر عليها الإرهاب الإسلامى والمسلمين، ولا على تحويل سوريا إلى دويلات متعددة علوية ومسيحية ودرزية وكردية وغيرها، ولكنه يتضمن أيضا تفتيت السعودية إلى الحجاز ونجد والمنطقة الشرقية.
لهذا وافق الملك عبدالله على دعم نظام السيسى إذا أتى للحكم مسقطا حكم الإخوان ومرسى دعما ماليا من قبل دول مجلس التعاون الخليجى (ماعدا قطر بالطبع) بما فيها دعم صفقة عسكرية مع روسيا كبديل للحصار العسكرى الذى سيتم فرضه بالضرورة من أمريكا والغرب بعد الإطاحة بمرسى. ثم خرج السيسى من السعودية إلى روسيا حيث قابل بوتين وضمن دعمه لمصر اقتصاديا وعسكريا فى معركته المقبلة مع الإخوان التى تتضمن بالضرورة صداما مع أمريكا والغرب، خصوصا من ناحية الإمداد بالأسلحة والذخائر.
حدث ما تم توقعه من ناحية مطالبة أمريكا والغرب بعودة مرسى رئيسا "شرعيا" فى مقابل اعتبارهم خروج أكثر من ثلاثين مليونا من المصريين ضد مرسى "غير شرعى"، وتمت القطيعة بين مصر والغرب وعلى رأسه أمريكا اقتصاديا وعسكريا ما عدا دعم معارضة الإرهابيين من الإخوان وأتباعهم ضد النظام المصرى.
بالطبع استفاد النظام المصرى الجديد من بزوغ العالم متعدد الأقطاب، ولجأ إلى دول مجموعة البريكس وعلى رأسها روسيا والصين. كما دعَّمت دول مجلس التعاون الخليجى (ما عدا قطر بالطبع) مصر خلال عام (يونيو 2013- يونيو 2014) بسبعة عشر مليار دولار غير أربع مليارات دولار معونة عسكرية لشراء أسلحة من روسيا، كلها غير مشروطة. أثار هذا غضب أمريكا التى تنبأت بإفلاس مصر وطالبت ردا على ذلك بالدعوة لتكوين كونسورتيوم لدعم مصر اقتصاديا يضم دول الخليج والغرب وأمريكا وجنوب شرق آسيا، ولكن بزعامة صندوق النقد الدولى حتى يأتى هذا الدعم الاقتصادى مشروطا بشروط التوجه الاقتصادى الليبرالى والسياسى الغربى!
ظلت سياسة القطيعة مع الغرب هى السياسة المتبعة منذ ثورة 30 يونيو 2013 وحتى نهاية عام 2014. وانفتح المجال تدريجيا لعروض بقروض ومساعدات لمصر من دول البريكس، وإن لم تُستغَل كل الفرص. مثلت تلك الظروف فرصة سانحة لمصر: إن محاولة دعم المواجهة مع الغرب والاستقواء بالدعم الشرقى ذو الشروط الأفضل (أنظر مثلا العرض الروسى بإنشاء ستة إلى ثمانية مفاعلات نووية فى منطقة الضبعة المصرية من أحدث طراز وبشروط مخففة جدا تشمل فترة سماح 5 سنوات والتسديد على ثلاثين سنة من إنتاج المفاعلات من الكهرباء) كان لابد وأن تلقى تأييد القوى الشعبية الواعية فى مصر.
أدرك الشعب المصرى بوعيه الفطرى أنه لا مجال لاستئناف الأنشطة الجماهيرية الثورية لتحقيق مطالبه، وتراجعت الأنشطة الجماهيرية تاركة الساحة للقوات المسلحة والشرطة فى أنشطتها العسكرية الناجحة ضد الإخوان. لم يؤدِ إلى التأثير المطلوب دعوة القوى الثورية الحقيقية إلى توسيع المواجهة مع الإرهاب لكى تشتمل على المواجهة الجماهيرية والثقافية وعلى كافة المجالات. وأعتبرُ شخصيا أن أحداث الثورة قد انتهت عمليا بنهاية عام 2013 حيث استمرت الموجة الثورية طوال ثلاثة أعوام، ثم تضاءلت تدريجيا أشكال النضال الجماهيرى الواسعة نظرا لعنف المواجهة بين جهاز الدولة والإرهاب الإخوانى الإسلامى.
أدركت القوى الواعية فى مصر احتمال أن يؤدى تعميق الخلاف بين النظام والغرب والاستعانة بدول البريكس إلى إمكانية التحول التدريجى فى اتجاه تعظيم القوة الإنتاجية الزراعية الصناعية وتغيير الاعتماد الكلى العسكرى على الغرب، ولكن بالطبع لم يكن حتميا انتهاج هذا السبيل)، وحاولوا الضغط فى اتجاهه من أجل تقليص التبعية للغرب والاعتماد على الذات بتنمية القوى الإنتاجية الزراعية والصناعية، وتطوير التعليم والصحة من أجل خلق قاعدة التنمية البشرية وتطوير التكنولوجيا واحتمال دخول مصر فى مصاف الدول الصناعية الجديدة، وهو للأسف ما لم يتحقق.
انقسم اليسار المصرى بشقية القومى واليسارى تجاه الموقف من النظام بعد 30 يونيو: هناك أجزاء من اليسار رأت أن الخطر الرئيسى على مصر هو خطر إعادة بناء الدولة الاستبدادية العسكرية على غرار دولة مبارك، وقللت من مخاطر المخطط الإسلاموى الإمبريالى على تفتيت الدولة فى مصر والوطن العربى. على هذا الأساس قررت التحالف مع بعض فصائل الإسلام السياسى على غرار حزب مصر القوية، أو حتى الإخوان فى بعض الأحوال، ووجهت نصلها ضد النظام، ووصلت فى أقصاها إلى حد رفع شعار "يسقط حكم العسكر".
أما باقى فصائل اليسار فقد أعطت الأولوية للتصدى للمخطط الإرهابى للتحالف الإمبريالى مع الإخوان المسلمين وباقى التيارات المتأسلمة، وبالتالى امتنعت عن رفع شعار إسقاط النظام، وإن احتفظت بموقف نقدى من سياسات النظام بالذات حينما بدأ فى التراجع عن الحريات المكتسبة خلال الثورة، وفى مجال حل الأزمة الاقتصادية على حساب الجماهير بمختلف صور الضرائب غير المباشرة ورفع سعر الخدمات مع مجاملة الرأسماليين بتقليل الضرائب عليهم وإعطائهم مختلف التسهيلات التى استعرضنا أمثلة لها.
وبالنسبة لحزبنا الاشتراكى فقد امتنعنا عن المطالبة بإسقاط النظام فى الوقت الذى يتصدى فيه للمخطط الإمبريالى الإرهابى، ودعونا إلى توسيع التصدى له بإشراك الجماهير فى المعركة وتوسيع جبهة التصدى إلى المجالات السياسية والثقافية المختلفة. كما اتخذنا موقفا نقديا شديدا من تقليص حدود الديمقراطية وكذلك من كل السياسات الاقتصادية التى لا تمثل فقط عودة إلى سياسة مبارك ولكنها تدفعها بالذات فى مجال الخصخصة إلى الأمام.
بعد النجاحات العسكرية الكبيرة للحكومة المصرية فى المواجهة العسكرية للإرهاب، ومع تقلص وشبه غياب كل من الأنشطة الجماهيرية والعسكرية الموالية للإخوان تقلص اتجاه ضغط الغرب من هدف عودة مرسى "الرئيس المنتخب" المزعوم إلى هدف المصالحة مع الإخوان وإخراج قادتهم من السجون والسماح لحزبهم الحرية والعدالة بممارسة العمل السياسى وجمعية الإخوان المسلمين بالعمل الدعوى حتى يصبح لهم أمل فى العودة للسلطة فى المستقبل فى ظروف أخرى. رفضت الحكومة المصرية ذلك، وما زالت ترفضه حتى الآن رغم تنامى دعوات المصالحة.
ولكن سلوك الغرب تغير تغيرا هاما منذ بدء عام 2015. فبعد عام ونصف من ثورة 30 يونيو ونجاح النظام فى تثبيت وضعه الداخلى والخارجى قرر الغرب تغيير التكتيك. امتنع البنك الدولى وصندوق النقد الدولى عن إقراض مصر بعد مفاوضات فاشلة عام 2012، وظلت المؤسستان باعتبارهما أداتين فى يد الولايات المتحدة الأمريكية ممتنعتان عن التعاون فى مصر. ولكن منذ بدء عام 2015 بدأتا فى فتح المجال لمصر حيث تم عقد مجموعة من القروض لها من قبل البنك الدولى فاتحا لها الباب، وبهذا يبدأ الغرب سياسة الجزرة بعد فشل سياسة العصا، رغم تصريح أوباما بأن عودة العلاقات الاستراتيجية كاملة مع مصر لن يتم إلا عندما يقوم هناك حكم ديمقراطى كامل لا يقوم على الإقصاء، أى عندما يتم التصالح مع إرهابيى الإخوان ومشاركتهم فى الحياة السياسية.
عنصر آخر ضاغط على مصر أتى من المملكة العربية السعودية بعد وفاة الملك عبدالله وتولى الملك سلمان الأكثر خضوعا للرغبات الأمريكية. تم تحويل الأربعة مليارات دولار المخصصين للمساعدات العسكرية لمصر من شراء أسلحة روسية إلى شراء أسلحة فرنسية، وهو ما قامت مصر بمقتضاه بالحصول على طائرات الرافال وحاملتى الهليكوبتر الميسترال.
نجح أسلوب الجزرة وسارع النظام الحاكم فى مصر إلى التفاوض مع البنك والصندوق، وكانت باكورة هذا هو عقد المؤتمر الاقتصادى الدولى فى مصر فى 13 مارس 2015، وسبقه بيوم واحد، يوم 12 مارس 2013، إصدار السيسى ثلاثة مراسيم بقوانين فى منتهى الخطورة بالنسبة لمصر استجابة لمطالب المستثمرين العرب والغربيين. تلك هى سلسلة القانون رقم 16 لسنة 2015 بتعديل بعض مواد قانون الإجراءات الجنائية، والذى يجيز التصالح فى قضايا الفساد والرشوة على غرار ما حدث فى صفقات بيع أصول مصرية للأجانب (مثل بيع شركة المراجل البخارية وعمر أفندى) منعا للحكم برجوعها مثلما تم فى هذين المشروعين وفى أربعة أخرى، وإذا تصالح أحد الأطراف (الطرف الأجنبى بالطبع) يسرى التصالح على الأطراف المحليين (المديرين المرتشين) حتى لو كانوا قد صدر حكم قضائى ضدهم ويقضون فترة السجن، فيخرجون بمقتضى التصالح!
والقانون الثانى رقم 17 لسنة 2015 الخاص بتعديل بعض مواد قانون الاستثمار بما يجيز للحكومة تيسير الاستثمار للمستثمرين الأجانب وحرية مجلس الوزراء فى إعطائهم الأراضى بمجرد تكلفة مد المرافق لها، بل ويمكن للمستثمر استرداد حتى قيمة مد المرافق من الحكومة المصرية حينما يبدأ المشروع فى الإنتاج، مع استعداد الحكومة المصرية فى المشاركة فى تحمل عبئ التأمينات الاجتماعية على العمال وتدريب العمالة!
أما القانون الثالث رقم 18 لسنة 2015 فكان قانون الخدمة المدنية الذى يمهد ويسهل إجراءات تقليص العمالة الحكومية بالمعاش المبكر وبمختلف الوسائل!
اعتبرنا بحق أن عام 2015 هو عام بلوى استعادة السياسة الاقتصادية لمبارك. وجاء عام 2016 بما هو أفدح كشروط لقرض من صندوق النقد الدولى بقيمة 12 مليار دولار، وهو ما قيل أنه شهادة للغرب بأن مصر على طريق الطاعة والتبعية لمؤسسات التمويل الدولية فانطلقت الدولة للإغراق فى القروض من مختلف الجهات: من البنك الدولى ومن البنك الأفريقى ومن الصين ومن كل جهة بحيث إن رقم المديونية المصرية فى أوائل العام البالغ 53 مليار دولار يتوقع أن يزيد بنسبة 50% أو أكثر خلال عام واحد، رغم أن أعباء خدمة الدين العام قبل تلك الزيادة كانت تلتهم 30% من الموازنة! وهكذا سار النظام بعيدا فى طريق الخضوع لأجندة الليبرالية الجديدة لمؤسسات التمويل الدولية ودفعها إلى نهايتها بتخفيض قيمة العملة والاستعداد لمزيد من التخفيض والحديث عن التعويم الكامل للجنيه المصرى فى مواجهة الدولار. كما تم دفع سياسات الخصخصة لكى تأتى على المتبقى من القطاع العام (حوالى الثلث) وعلى المرافق من تعليم وصحة، وما خصخصة القصر العينى إلا مثالا واضحا على تلك الخصخصة استجابة للقرض السعودى للقصر العينى الذى يضع شروط خصخصته وفق "مشروع التطوير" المرفق بالقرض! استجابت مصر حتى الآن إلى ثلاثة من شروط صندوق النقد الدولى هى رفع الدعم عن الطاقة وفق خطة تدريجيا وبالتالى رفع أسعار الكهرباء والمياه والصرف الصحى، وإقرار قانون الخدمة المدنية لإصلاح الجهاز الإدارى إصلاحا يتضمن التخلص من معظمه تحت اسم العمالة الزائدة، وتنشيط الخصخصة بتحويل شركات قطاع الأعمال العام إلى شركات مساهمة وطرح 30% من أسهمها فى البورصة، وبقى الشرط الرابع المتمثل فى تعويم الجنيه بعد تخفيضه مرة بنسبة 14% بالإضافة إلى طرح سعرين للدولار، والسعى لدمج السعرين فى سعر وسط عند التعويم الكامل للجنيه المعتزم إجراؤه قبل نهاية هذا العام.
سوريا
عند الحديث عن الأحداث فى سوريا انتشر لدى كثير من المحللين عبارات من نوع "الجيل الرابع من الحروب" و"الحروب بالوكالة" و"الصراع الأمريكى الروسى على الأرض السورية". ورأيى أن هذا التحليل يتجاهل أولا التطور التاريخى للحدث، وثانيا يحول شعوب بل وأنظمة المنطقة إلى مجرد دمى أو أدوات مفعول بها بلا مصالح خاصة ولا إرادة ولا قدرة على التأثير فى الأحداث سواء بمقدار هين أو جسيم. بالطبع توجد تأثيرات خارجية لكنها تنجح فقط بقدر ما تتيح لها التناقضات الداخلية أن تعمل، ولابد من إدراك القوانين التى تحكم التفاعل المشترك بين البنية المجتمعية والمرحلة التى تمر بها وبين التأثيرات الخارجية.
لن نبدأ الحديث هنا من كيف تولت البورجوازيات المحلية الحكم وتناقضت مع الاستعمار فى فترة ما وعادته، ثم عادت لتتقرب منه تدريجيا بسرعة فى مصر أو ببطء فى سوريا، وقامت ببعض التحديث فى البنى الإنتاجية، ولكنها حافظت على علاقات بالغرب، كما حافظت على أنظمة ديكتاتورية قمعية فى مواجهة شعبها، فهذا من المعروف الذى سبق الحديث عنه كثيرا.
ولكن لنبدأ من بداية الثورات العربية، حيث بدأ الشعب السورى بتأثير الثورات الناجحة، أوليا على الأقل فى الإطاحة بالرؤساء فى تونس ومصر، بانتفاضة درعا فى مارس 2011 كانتفاضة سلمية محدودة الأهداف لا ترفع شعار إسقاط النظام ولكن تطالب بالديمقراطية وحقها فى المشاركة فى حكم بلادها. نتيجة قراءة خاصة لبشار الأسد لدرس الثورة فى مصر، ورأيه فى أن سبب نجاح الثورة المصرية هو أن حسنى مبارك لم يواجهها منذ البداية بالقمع العنيف المستخدم لقوات الجيش، قام بشار الأسد منذ البداية بمواجهة الانتفاضة المحدودة فى درعا برصاص الجيش فسقط القتلى وأولهم أطفال وشباب.
تسبب هذا فى اتساع الانتفاضة تدريجيا وشمولها العديد من المدن انتهاء بدمشق وحلب، وتطور وتجذير شعاراتها، مع النضج فى المحافظة على سلمية الثورة على غرار ثورتى مصر وتونس، وذلك طوال الأشهر الستة الأولى.
ساهم عنف المواجهة المسلحة من قبل نظام بشار فى بدء لجوء فصائل ثورية إلى السلاح، كما أعطى هذا الفرصة للتدخل الأجنبى بمختلف الطرق عبر وسائط محلية. رغم ضعف الإخوان المسلمين ولجوء أغلبهم للخارج بعد أحداث ضرب الإخوان المسلمين فى أعقاب تمردهم المسلح بين أعوام 1979 و1982، حاولوا التأثير فى الأحداث واستخدام علاقاتهم ونفوذ وأموال التنظيم الدولى والدعم السعودى والغربى فى الصراع المسلح ضد الأسد والدولة السورية أثناء الثورة.
ولكن القوى الأكثر جهوزية كانت تنظيم القاعدة فى العراق المجاورة الذى دخل بدعم سعودى قطرى واضح إلى سوريا. وكما فى أفغانستان التى أعلن دعوة الجهاد الإسلامى فيها زبجنيو بريجنسكى سكرتير الأمن القومى الأمريكى فى عهد كارتر واستجاب لها السعودية ومصر السادات وإيران الشاه قبل سقوطه، اشتعلت دعوة الجهاد الإسلامى فى كل مكان بالتمويل السعودى القطرى ووصل عدد المقاتلين الأجانب فى سوريا إلى مائة ألف مقاتل أجنبى من عشرات الجنسيات فى بعض التقديرات، غير الفصائل المحلية، وذات الخبرات القتالية العالية المكتسبة فى أفغانستان والعراق والشيشان والبوسنة وغيرها.
ظهر داعش كقسم من القاعدة وانفصل عنها منذ 2006 وتغيرت تسمياته حتى وصل إلى تسمية الدولة الإسلامية فى العراق والشام، وتقدم كثيرا فى سوريا، بالذات منذ عامى 2013 و2014 (ونؤجل مؤقتا تقدمه فى العراق) حتى سيطر على أكثر من نصف مساحة سوريا، وتمكن من السيطرة على مدن هامة وآبار بترول وآثار، وتاجر فيها كلها، وفرض الجزية والضرائب وسبى النساء واستحلهن وتاجر فيهن، وأخرج أسوأ ما فى الفكر الوهابى من كوارث عرفتها البشرية.
نشأ داعش بدعم أمريكى ملحوظ، ولكن كالمعتاد عندما أحس بالقوة والاستقلال المالى بفضل التجارة فى البترول والآثار والبشر غير فرض الإتاوات، وعندما توفر لديه التسليح حتى الثقيل منه والكثير من الزخيرة بفضل استغلال فساد الجنرالات العسكريين والاستيلاء حتى على عتاد كامل فرق الموصل بعد رشوة جنرالاتها الذين أصدروا أوامرهم للجنود بالانسحاب بدون اسلحتهم ولا حتى تدميرها، أقول عندما توفر كل ذلك لداعش شب عن طوق الأب الأمريكى الحامى وتجاوزه فضربت الأكراد فى الشمال والمملكة العربية السعودية فى الجنوب من العراق.
ردا على هذا وخوفا على "الحلفاء" الأمريكيين التقليديين من السعودية والأكراد شكلت أمريكا ما يعرف بالتحالف الدولى للتدخل فى العراق وسوريا ضد داعش، الذى بدأ غاراته ضد داعش منذ منتصف عام 2014، ولكنه أعلن أن هدفه هو "احتواء" containment داعش، بالطبع من أجل استعادتها إلى الحظيرة واستخدامها فى مخطط التفتيت الإقليمى للمنطقة، ولكن دون أن تمس مصالحه البترولية مع النظام السعودى ولا مع الأكراد. لهذا شنت طائرات التحالف حوالى 1300 طلعة جوية خلال أربعة أشهر، وهى التى كانت تشن مثل هذا العدد فى اليوم الواحد أثناء غزو العراق، كما أنها ضربت قوات داعش التى تحاصر المدن بينما امتنعت عن آية غارة عليها وهى تعبر الصحراء من مدينة إلى مدينة! كما صرح أوباما بأن الحرب ضد داعش أمامها عشر سنين على الأقل! هذا غير الكثير من حوادث إسقاط الأسلحة والذخيرة فى العراق بالخطأ "المقصود؟!" فى مناطق داعش!
رغم مساعدة حزب الله اللبنانى لبشار الأسد وكذلك إيران الجيش والحرس الثورى لم يستطع هذا عكس اتجاه داعش والنصرة (فرع القاعدة فى سوريا) وحلفاؤهم، فاستمرت انتصاراتهم حتى وصلت معاركهم إلى أبواب مدينة دمشق، وإلى مناطق اللاذيقية وحلب وغيرها من مدن سوريا الهامة. لقد أصبح الأسد يسيطر على ما لا يزيد عن 17% من الأراضى السورية ويتجه بسرعة إلى هزيمة استراتيجية.
ولكن الذى عكس هذا الاتجاه هو استجابة روسيا لطلب الأسد بالتدخل العسكرى فى سوريا. كانت روسيا منذ سنوات تتقدم حثيثا على الساحة الدولية لتصير قطبا قويا فى عالم متعدد الأقطاب ينهى الفترة الأحادية القطبية التى أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتى حول عام 1990. فى أعقاب الاشتباكات فى جورجيا عام 2008 استأنفت روسيا دوريات طائراتها بعيدة المدى فى العالم. وفى عام 2012 وصلت روسيا مرة ثانية إلى مرحلة التعادل الاستراتيجى مع أمريكا فى الأسلحة الاستراتيجية النووية والتقليدية. كما نجحت وساطة روسيا فى منع أمريكا من ضرب سوريا من خلال اتفاقية تسليم الأسلحة الكيماوية السورية للغرب لإعدامها. ونجحت وساطتها أيضا فى حل مشكلة تطوير الأسلحة النووية فى إيران مع إنهاء الحصار الاقتصادى الغربى عليها.
استجابت روسيا لطلب الأسد بالتدخل فى سوريا بناء على طلبه منذ شهر سبتمبر 2015، واستطاع هذا التدخل أن ينجز فى ستة أشهر تقليصا لنفوذ داعش والقوى الإسلامية المتحالفة معه بشكل فضح تدخل أمريكا والحلفاء خلال 15 شهرا، والذى استمر تمدد داعش خلاله. دخل داعش فى تراجع استراتيجى، واتسعت المناطق التى تسيطر عليها قوات الأسد، فتم تطهير اللاذيقية وربطها بحلب وكذلك استعادة أجزاء من حمص وحماه انتهاءً بتحرير تدمر.
عرفت روسيا جيدا كيف تستعيد وضعا استراتيجيا دوليا قويا، وتقى نفسها من الإرهاب القادم من كل العالم بما فيه أقطار إسلامية روسية مثل الشيشان وداغستان وخراسان، وكيف سيرتد إليها كما سيرتد إلى أوروبا وأمريكا التى جاء منها متطوعون كثر فضلا عن المنظمات الإسلامية التى أعلنت مبايعتها لداعش الذى اعتبروه أول من حقق حلم استعادة دولة الخلافة الإسلامية. أثبتت روسيا نفسها كقطب قوى على الساحة الدولية، ليس فقط بضم القرم وضمان وصولها إلى مياه البحر الأسود، ولكن أيضا بضمان قواعد عسكرية فى سوريا (قاعدة حميميم فى اللاذيقية، والقاعدة البحرية فى طرطوس، بالإضافة إلى قاعدة فى قبرص).
وإذا كانت روسيا قد صعدت دورها العسكرى بعد حادثة إسقاط تركيا للطائرة السوخوى الروسية فى نوفمبر 2015 حينما أدخلت إلى سوريا لأول مرة خارج روسيا، أدخلت أرقى نظام صاروخى للدفاع ضد الطائرات والصواريخ SS400، إلا أنها عرفت أيضا كيف تضح حدودا لتطرف الأسد الذى شجعته الانتصارات المشتركة لجيشه بمعونة روسيا على التمادى فى آماله وطرح انتخابات برلمانية فقط والحفاظ على منصب الرئاسة للأسد، فأعلنت عشية مؤتمر جنيف (مارس 2016) انسحابا جزئيا لقواتها من سوريا حتى لا تتطابق مع أطروحات الأسد ذات الشطط.
ظن البعض أن داعش قد دخل فى مرحلة تراجع استراتيجى نهائية، وأن الاتجاه المحتم هو فقدان داعش للرقة عاصمته فى سوريا (بالإضافة إلى الموصل عاصمته فى العراق) وانتهاء مرحلة داعش من التاريخ، إلا أن هذا كما بدا تفاؤل سابق لأوانه كما تدل الانقلابات التاريخية المتعددة فى مراكز القوى على الساحة الفعلية.
اتخذ داعش عدة تكتيكات مترابطة لاحتمال خسارته لمواقعه ودولته فى العراق والشام، فأرسل ستة من أبرز قادته إلى ليبيا لتأسيس نفوذ جديد للتنظيم كما سنفصل فيما بعد. كما بدأ الحملات الإرهابية على أوروبا وأمريكا وعبر العالم. ولكن أيضا لم يستسلم فى سوريا أو العراق. حاول داعش القيام بهجوم مضاد قوى ساعدته فيه تركيا بألف مقاتل دخلوا له من الحدود التركية باتجاه مدينة حلب حيث نجح فى الاستيلاء عليها بعد الاستيلاء على مدينة منبج.
تغير استراتيجى هام آخر ظهر على الساحة: بعد أن أيقنت أمريكا فشل مراهنتها على داعش (مثلما فشلت مراهنتها على استمرار الإخوان فى حكم مصر) ورأت أن قدر داعش هو الهزيمة، وتأثرا جزئيا بتطور العمليات الإرهابية فى أوروبا وداخل حدودها، قررت الانضمام إلى التحالف المعادى لداعش حتى يكون لها نصيب حين تقسيم الكعكة فى النهاية، بعد عجز السلاح وحده عن حسم المعركة وعندما تحين لحظة المفاوضات السياسية من أجل حل سياسى.
ولكنها راهنت أيضا على حصان آخر لمعاظمة ما تهيمن عليه من أرض حين يحين أوان التسوية: فراهنت على الأكراد، وكثفت تسليحهم وساعدتهم بقوات من القوات الخاصة والمستشارين، ناهيك عن الدعم اللوجيستى بصور الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار والتخطيط.
نجح الأكراد بالمعونة الأمريكية بتحرير مدينة كوبانى (عين العرب) على الحدود التركية، واستطاعوا بصعوبة تحرير مدينة منبج وإن استغرقت منهم تلك المعركة شهرين ونصف، وكان هدفهم سرعة تحريرها للوصول إلى حلب وامتلاك ثانى أكبر مدينة فى سوريا وعاصمتها الاقتصادية. كما راهن الأكراد على الوصول لتحرير الرقة من الشمال واكتساب الفضل فى القضاء على عاصمة داعش، واستمروا فى التوسع غربا سواءً من ناحية تجميع المناطق المتفرقة التى يوجد بها أكراد أو بمحاولة اختراق الشمال السورى وصولا إلى ساحل البحر المتوسط لامتلاك ميناء لدولة الأكراد المنتواه.
لم يسكت الأسد، وقسم قواته قسمين: الأول قام بحركة التفاف لقطع طريق الإمدادات للقوات الإسلامية (وأيضا للقوات الكردية التى تتسابق على تحرير حلب) القادمة من الحدود التركية بالاستيلاء على الكاستيلو، وتم له هذا بنجاح. والقسم الثانى التف من الجنوب لكى يتقدم مباشرة إلى منطقة الرقة ويحاول أن يبادر هو بالاستيلاء عليها قبل الآخرين، وما زال حتى الآن يقترب منها بالاستيلاء على القرى التى تتاخمها من الجنوب فى الوقت الذى كان الأكراد يفعلون نفس الشيئ من الشمال.
فى ذلك التوقيت شنت إسرائيل ضربة جوية ضد قواعد سورية عند الجولان، ربما لإجبار الأسد على عودة قسم من قواته إلى الجولان. ومن المعروف أن إسرائيل تعالج مصابى داعش والإسلاميين فى مستشفياتها وعلى حساب قطر!
ولكن تغيرا استراتيجيا هاما جديدا طرأ على الموقف، وهو تداعيات محاولة الانقلاب الفاشلة فى تركيا. ففيما يبدو فإن محاولة الانقلاب التى قام بها الجناح الآخر فى الإسلام السياسى التركى، جناح عبدالله جولن المقيم فى أمريكا، والتى كان من قوادها من هو فى قاعدة انجرليك الأمريكية فى تركيا بالطبع بمعرفة وضوء أخضر من أمريكا، تلك المحاولة التى يقال أن روسيا قد حذرت أردوغان منها، قد أساءت كثيرا للعلاقات التركية الأمريكية وساهمت فى محاولة تركيا الصلح مع روسيا، وأيضا مع مصر، مع البعد مؤقتا على الأقل عن المحور السعودى.
بالطبع انزعجت أمريكا، فتركيا تمتلك ثامن جيش فى العالم وثانى أقوى جيش فى حلف الأطلنتى بعد أمريكا، وقواعد أمريكا وحلف الأطلنتى فى تركيا من أقرب القواعد إلى كل من روسيا ومعاقل البترول فى الشرق الأوسط. وكانت الحركة المكوكية بين القيادات العسكرية الأمريكية والأطلنتية إلى تركيا من أجل الصلح مع تقديم بعض التنازلات، وأهمها على حساب الأكراد.
قيل أن أردوجان قد استطاع إقناع، أو الضحك على بوتين، حينما قال له أن قيام دولة كردية تستولى على معظم الحدود السورية مع تركيا سوف تكون خطرا على التماسك الإقليمى فى كل من سوريا وتركيا وتتيح فى المستقبل تأسيس دولة كردية، لذلك سوف يعمل على قطع الطريق عليها بمعركة محدودة للاستيلاء على جرابلس وإجبار الأكراد على العودة لأرضهم الأساسية شرق الفرات. وافق بوتين وساهم فى الحصول على موافقة سوريا وإيران على تلك الخطة المحدودة.
ولكن عندما دخل إردوجان جرابلس من دون مقاومة تقريبا من داعش اتضح فورا أنه يهدف لهدف آخر كبير، هو ما كان قد أعلن عنه سابقا من إنشاء منطقة عازلة مع سوريا بدأ بالحديث عنها فى حدود 400 كيلومتر مربع ثم ارتفعت إلى 900 كيلومتر مربع حتى زادت بعد ذلك! انقلب التقبل الروسى الأولى إلى تحذير لتركيا، وينبغى أن نذكر أن وقت أزمة إسقاط تركيا للطائرة الروسية (نوفمبر الماضى) كانت روسيا تهدد بتدمير آية طائرة أو دبابة تركية تعبر الحدود إلى سوريا!
بالطبع واجهت القوى الوطنية التى بدأت الانتفاضة فى سوريا مأزقا نوعيا مع التدخل الإمبريالى السعودى القطرى السافر وكم التمويل والتسليح الهائلين للجيش الرجعى الإسلاموى القادم من جميع أنحاء العالم، والذى يستهدف القضاء على الدولة السورية، ليس فقط بتفتيت وحدتها القومية إلى كيانات جزئية صغيرة متعددة ضعيفة تحت هيمنة الاستعمار وأداته من التنظيمات الإسلامية، ولكن أيضا بهدم كيان الدولة تحت اسم العودة لدولة الخلافة، ونفى الدولة المدنية والقانون لصالح ما يسمونه بالشريعة الإسلامية التى تستبيح السبى وذبح المخالفين وتدمر آثار الحضارة وتقيم حكم الفقيه وتعود بكيان الدولة قرونا إلى الوراء.
كان موقف القلة التى حافظت على التوازن الحرج الصحيح فى هذا الوضع المعقد هو محاربة دولة داعش المزعومة، وهو ما خلق فيما بعد أساسا للالتقاء بالنظام السورى عندما فتح باب العفو لمثل تلك المجموعات والتعاون معها، بالطبع بمساعدة الروس. لقد أختار هذا القسم من الثوريين "أهون الشَّرين" ومواجهة الإسلاميين الذين يحملون خطر القضاء على الدولة والحضارة. كما وسعت حكومة الأسد من تحالفاتها بعرضها كذلك العفو عن كل مقاتلى الإسلاميين الذين يلقون السلاح ويستسلمون. ووسعته أيضا فى بعض الأماكن بالقبول بخروج الأفراد المسلحين بأسلحتهم الشخصية من بعض المدن مع عائلاتهم مع تسليم اسلحتهم الثقيلة ودخول القوات السورية للمدينة وفك الحصار عنها وتوصيل المساعدات لأهلها.
وهكذا تبقى الأمور على الساحة السورية، رغم التقدم السورى الذى لا شك فيه، مازال فيها احتمالات مفتوحة وصراعات سيحسمها ميزان القوى العسكرى بين كل تلك القوى: الأسد المدعوم من روسيا وإيران وحزب الله، والقوى الإسلامية المتحالفة مع أمريكا وغيرها، والأكراد فى الوضع الجديد حيث ضحت بهم أمريكا حفاظا على الشريك التركى الاستراتيجى، وتركيا لطموحها الإقليمى وتدخلها العسكرى.
حاولت روسيا من خلال التنسيق الروسى الأمريكى فى سوريا تحديد الأعداء الذين تحصرهم أمريكا فى داعش، ثم أضافت إليه بعد فترة ومجهود جبهة النصرة فرع القاعدة فى سوريا، وتتحدث عن المعارضة المعتدلة التى تتحفظ على قصف الروس لمواقعها. كما حاولت أمريكا تقديم طوق النجاة للمسلحين الإسلاميين فى حلب عن طريق إدعاء أهمية وقف إطلاق النار من أجل توصيل المؤن للمدنيين المحاصرين فى حلب، وهو ما أعطى فرصة للإرهابيين لالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف. دخلت روسيا مع سوريا فى المعركة الأخيرة فى حلب لحسمها عسكريا لصالحهم وضرب القوات الأساسية لداعش والنصرة التى غيرت اسمها والفصائل المتحالفة معهم، بينما ردت أمريكا بقطع التنسيق العسكرى مع روسيا إلا فى أضيق الحدود.
إن نتيجة المعركة فى الواقع بين القوى التى تدافع عن كيان الدولة السورية من جهة وبين كل من الإسلاميين والأتراك من جهة أخرى سوف تكون عاملا هاما فى هزيمة ثقيلة لداعش ومن ورائها المخطط الأمريكى الغربى لتفتيت سوريا، كما سوف تحسم الأيام النتيجة ومستقبل التدخل التركى المدعوم أمريكيا، والذى أعلن فى البداية هدف البقاء فى 400 كيلومتر مربع كمنطقة آمنة لحماية حدود تركيا، ثم زادت إلى 900 ثم زادت مع إعطاء نفسه الحق فى التدخل فى سوريا والعراق ماداموا منقسمين ومادام هذا لحماية تركيا من تهديد استراتيجى من الأكراد.
شهدت تطورات الأحداث الأخيرة سرعة شديدة فى العلاقة بين أمريكا وروسيا. عمل الجانبان على إقامة هدنة محدودة للقصف فى حلب بدعوى إغاثة أهالى حلب، ولكن المقاتلين الإسلاميين لم يوفوا بالتزاماتهم. بعد مرحلة من التنسيق بدا أن هناك تصعيدا شديدا من الغرب ضد روسيا تضمن وقف التنسيق العسكرى بينهما، والتهديد بأن كل الخيارات السياسية والعسكرية مطروحة للبحث، بدعوى أن القصف المدنى السورى الروسى لحلب يقتضى تدخلا شديدا. وزعت روسيا صواريخ SS300 فى سوريا، وهددت باستهداف أى صواريخ تطلق على سوريا، واعتبرت أن الاعتداء على سوريا تهديد مباشر لها. كما أعلنت روسيا لأهلها احتمال استهدافها بحرب نووية من أمريكا والغرب وأخذت فى تجهيز ملاجئ نووية ل12 مليون روسى فى موسكو وحدها. ولا شك فى أن الوضع محفوف بالمخاطر، حيث بدأت الحرب العالمية الأولى بأحداث أقل خطورة من هذه، واحتمال حرب عالمية لم يعد شديد الضآلة لأسباب عديدة، وعلينا متابعة التغيرات اليومية هناك لسخونة الأحداث وخطورتها.
العراق
نجح الغزو الأمريكى للعراق فى تحقيق أحد أهم أهدافه بينما أخفق فى هدف ثان شديد الخطورة. وُصِفت نتيجة القصف الأمريكى للعراق عام 2003 بأنه أعاد العراق للعصر الحجرى بعد أن دمر بنيتها التحتية من مرافق مياه وكهرباء وطرق وكبارى، وبعد أن قصف مستشفياتها ومبانيها واستخدم القذائف التى تحتوى على اليورانيوم المنضب، مما تسبب فى أعلى معدلات إصابة بسرطان الأطفال والتشوهات الخلقية فى العالم.
فور احتلال العراق تم تعيين بريمر مسئولا أمريكيا عن العراق لمدة مائة يوم أنجز فيها الهدف الرئيسى لأمريكا: أعاد توزيع ثروات البترول وعقود إعمار العراق على الشركات الأمريكية. ثم حاول الرئيس الأمريكى ترضية بعض معارضى الحرب (فرنسا، ألمانيا، روسيا، الصين) بإعطائهم بعض امتيازات التنقيب عن البترول فى بعض المناطق مع بقاء حصة الأسد لأمريكا بالطبع.
ولكنه فشل فى خلق نظام مستقر يحكم العراق. حاول بالطبع اللعب على التناقضات الطائفية، فاستجاب له بشدة الأكراد الذين تحالفوا معه، كما لعب على الشيعة، الأغلبية السكانية المقهورة فى عهد صدام فأخذ السيستانى المرجعية الدينية الشيعية موقفا غير معارض للاحتلال. أما السنة الذين حكموا الأقليات باستبداد فى عهد البعث وصدام فقد لقوا أقوى اضطهاد. لقد تم حل حزب البعث، وحل الجيش العراقى، وعملت أمريكا على وضع دستور محاصصة طائفية وليس دستورا ديمقراطيا، مع إعطاء الشيعة نصيب الأسد (منصب رئيس الوزراء) والأكراد مزيدا من الحريات (منصب الرئاسة وهو منصب شرفى، بالإضافة إلى نوع من الاستقلال الذاتى لمناطق الأكراد) كما أعطت السنة منصب نائب رئيس الوزراء، وتم تقسيم كل المناصب القيادية فى الدولة على أساس المحاصصة الطائفية والشيعة هم الفئة المميزة.
فشلت أمريكا أيضا فى اتخاذ العراق نقطة قوية لتواجدها العسكرى بما يجعلها فى موقع قوى لكى تعمل على إسقاط عدويها شرق وغرب العراق: إيران وسوريا، بسبب فشلها فى تحقيق حكم مستقر فى الدولة المحتلة.
نشأت مقاومة مستميتة من أطراف متعددة للاحتلال الأمريكى للعراق أحالت حياة الأمريكيين إلى جحيم. انضمت القوى الوطنية إلى المقاومة. وانضمت إليها أيضا قوات وعدد هام من قيادات الجيش العراقى التى تم تسريحها. نشطت القاعدة أيضا فى مقاومة أمريكا بالعراق، وهناك نشأت عنها داعش. عملت إيران على دعم كل المقاتلين بمختلف فصائلهم ضد أمريكا ضمانا لأمنها القومى حيث خشيت من استدارة أمريكا لها حال تحقيق استقرار حكم الاحتلال فى العراق.
أجبرت المقاومة جورج بوش على توقيع اتفاق مع العراق عام 2007 يقضى بالانسحاب التدريجى من العراق قبل حلول نهاية عام 2011. كما تبنى الكونجرس الأمريكى قرارا غير ملزم فى سبتمبر 2007 بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم كجزء من مخطط الشرق الأوسط الجديد لتفتيت الدول العربية والشرق أوسطية.
فى الوقت الذى كانت من مصلحة أمريكا التقسيم إلى فيدرالية أو كونفيدرالية كخطوة على طريق التفتيت، كانت مصالح إيران مختلفة. ففى الوقت الذى تستهدف إيران توسيع نفوذها الإقليمى فى العراق وزيادة نفوذ الشيعة إلا إنها تخشى من أى درجة من الاستقلال الفعلى للأكراد حتى لا يثير طموح الأكراد عندها للانفصال والانضمام إلى الدولة الكردية المستقلة الجديدة. أبدت إيران موقفا منافقا من رفض قرار الكونجرس الأمريكى، وكنها عملت بشدة، من خلال دعمها للميليشيات الشيعية (ميليشيات بدر المدعومة ماليا وعسكريا من إيران والتابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، واختراقها للميليشيات التابعة لجيش المهدى) على دعم اضطهادهم للسنة بدفع تهجيرهم من مناطق الشيعة إلى مناطق لا تحتوى سوى على السنة من أجل إنجاز تقسيم على أساس دينى طائفى يقوى من نفوذ الشيعة.
لكن كانت هناك الكثير من العوائق الموضوعية فى مسار التقسيم: منها أن الموقف الوطنى للشعب رافض للتقسيم، كما أن مقتدى الصدر القيادة الشيعية الوطنية كان مع وحدة أراضى العراق. يضاف إلى ذلك تاريخ العيش المشترك بل والزواج المتبادل بين الطوائف الثلاث. أيضا فإن مرافق البلد ومواقع آبار البترول وطرق تصديره مصممة على أساس دولة واحدة وليس على اساس تعدد طائفى أو عرقى. ومن هنا الفرق بين رغبة أمريكا بين التفتيت الجغرافى فيدراليا أو كونفيدراليا باتجاه الانقسام الكامل إلى دول متعددة، وبين الموقف الإيرانى بالتقسيم العرقى داخل دولة مركزية يحكمها الشيعة الموالون لإيران.
حاول أوباما بشدة خلال عام 2011 تغيير اتفاق الانسحاب الأمريكى من العراق بحلول نهاية 2011، واستبقاء نحو عشرة آلاف جندى أمريكى أو خمسة آلاف على الأقل، ولكن منعه الرأى العام العراقى وتوازن القوى بعد الضربات للقوات الأمريكية داخل العراق وتزايد نفوذ إيران والشيعة، كما أن أغلبية الرأى العام الأمريكى فى الاستفتاءات كانت مع الانسحاب الكامل بينما أوباما يستعد فى العام التالى لخوض معركة التجديد لرئاسته لفترة ثانية، بالإضافة إلى موقف رئيس الوزراء الجديد نورى المالكى والتابع لإيران.
كان الاتفاق الضمنى أو الخفى بين أمريكا وإيران بشأن الانسحاب الأمريكى يتضمن طمأنة أمريكا على مصالحها الاقتصادية فى العراق (بترول وعقود إعادة تعمير) مع إعطاء إيران حصة أكبر فى النفوذ السياسى فى العراق، مع وقف دعم المقاومة والسعى لتأمين السلام الداخلى فى العراق. وتحدثت إيران عما يسمى بالهلال الشيعى الذى يبدأ بإيران ثم العراق ثم سوريا نظام الأسد ثم حزب الله اللبنانى، وتستطيع من هناك مد النفوذ والهيمنة الإيرانية، وتتجه إلى كونها قوة إقليمية كبرى يعمل لها حسابها.
لعب نورى المالكى دورا خطيرا فى الأحداث التالية بعد رحيل أمريكا فى ديسمبر 2011. المالكى من القادة شديدى الفساد شأن الاختيارات الأمريكية المتوافقة مع الاحتلال، والإيرانية المتوافقة مع المصالح الإيرانية. لعب بعض الشيئ على التناقضات الإيرانية الأمريكية فى اكتساب حرية نسبية. بمجرد رحيل أمريكا حرص المالكى على عزل بعض القادة العسكريين للجيش الذين دربتهم أمريكا وإحلال قيادات شيعية بدلا منهم. كما عمل على اضطهاد السنة فى الوظائف، ووصل حتى إلى اتهام نائبه السنى بالخيانة العظمى تمهيدا لإعدامه لولا نجاح الأخير فى الهرب إلى مناطق الأكراد.
حدثت تغيرات هامة فى وضع السنة بعد الانسحاب الأمريكى: لقد كانت إيران تدعم سياسيا وعسكريا كل أو معظم القوى العراقية المناهضة لأمريكا بما فيها السنة. برحيل أمريكا وتغول نفوذ المالكى على الشيعة وافتضاح رائحة الفساد الشخصى وفساد التعيينات العسكرية والمدنية الشيعية المقربة من المالكى وجد السنة العراقيون أنفسهم فى وضع لا يحسدون عليه. كانت القوة الوحيدة التى بقيت تقاتل دفاعا عن السنة هى تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق، الذى تطور بعد ذلك إلى الدولة الإسلامية فى العراق والشام داعش. وبهذا وجدت داعش أرضية خصبة بين السنة ووجدت حاضنة شعبية حانقة على كل من أمريكا وإيران والوضع الذى وصل إليه حال العراق.
كان الفساد عاملا قويا جدا لصالح داعش: لقد كانت الضربة الأولى الضخمة لذلك التنظيم هى الاستيلاء على ثانى مدينة فى العراق، مدينة الموصل، وإعلانها عاصمة لدولة الخلافة الإسلامية فى العراق. ولم يكن المفتاح فى الاستيلاء على الموصل هو قوتهم العسكرية، بل كان الفساد وقدرة داعش على رشوة اللواءات والقادة العسكريين للموصل فأصدروا أمرا لقواتهم بالانسحاب دون قتال مع ترك جميع المعدات الثقيلة والخفيفة، بل وحتى عدم تدميرها أو إعطابها هدية قيمة لداعش فى فترة تأسيس نفسها على نطاق متزايد الاتساع. ساعد هذا داعش على احتلال ثلث العراق فى فترة قصيرة.
ولم يكن داعش فى حد ذاته ليقلق أمريكا، فهو سنى معارض لطهران ومفيد فى تكتيك الفوضى الخلاقة واستنزاف جميع الأطراف. أعلن تنظيم داعش عن قيام تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق فى إبريل عام 2014. إلا أن داعش بعد فترة من الإحساس بقوته تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية وهاجم الأكراد شمالا والسعودية جنوبا وكلاهما حلفاء أمريكا. كما توغل سريعا فى سوريا التى كان تفتيتها هدفا رئيسيا للجميع من إمبريالية ومتطرفين إسلاميين، وقاتل داخل سوريا إسلاميون من مائة دولة.
كان الرد الأمريكى الرسمى هو تشكيل القوة متعددة الجنسيات تضم ستين دولة للتصدى للإرهاب، إلا أن الهدف الحقيقى، بل والمعلن، لم يكن القضاء على داعش ولكن احتواء CONTAINMENT داعش. أعلن التدخل الدولى منذ سبتمبر 2014. لهذا قامت طائرات التحالف بقيادة أمريكا خلال الشهور الأربعة الأولى من عملها ب1300 غارة على داعش، وكانت عند غزو العراق تقوم بهذا العدد من الطلعات فى اليوم! كما صدرت الأوامر للقوات الجوية الأمريكية بضرب قوات داعش التى تحاصر المدن، مع عدم ضربهم خلال رحلتهم فى الصحراء من مدينة إلى مدينة حيث هم فى أضعف مواقفهم، حيث كان الهدف الأمريكى بعيدا عن تصفيتهم ولكن بتحجيمهم بعشم إعادتهم للطريق الأمريكى القويم! لهذا مهد أوباما بتصريحه بأن المعركة ضد الإرهاب قد تستغرق عشر سنين، ما داموا قد حققوا هدفهم ورجعت قواتهم المسلحة إلى المنطقة العربية فى الأردن وتركيا بموافقة العرب واشتراك بعضهم فى قوات التحالف ضد داعش مثل السعودية!
أدرك الجميع بما فيهم الأمريكيين أن تغيير الظروف التى أدت إلى انتصار داعش لابد وأن يمر بتنحية المالكى الذى أثَّر تطرفه فى اضطهاد السنة إلى دفعهم لتأييد داعش، كما أثر فساد رجاله فى كسب داعش السهل للموصل مثلا! اتفقت أمريكا وإيران على عزل المالكى، وزار المالكى إيران زيارة بلا رجعة حيث مُنِع من الرجوع للعراق، وتم اختيار العبادى رئيسا للوزراء.
كان هناك متغير هام لم يلاحظه الكثيرون، وهو أن الثورات العربية لم تمر على العراق مرور الكرام، بل تركت أثرا بالغا أدى إلى انتفاضات متكررة للشعب العراقى بالذات فى مواجهة الفساد. لعب مقتدى الصدر دورا هاما فيها، ووسع من تحالفاته خارج نطاق الشيعة، كما خرجت المظاهرات العراقية المطالبة بالتغيير والقضاء على الفساد، بل وارتفعت شعارات وحدة الدولة ورفض التقسيم.
أثر هذا فى دور العبادى، وبدأ بمحاربة الفساد حرصا على تماسك الجيش العراقى، وكان من أطرف ما اكتشفه وجود كتائب عراقية على الورق فقط وتذهب مرتباتها إلى جيوب قادة القوات المزعومة! كما تم تخفيف اضطهاد السنة واكتساب مكافحى السنة للمشاركة فى المعارك ضد داعش (على نسق ما فعلته أمريكا فى فترة احتلالها من اتخاذ قوات الصحوة من القبائل السنية لكى تكافح القاعدة وقتها)، ولكن فى ظل معارضة العبادى لقيام أمريكا بتسليح السنة والسعى لأن تصب المساعدات الأمريكية فى القيادة الرسمية للدولة التى تقسمها، وعملت على تشكيل ميليشيات شعبية لمساعدة الجيش تقتصر على الشيعة فى استمرار مخفف للتضييق على السنة.
بدأ ميزان القوى فى التغير فى العراق، وبدأت الانتصارات العراقية واسترداد أراضى من داعش التى أخذت المساحات التى تسيطر عليها فى التقلص فى العراق بينما استمرت فى التوسع فى سوريا.
أما داعش فقد غيرت من تكتيكاتها أيضا، واضعة فى حسابها إمكانية الهزيمة فى العراق وسوريا. كان هذا التغيير يتضمن إرسال ستة من كبار القادة العسكريين إلى ليبيا وإرسال أعداد هامة بالآلاف من المقاتلين إلى ليبيا التى تشاهد ضعف جهاز الدولة، والانقسام الداخلى مما يتيح لها إمكانية تأسيس نفوذ قوى، بالذات مع اعتماد خط ساخن للاتصال والتموين بالأسلحة مع بوكو حرام فى نيجيريا عبر مالى والنيجر وأفريقيا الوسطى. كذلك شمل تغيير داعش لتكتيكاتها البدء فى حملة عمليات إرهابية كبرى فى أوروبا وبدأت بالفعل بفرنسا التى أرسلت بعدها حاملة الطائرات شارل ديجول للعمل ضد داعش. شملت العمليات الإرهابية أيضا تركيا، وصعدت تركيا ضد داعش. لم يمنع هذا داعش من أن تخوض معارك المؤخرة فى سوريا بالذات ومحاولاتها المتعددة لشن هجمات مضادة فى أماكن غير متوقعة من أجل التخفيف عن الهجوم عليها ومحاولة تحقيق بعض الإنجازات على الأرض لأسباب بينها رفع معنويات مقاتليها. أعلنت داعش أنها ما زال لديها 39 إمارة إسلامية فى العالم 19 منها فى سوريا والعراق، ولكنها تمتد من آسيا لأفريقيا بما فيها سيناء بتنظيم سرايا القدس التابع لها.
لعبت القوات الكردية بالدعم الأمريكى اللوجستى وبالقوات الخاصة الأمريكية دورا هاما تطور إلى الدخول فى معارك ضد داعش خارج الأراضى الكردية فى كل من سوريا والعراق. بعد أن أصبح سقوط داعش مسألة وقت راهن الأمريكيين على الأكراد من أجل السبق إلى تحرير كل من الموصل والرقة عاصمتا داعش فى العراق وسوريا على الترتيب، لكى يشاركوا فى ثمار النصر. أعلن الاكراد المغترون بالنصر أنهم لن يتراجعوا عن منطقة تواجدوا فيها ودخلوا بهذا فى خلاف شديد مع كل من حكومتى العراق وسوريا.
وحيث إننا استعرضنا من قبل وضع داعش فى سوريا فيهمنا هنا أن العراق اخذت تعد لمعركة الموصل، آخر المعارك ضد داعش فى العراق بإسقاط عاصمتهم، كما بدأت المباحثات بين العبادى والبرزانى لحل التناقض بين محاولات كل منهم الموجهة للسيطرة والإجابة على السؤال الهام: ماذا بعد داعش وما مصير الأكراد وحدودهم.
ليبيا
ليبيا لها خصوصية شديدة. فليبيا دولة مبنية أساسا على أساس ريع الثروة البترولية الضخمة والمساحة الشاسعة وعدد السكان القليلين. كان يحكمها نظام ملكى تقليدى مثل ملكيات الخليج حتى انضمت للدول التى انجرفت فى تيار القومية العربية فقامت فيها "ثورة" الفاتح من سبتمبر عام 1969. اجتمعت فى النظام الليبى كل خصائص الأنظمة القومية التى حكمت فى بلدان عربية مثل مصر والجزائر وسوريا والعراق واليمن: أعنى العداء للاستعمار (إجلاء قاعدة هويلس الأمريكية عن ليبيا فى أعقاب الثورة)، والعداء للديمقراطية البرلمانية، بل والعداء لأى نوع من الديمقراطية وسيادة الدولة البوليسية تحت اسم الجماهيرية الشعبية، ومحاولة الدخول فى مجال تصنيع البلد إلى حدود معينة.
أما عن خصوصية كونها دولة ريعية بترولية شديدة الثراء محدودة السكان فقد أثر هذا إيجابيا بشكل مختلف عن الأنظمة البترولية الريعية فى السعودية والخليج، حيث عاش السكان فى ليبيا فى مستوى استثنائى من الرفاهية تعادل وتكاد تفوق دول الرفاه الاجتماعى فى أوروبا الغربية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية: فقد كان التعليم حتى مراحل الدراسات العليا فى الخارج مجانيا. وكذلك والعلاج مجانى. بل إن السكن أيضا هو والمرافق من كهرباء ومياه مجانية.
المشكلة الرئيسية فى الاستبداد الذى جاء على مجتمع قبلى لم تتطور فيه الدولة ويستعين الرئيس بأبنائه وأبناء قبيلته كأعمدة رئيسية فى الحكم، فهو أن مثل هذا الاستبداد لم يساعد البتة فى القضاء على القبلية ويصهر المجتمع فى مجتمع ديمقراطى. تناقض من نوع خاص: فحتى السعودية رغم غناها الفاحش بالبترول يوجد بها نسبة فقر أعلى من ليبيا. حقا لقد أسفرت درجة من التصنيع وحركة التعليم وتطوير الجيش وإنشاء الجامعات على إحداث درجة من النضج الاجتماعى، لكنها لم تكن قط كافية لاجتثاث القبلية ولا إلى خلق طبقة عاملة واسعة، بل ولا حتى ضيقة لأن الرفاهية لم تجعل أحدا راغبا فى العمالة لدى الغير كثيرا، واعتمد العمل على العمالة المستوردة من دول متعددة. وأدى انتشار وزيادة نسبة التعليم ونسبة المتعلمين فى الخارج على نفقة الدولة إلى بروز نقد اجتماعى لم يجد متنفسا له لا فى جمعيات ولا فى أحزاب ولا فى نقابات، وبرز السخط بين المثقفين، وتنفس إلى حد ما فى الخارج.
جاء ربيع الثورات العربية والنظام الليبى يشترك فى الأنظمة التى قامت فيها الثورات فى الاستبداد ولا يشترك معها فى مستوى استغلال الجماهير العنيف ومعدلات البطالة والفقر كالذى شهدناه فى تونس ومصر وغيرها. قامت بتأثير الثورة فى تونس ومصر المجاورتان لليبيا من الغرب والشرق، قامت انتفاضة فى بنى غازى، العاصمة الثانية التى تبعد عن العاصمة الأولى أكثر من ألف كيلومتر، والقريبة مما يعرف بالهلال النفطى الذى يتركز فيه استخراج وتصدير البترول.
توعد القذافى بسحق الانتفاضة، وتوقع المنتفضون أن تساندهم بقية مدن وأقاليم ليبيا فى الانتفاضة. ولكن الانتفاضة لم يتردد صداها خارج بنى غازى، لم يثر الشعب ثورة واسعة تحت تأثير مختلف العوامل التى ذكرناها سواء من حيث مستوى المعيشة المرتفع أو من حيث التفتت القبلى أو من حيث استبداد الدولة المركزية وغياب آية آليات أو تنظيمات جماهيرية مستقلة سياسية أو اجتماعية.
ولكن هناك طرف ثالث هام يترقب: بالطبع هو الإمبريالية. رغم أن القذافى الذى بدأ بتصدى شديد للإمبريالية قد اتجه فى السنوات الأخيرة إلى تحسين علاقاته بالغرب كله، واعتذر ضمنيا عن دوره فى إسقاط الطائرة TWA فوق لوكيربى وعوض الضحايا، إلا أن هذا كله لا يعادل بالطبع استعادة الإمبريالية للسيطرة والهيمنة العسكرية والسياسية المباشرة على أرض النفط الغنى، بالذات وكل من فرنسا وإيطاليا تحتاجان بشدة لاستيراد النفط، ويرضيهم بشدة أن يكون نفط ليبيا الخفيف ذو النوعية الممتازة والقريب منهم جغرافيا ولا يحتاج للمرور فى أى مضيق مائى حتى يصل إليهم حيث لا يحتاج إلا إلى عبور المتوسط، أن يكون هذا النفط ملكا لهم وتحت حراسة قواتهم المباشرة.
قرر الغرب التدخل العسكرى فورا وبدون تأخير، وقررت انتفاضة بنى غازى التحالف مع الشيطان الإمبريالى لتفادى الذبح (وهذا تقرير لما وقع وليس تبريرا لهم ولا دعما لوجهة نظرهم إطلاقا). لجأ الغرب إلى أخذ تصريح من الدول العربية التابعة فى صورة قرار لجامعة الدول العربية، كما لجأ إلى مجلس الأمن الذى أعطاه قرارا محدودا بتشكيل منطقة يمنع فيها طيران القذافى لكى لا يقصف المدنيين، ولكن حلف الأطلنتى بالطبع تجاوز حدود القرار إلى القصف العسكرى للأراضى الليبية وحسن استغلال النعرات القبلية والكراهية الموجودة لانفراد قبيلة القذاذفة بالمناصب والسلطات، وتم إمداد القبائل والمعادين للسلطة، وفيهم الإخوان المسلمون بالطبع، بالأسلحة والمعدات عن طريق الإسقاط الجوى.
بل إن الغرب كما يبدو لم يكن واثقا فى البداية من إمكانية انتصاره الساحق على جيش القذافى وراهن على حد أدنى إن لم يتمكن من احتلال ليبيا كلها فليعمل على تقسيمها إلى إقليم شرقى حول بنى غازى يتبعه، وإقليم غربى يحيط بطرابلس ويتبع القذافى، ويحسم ميزان القوى مع من سيكون الجنوب. لهذا أخذ الغرب فى إلقاء كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر فى كل مكان.
تم احتلال ليبيا وقتل القذافى ومطاردة وقتل وأسر عدد من أبنائه، كما تم سريعا تقسيم بترول ليبيا. وكانت أمريكا متفقة مع حلفائها الغربيين وفقا لسياسة "طى البساط" التى انتهجها الحزب الديمقراطى الأمريكى يقضى بأن تتحمل أوروبا نصيبها من الحماية العسكرية لمصالحها. ولم تقم أمريكا بالتدخل العسكرى إلا فى أضيق الحدود عندما احتاج التحالف لعدد من القدرات المتقدمة تكنولوجيا تشمل الاستطلاع بالأقمار الصناعية ودور طائرات الدرون بدون طيار.
وفور بدء الاحتلال تم تقسيم نفط ليبيا بين فرنسا وانجلترا وإيطاليا تحقيقا للهدف الأساسى من تدخلهم. ورغم ذلك لم يتمكنوا من فرض سيطرتهم الكاملة على البلاد الشاسعة الأطراف سواء فى مواجهة قبائل منحازة للقذافى وعلى رأسهم بالطبع القذاذفة أو بالنسبة للإخوان المسلمين ومختلف الجهاديين الراديكاليين، أو مختلف القوات القبلية، أو حتى جماعات اللصوص! وقد قدرت المخابرات البريطانية قرب انتهاء عام 2012 عدد الميليشيات المسلحة فى ليبيا ب 1700 تشكيل مسلح!
مثلت ليبيا التى لا توجد سلطة مركزية، لا محلية ولا حتى استعمارية تفرض سيطرتها على المساحات واسعة الأرجاء، مثلت جنة ومرتعا لمختلف الفصائل الأسلاموية المسلحة لتجميع المتطوعين والتدريب، كما مثلت انفتاحا على التنظيمات الإرهابية الأفريقية وعلى رأسها جماعة بوكو حرام النيجيرية التى بايعت تنظيم داعش. أصبح هناك خط رأسى إرهابى يمتد من ليبيا عبر مالى وتشاد حتى نيجيريا يتبع داعش، كما أصبح هناك خط أفقى إرهابى يمتد من الصومال شرقا وتنظيم شباب المجاهدين التابعين لتنظيم القاعدة وحتى فرع تنظيم القاعدة فى المغرب العربى، وأصبح هناك 9 دول أفريقية على الأقل يوجد فيها تنظيم محسوس تابع للقاعدة أو لداعش، ويستغل الواقع الاجتماعى المتخلف ويسعى لفرض سيطرته.
بالطبع كانت مصر مهتمة بهذا التهديد لأمنها القومى حيث أصبح الناتو على حدودها (وحدود تونس بالطبع) كما أصبحت ليبيا ملاذا آمنا لإرهابيى القاعدة وداعش، وتم تهريب كميات ضخمة من الأسلحة التى ألقاها الناتو على أرض ليبيا أو التى سرقت من مخازن جيوش القذافى إلى مصر، وبعضها عبر مصر إلى سيناء (المقر الرئيسى للجماعات الإرهابية فى مصر وأكبرها تنظيم بيت المقدس التابع لداعش) وكذلك إلى حماس عبر مصر.
بالطبع اتخذت القوات المسلحة المصرية إجراءات قوية وتكتيكات حديثة لحماية حدودها الغربية حيث يكون الاحتياطى الاستراتيجى فى الخلفية وليس متعرضا للهجمات المباشرة والانتحارية مع رقابة كثيفة للحدود واكتشاف مناطق التهريب وعبور الإرهابيين (سواء بطائرات الدرون أو بقمرها الصناعى قبل اختفائه أو بالمساعدات اللوجستية من روسيا) والاشتباك معها.
أسفرت الانتخابات الأولى للمؤتمر الوطنى العام فى يوليو 2012، مثل الدول العربية الأخرى التى جرت فيها الانتخابات، عن أغلبية للإخوان المسلمين حلفاء الغرب . أما فى انتخابات مجلس النواب فى يونيو 2014 فنال الإخوان أقلية شديدة كما حدث فى بقية الدول العربية أيضا. ولكن الإخوان على عادتهم تحدوا الشرعية البرلمانية الانتخابية التى أتت بهم فى المرة الأولى وقرروا أن يستمروا فى الحكم رغم أنف الشعب الليبى والبرلمان المنتخب، وسيطرت الميليشيات الإسلامية على طرابلس ومنعت انعقاد البرلمان المنتخب فيها.
لجأ البرلمان المنتخب إلى طبرق فى الشرق. حاول الجنرال خليفة حفتر، وهو جنرال متقاعد من الجيش اللييبى وحسن السمعة، حاول أن يعيد تشكيل الجيش الليبى وينتصر للبرلمان الشرقى فى طبرق، البرلمان المعترف شرعيا بولايته عالميا بدلا من المؤتمر الوطنى العام فى طرابلس المنقضية مدته. بالطبع ساندت مصر وروسيا والصين اللواء حفتر بمختلف المساعدات، بينما أبدت الحكومات الغربية عداءها المباشر والمتستر تحت اسم الصلح وإنشاء حكومة وفاق بين البرلمان القديم المنهية صلاحيته وذو الأغلبية الإسلامية، وبين البرلمان الشرعى فى طبرق.
وهذا المثال الفج على اختيارية الموقف الإمبريالى فى تأييد ما يسمى بالشرعية حينما يخدم هدفها فى السيطرة، مثلما تدعى بشرعية مرسى فى رئاسة مصر حتى الآن لنجاحه فى الانتخابات، بينما تعمل بشدة على الصلح بين مجلس النواب الليبى الشرعى فى طبرق (والذى اعترفت بشرعيته) وبين المؤتمر الوطنى العام ذو الأغلبية الإسلامية فى مدينة طرابلس التى يسيطر عليها ميليشيات متعددة تشمل الميليشيات الإسلامية من أجل مشاركة الإخوان فى السلطة على العكس من الشرعية الانتخابية التى يدَّعونها!!!
نجحت قوات خليفة حفتر فى السيطرة على جزء هام وأساسى من الجيش الليبى، وفى تدريب وإنشاء جيش أوسع، رغم حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا (بالطبع باستثناء الأسلحة التى تدخل بشكل غير شرعى من قطر وتركيا إلى داعش والإسلاميين)، نجحت فى السيطرة على بنى غازى وفى استئصال الميليشيات المسلحة من معظم المناطق الشرقية فى ليبيا، و اعترف به مجلس النواب الشرعى المعترف به عالميا والقائم فى طبرق، وعينه قائدا للجيش ورقاه إلى رتبة فريق أول.
كان تنظيم داعش فى ليبيا يمتلك قواعد فى الداخل وليس له خطوط إمداد مستقرة، فحاول ونجح فى احتلال سرت على ساحل المتوسط لكى يكون له منفذ للتسليح عبر البحر المتوسط أكثر استقرارا وأمانا من الرحلات التى تتم خلسة بالذات من تركيا بالأسلحة، كما حاول اتخاذها نقطة انطلاق للاستيلاء على الهلال النفطى لكى يتملك حقولا للبترول تموله كما يحدث فى سوريا والعراق.
بعد أن انقلبت أمريكا على داعش قرر الغرب تولى الأمور بنفسه عسكريا فى عودة فجة للمرحلة الكولونيالية من الاستعمار المباشر. بدأ الغرب بمحاولة تحرير سرت. تسترت أمريكا بحكومة طرابلس، وتفاهمت مع قوات مدينة مصراتة القوية شديدة التنظيم، فدخلت فى حرب لإجلاء سرت من قوات داعش. دعمتها قوات أمريكية بالضربات الجوية. استمال الغرب ماديا عددا من الميليشيات لصالح حكومة طرابلس المدعاه. نجح هؤلاء إلى حد كبير فى إبعاد قوات داعش فى سرت عن الساحل وأخذوا فى تحرير باقى مدينة سرت التى مازالت معاركها تدور حتى الآن.
كان السبب المباشر لهذا التدخل هو الخوف من انتصارات خليفة حفتر ومحاولته مع مجلس نواب طبرق فرض السيطرة العسكرية على البلاد واستبعاد الإخوان الذين استبعدهم الشعب فى انتخابات مجلس النواب فلم يحوزوا سوى 23 مقعدا من أصل 180، وحفتر ليس خادما مأمونا للغرب مثل الإسلاميين.
حاول الغرب عقد ما يسميه بالصلح بين طرابلس وطبرق باتفاق تم فى مدينة الصخيرات فى المغرب لعمل حكومة وحدة وطنية، حضر الاجتماعات ممثلى الإخوان من طرابلس و22 نائبا فقط من طبرق لكى تشرك الإسلاميين فى الحكم. بادر اللواء خليفة حفتر إلى تحرير الهلال النفطى من الميليشيات المسلحة (راس لانوف، أجدابيا، الخ) ثم سلم الهيئة القومية للنفط المؤسسات النفطية لتعيد تشغيلها بعد عامين من التوقف، مع بقاء قواته حارسة لتلك المناطق، وأثار هذا بالطبع حنق الغرب وطرابلس.
ويستعين حفتر بالطبع بما هو خارج استخدام القوة العسكرية المباشرة من قبيل الاتصالات بالقبائل ومحاولات إقناعهم بتوحيد ليبيا وبناء جيش موحد. كان مما له دلالة امتناع حفتر، الذى كان قد اقترب من سرت، عن دخول سرت بعد بدء المعركة لتحريرها، حتى لا يحدث قتال مع قوات ليبية. والمفاجئ أن قوات مصراتة التى تحتوى على قوات من الجيش القديم قد رحبت باستيلاء قوات حفتر على موانئ النفط، ذلك الاستيلاء الذى أعقبه مباشرة ما يقرب من الإنذار الموجه ضد حفتر من خمس دول غربية، تم إجهاضها بتسليمه الموانئ للدولة!
تحالف حفتر مع قبائل فى غرب ليبيا فى الزنتان ورشفانة وجبل نفوسة، التى أخذت تزحف من جهة الغرب لدخول طرابلس وتوحيد ليبيا، وتعانى طرابلس من وجود حوالى 12 ميليشيا كبيرة بها غير مجموعات صغيرة أخرى وتفتقد إلى القيادة الموحدة، غير خمسة آلاف من داعش فروا من سرت إلى طرابلس عند بدء معارك سرت، وكونوا مجموعة نائمة حتى الآن بطرابلس. لو تم النصر لحفتر لتوحدت ليبيا تحت مجلس النواب الشرعى المنعقد فى طبرق حاليا وبجيش موحد بقيادة حفتر. يأتى الدعم السياسى لحفتر من روسيا والصين ومصر، مع مشاكل فى الدعم العسكرى نتيجة للحظر الدولى على تسليح ليبيا.
ولكن ميزان القوى الداخلى مازال لم يحسم بعد النتيجة. ومفاجآت الغرب وعملائه الإسلاميين لا تنتهى، ومستقبل ليبيا مازال حتى الآن يكتب فى المعارك الدائرة حاليا.
خاتمة
حاولنا فيما سبق استعراض الملامح الرئيسية للصراع الحادث فى قلب منطقتنا العربية خلال السنوات الست الأخيرة منذ اندلاع الثورات العربية حتى الآن، ونوهنا إلى مشكلة أننا نتناول حدثا جاريا مازال حيا لم ينته بعد، ورغم ذلك هناك ضرورة شديدة لمحاولة فهمه واستخلاص قوانينه إذا أردنا حقا أن نكون ذوى فائدة للجماهير الشعبية العربية التى نطمح أن نكون معبرين عن مصالحها ومستقبلها. ونحاول فيما يلى استخلاص بعض الاستنتاجات الضرورية:
1- إن التناقض الرئيسى الذى نراه هو بين المستغِل الإمبريالى وبين مصالح الجماهير العربية وحقها فى الحياة.
2- ازدادت شراسة الإمبريالية بعد بدء عصر العالم أحادى القطبية حول عام 1990 وجعلتها تستهدف العداء للدول القومية وتفتيتها إلى كيانات أصغر وأسلس قيادا مع إلهائها بالصراعات العرقية والدينية.
3- مثل تواجد قوى الإسلام السياسى من إخوان مسلمين وقاعدة ثم داعش فيما بعد، مثل حليفا داخليا ملائما للإمبريالية لتنفيذ هذا المخطط، حيث إن تلك القوى قوى غير وطنية، لا تؤمن بالوطن ولا العلم ولا بالتراب الوطنى وتعتبرها من أصنام العصر الحديث والدليل على جاهلية القرن العشرين. وبالتالى فهى ليست حريصة على وحدة الوطن، وترفع شعار إحياء دولة الخلافة وتوصف دولتها توصيفا لا يتناقض مع مطالب الإمبريالية لا فى الاقتصاد الحر ولا فى التبعية ولا فى الاستبداد، مع مظلة شكلية لخلافة إسلامية بين الدويلات التابعة. ينطبق هذا الوصف بالكامل على الإخوان المسلمين، القوة الوسطية فى الإسلام السياسى، إلا أن القوى الإسلامية المتطرفة مثل القاعدة وداعش تمتلك إيديولوجية تتيح لها التعاون مع المخطط الإمبريالى لمرحلة معينة، ثم تغتر بقوتها فتسعى لمحاربة العالم كله باسم الإسلام.
4- كانت مرحلة التحرر الوطنى فى الدول العربية التى قادتها أساسا برجوازيات قومية تقترب من نهايتها بسبب من استبدادها وعدائها للجماهير الذى حرم العداء للاستعمار من أهم أسلحته، الجماهير المنظمة المسيسة الواعية. كما تميزت تلك المرحلة من حياة البرجوازيات القومية بالرجوع تدريجيا للتبعية السياسية للاستعمار وتفاقم تبعيتها الاقتصادية مما يحد من إمكانياتها بقوة فى العداء للاستعمار. أضف إلى هذا شرهها الاستهلاكى على النمط الغربى الذى يدفعها إلى تكثيف استغلالها لجماهيرها بالإضافة للاستغلال الإمبريالى.
5- رغم استسلام الأنظمة الحاكمة فى الدول العربية لعلاقات التبعية الاستعمارية إلا أنها فوجئت بالإمبريالية تحاول التخلص منها من أجل تفتيتها إلى كيانات أصغر وأضعف وأكثر تبعية بقيادات إسلامية. وسبب هذا تناقضات فى حدود معينة مع الاستعمار، برز بشكل قوى فى مصر بثورة 30 يونيو التى تحالفت فيها تلك الأنظمة إلى درجة معينة مع الجماهير فى مواجهة ذلك المخطط.
6- حدث تغير عالمى شديد الأهمية منذ بداية العقد الثانى من القرن الحالى، وهو إعادة بروز العالم متعدد الأقطاب. استعادت روسيا التعادل الاستراتيجى مع أمريكا عام 2012، وتمكنت الصين من أن تصبح الاقتصاد الثانى فى العالم بعد أمريكا، وغيرت عقيدتها العسكرية عام 2009من عقيدة دفاعية إلى عقيدة هجومية، وبدأت فى بناء حاملات الطائرات والاستيلاء على جزر –أو إنشاء جزر جديدة- ببحر الصين. وهكذا شكلت الدولتان بالفعل أقطابا منافسة لسيطرة الغرب، أمريكا وأوروبا الغربية واليابان. ورغم اقتناعهما أيضا بالاقتصاد الحر فقد سعيا للتصدى لمخططات هيمنة الإمبريالية الغربية على العالم واحتلال موقع مرموق لها فيه، ودفعهم هذا التناقض بين تلك الدول إلى أن يعرضا شروطا أفضل على مختلف الدول مع مساعدتها فى معاركها ضد الإمبريالية التقليدية.
7- مثل انفجار الثورات العربية بدءا من عام 2011 تغيرا استراتيجيا هاما بإعلانها دخول الجماهير العربية كطرف مهم لا يمكن تجاهله فى الساحة السياسية العربية والإقليمية والعالمية. وبالطبع كانت أهدافها إطلاق الحريات وتحجيم الاستغلال ورفض هيمنة الغرب بدرجة ما من الوضوح. بدت أهمية ذلك المتغير قياسا إلى طول الفترة التى حجمت فيها الأنظمة الحاكمة من حرياتها وأثر هذا بشدة على ضعف تسييسها وضعف تنظيمها.
8- فى مثل ذلك التوازن الراهن للقوى لم يكن من شأن الثورات العربية، كما لم يكن من شأن كل ثورات العالم تقريبا، أن تحقق كل أهدافها بضربة واحدة، بل إنها شرارة وخطوة جبارة تعلن دخول الجماهير العربية على ساحة ميزان القوى العالمى. ولا يجب استسلام بعض جماهير الثورات بالذات شبابها إلى اليأس والإحباط من عدم تحقيق آمالها، بل يجب بإصرار مواصلة الكفاح بالوعى والسعى للترابط العضوى الوثيق مع جماهيرها بالمزيد من التسييس والتنظيم لتزداد قدرة الجماهير على فرض رؤاها على الساحة ومواصلة تحقيق أهدافها.
9- برزت أخطر ملامح محدودية تسييس الجماهير العربية فى اقتناع قسم هام منها بقوى الإسلام السياسى. ولعل من أهم إنجازات الثورات العربية هو أن الجماهير اكتسبت بشكل ملموس وعيها بحقيقة الإسلام السياسى الرجعية المتواطئة مع الإمبريالية، وبنوع الحكم الذى تنتجه سواء فى طبعاتها الإخوانية فى مصر وتونس وليبيا أو فى طبعاتها المتطرفة المعادية للحضارة للإنسانية وللتقدم فى داعش بسوريا والعراق، وأيضا فى ليبيا. ويبدو أن تولى تلك المنظمات الحكم كان مرحلة ضرورية للجماهير لكى تفضحها عمليا.
10- ما زالت المعركة لم تحسم بعد، وقدر جماهيرنا أن تقفز قفزات كبيرة للأمام فى وعيها السياسى بأعدائها الداخليين والخارجيين، وتنظيم نفسها لتحقيق أمانيها. مازالت خريطة المنطقة ترسم، وعلينا بالمراقبة النشيطة والوعى والتطور لكى نصبح عنصرا مهما فى رسمها.
محمد حسن خليل
7 أكتوبر 2016