الديمقراطية والنظام السياسي العربي( الحلقة5)


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 5307 - 2016 / 10 / 7 - 10:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الديمقراطية والنظام السياسي العربي ( الحلقة5)
منذر خدام
البيئة الأيديولوجية للنظام السياسي العربي.
الأيديولوجيا هي نسق فكري تقرأ به كل طبقة مصالحها ومصالح غيرها من الطبقات والفئات الاجتماعية، وتحدد دورها في الصراع الطبقي باعتباره المحرك الرئيس للتقدم الاجتماعي . بهذا المعنى يبدو الوطن العربي منظورا إليه من الحقل الأيديولوجي مجالا لنظام سياسي عربي واحد أيضا.
تسود في الوطن العربي وفي كل قطر من أقطاره الأيديولوجيات التالية: الأيديولوجية الدينية والأيديولوجية القومية والأيديولوجية الماركسية والأيديولوجية الليبرالية.
الأيديولوجية الدينية واسعة الانتشار،نظرا لما للدين من دور كبير في تكوين الشخصية العربية وتحديد هويتها، ومن حضور بارز في الوعي الاجتماعي وفي العلاقات الاجتماعية.تتميز الأيديولوجية الدينية في طابعها المتعالي وفي تعدد قراءاتها كل من موقعه الطبقي .
لقد لعبت الأيديولوجية الدينية دورا هاما في النضال ضد المستعمر والفوز بالاستقلال، ومع أنها تراجعت بعض الشيء خلال المد القومي واليساري في الخمسينات والستينات من القرن العشرين ، إلا أنها عادت وتنشطت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين على أثر تراجع المد القومي والماركسي،وتلعب في الوقت الراهن الدور الأبرز في النضال ضد الصهيونية والإمبريالية وتحتل موقعا متقدما في صفوف المعارضة للأنظمة العربية.تقدم الأيديولوجية الدينية نفسها باعتبارها الحافظ لهوية الأمة في وجه عمليات التغريب والاندماج في العالم .وفي بعض الدول العربية تمثل مصدر شرعية النظام ولا تستطيع جميع الدول العربية تجاهلها بل تحاول خطب ود القائمين عليها لما لها من قوة تعبوية كبيرة خصوصا في مرحلة الانحطاط السياسي التي تعيشها الأمة العربية في الظروف الراهنة .
أما الأيديولوجية القومية فهي تركز على مسألة الانتماء إلى الأمة وتدعو بالتالي إلى وحدتها وتقدمها لتلعب دورها في الحضارة الإنسانية.ومع أن الأيديولوجية القومية حديثة نسبيا في الوطن العربي ،فهي تعود إلى بداية ما يسمى بعصر النهضة العربية عندما اعتبر العامل القومي هو المكون الرئيس للشخصية العربية ،وله الدور الكبير في نضال العرب في سبيل الاستقلال والتمايز عن العثمانيين وعن غيرهم من القوى الاستعمارية الأخرى.
لقد مرت الأيديولوجية القومية في مراحل عديدة شهدت خلال بعضها انتشارا وفعالية وجرت تحت رايتها أهم النجاحات وأخطر الانتكاسات التي تحققت في القرن العشرين، وفي مراحل لاحقة تراجعت كثيرا لصالح تقدم الفكر الانعزالي والسياسات القطرية الضيقة وتقدم الفكر الديني والإسلام السياسي.وفي جميع المراحل التي مرت بها صعودا أو هبوطا لم تنفصل عن الدين ولم تناصبه العداء فالدين هو مكون أساسي من مكونات الشخصية العربية ومحدد هام لهويتها، لقد جرى الصراع بين القوى القومية والقوى السياسية الدينية خصوصا خلال مراحل المد القومي تحت رايات التقدمية وشعاراتها كما كانت تطرحها التيارات القومية، أو تحت راية ((الإسلام هو الحل )) كما رفعتها ولا تزال ترفعها التيارات السياسية الإسلامية، والرابح الوحيد من كل ذلك كان أعداء الأمة والدين من إمبرياليين وصهاينة.
إن تلازم البعد الديني والبعد القومي في تكوين الشخصية العربية على العكس مما جرى في أوربا ميز الفكرة القومية العربية بطابعها الإنساني على خلاف الفكرة القومية الأوربية التي كانت قائمة ولا تزال على التعصب والعرقية والاستعمار.(1)
التيار الأيديولوجي الليبرالي هو التيار الثالث الذي لاقى انتشارا في الوطن العربي باعتباره قراء ة محلية للفكر الليبرالي الأوربي الذي تصيّر بعد القرن السابع عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر مستقلا عن الديمقراطية بداية ومندمجا بها لاحقا.تقوم الفكرة الليبرالية على إطلاق الحرية في المجال الاقتصادي وتركز على محورية الربح و قدسية الملكية الخاصة، وتطالب بالحد من تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، على أن تنظم العلاقة بين الملاك والعمال في جو من الحرية وعلى أساس التعاقد.
غير أن تطور الرأسمالية وتعمق التمايزات الاجتماعية التي خلقتها الليبرالية وحدة الصراعات الطبقية فرضت على القوى الليبرالية إعادة النظر في تنظيم الإدارة الحكومية للدولة ،وفتح مجال المشاركة أمام ممثلي القوى الاجتماعية المختلفة،فكان لا بد من التحول إلى الديمقراطية.ولم تكن عملية التحول هذه سهلة بل شهدت صراعات حادة في حقل الفكر والأيديولوجية كما في حقل الممارسات الطبقية. ومع أن الديمقراطية تقوم على فكرة المساواة التي تولدت في رحم التمايزات الطبقية، إلا أنها لم تكن تعني أكثر من المساواة الشكلية أمام القانون.مع ذلك فقد أضافت إلى الحياة السياسية عناصر هامة مثل التعددية الحزبية والسياسية والانتخابات الدورية وتبادل السلطة وإقامة هيئات تشريعية يحترم فيها رأي الأغلبية..الخ.
لقد لاقى الفكر الليبرالي بعض الانتشار في الوطن العربي خصوصا بين المثقفين، وشكلت المطالب الليبرالية مثل المطالبة بالدستور وفصل السلطات والتعددية السياسية جزءا من المطالبة بالاستقلال، واستطاعت القوى الليبرالية أن تفرض الكثير منها خلال مرحلة الاستعمار أو بعيد الاستقلال في العديد من الدول العربية. إلا أن صعود المد القومي بحامله الجديد البرجوازية الصغيرة ، استطاع أن يعطي للخطاب الليبرالي قيمة انفعالية سلبية لدى أوسع الجماهير العربية من خلال ربط الديمقراطية وغيرها من مكونات الفكر الليبرالي بالاستعمار والصهيونية ، وأنها ليست أكثر من حصان طروادة لعودتهم إلى الوطن العربي وسيطرتهم عليه.لكن في العقدين الأخيرين من القرن العشرين خصوصا بعد فشل الخطاب القومي والتجارب القومية التي كانت سائدة في الخمسينات والستينات وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية،عاد الفكر الليبرالي من جديد ليطرح نفسه كمخرج من الاختناقات التي تعاني منها الأقطار العربية .ومن جديد أصبحت المطالبة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان الراية التي تتحرك تحتها قوى اجتماعية عديدة وخصوصا قوى المثقفين ، بل وأخذت الأنظمة العربية الحاكمة تسمح ببعض الهوامش لحرية التعبير والنقد ،وذهب بعضها إلى مدى أبعد فركب الموجة وأعاد تنظيم سلطته وحكمه على أساس ديمقراطي فصّله على مقاسه.
إن الخطر الأكبر الذي يواجه الموجة الليبرالية الجديدة يتمثل في المقاومة العنيفة التي يبديها تجاهها الفكر الديني المستنفر والقوى السياسية الإسلامية التي قطعت شوطا بعيدا في التعبئة السياسية لقسم هام من الجماهير العربية.
التيار الأيديولوجي الرابع الذي لعب دورا مهما في رسم ملامح الثقافة السياسية العربية وفي مقاومة الاستعمار هو الأيديولوجية الماركسية.تمثل الماركسية العربية قراءة تأملية اغترابية للفكر الماركسي الأوربي وبصفتها هذه لم يكن من الممكن أن تقدم قراءة علمية للواقع العربي،مما جعل أغلبية الأحزاب الشيوعية تعادي الفكر القومي والديني وتقلل من شأنهما في الحياة السياسية والاجتماعية العربية وفي تكوين الشخصية العربية والهوية العربية.لقد انعكست الأحزاب الشيوعية في وعي أوسع الجماهير باعتبارها قوى تابعة للاتحاد السوفيتي السابق، إلى جانب ممارساتها السياسية الخاطئة وتبنيها شبه الأعمى للسياسات السوفييتية تجاه المنطقة.
لقد تراجع التيار الأيديولوجي الماركسي كثيرا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى،وأخذت تطرأ على الحركات الشيوعية العربية تحولات باتجاه الاشتراكية الديمقراطية في مسعى منها للتأقلم مع المتغيرات الدولية ،وإعادة بناء وتجديد ذاتها على أسس مختلفة اقل جمودا وأكثر انفتاحا خصوصا تجاه الديمقراطية.
هذه هي التيارات الأيديولوجية الرئيسة في الوطن العربي، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى متمايزة إلى درجة القطيعة إلا أنها في حقيقة الأمر تشترك في العديد من السمات:
أ-تتميز هذه التيارات الأيديولوجية بنزعتها التوفيقية والتلفيقية ،بحيث يحاول كل منها المزج بين أكثر من تيار أيديولوجي ،أو يحاول أن يركّب منها جميعا أيديولوجيته الخاصة. فمن المعلوم أن التيار الديني خلال مرحلة المد الاشتراكي حاول استيعاب بعض عناصر الخطاب الاشتراكي في داخله، ونشاهد اليوم كيف أن التيارات القومية والماركسية والدينية تحاول احتواء بعض عناصر الخطاب الليبرالي،كما أن الخطاب الديني والخطاب القومي لم ينفصلا في الحياة الواقعية،بل كثيرا ما استعان الخطاب القومي بلغة الخطاب الديني في عملياته التعبوية، ويلجأ الخطاب الديني نفسه إلى استيعاب بعض عناصر الخطاب القومي من أجل زيادة قدرته على التجييش والتعبئة..الخ.ولم يقتصر ذلك على الأنظمة الحاكمة بل وتعداها إلى المعارضة بكل تلاوينها.(2)
ب-تتميز الأيديولوجية العربية على اختلاف تياراتها بأنها تروج للعلاقات الشخصانية في الحياة السياسية والاجتماعية. لقد أصبحت الأحزاب والحركات السياسية في الوطن العربي تعرف من خلال زعاماتها ، بل وفي بعض الحالات تنسب الأيديولوجية إلى أشخاص معينين مثل الناصرية.(3)
ت- تتميز الأيديولوجية العربية بعدم الوضوح والتناقض ، وهي سمة تتولد من طابعها الشخصاني ونزعتها التوفيقية. تبرز هذه السمة كثيرا في ظروف التخلف وضعف تبلور الطبقات،وضغط الأيديولوجيات الخارجية،وضعف الكادر الفكري المحلي وعدم قدرته على إنتاج انساق أيديولوجية اكثر تجانسا تقرأ بها كل طبقة مصالحها الخاصة في سياق الحراك الاجتماعي العام.
ث -الطابع النخبوي للأيديولوجية العربية . من المعروف أن النخبة هي جزء بنيوي من أي تركيب اجتماعي مهما تغيرت الظروف، لها وظيفة محددة هي أن تقف في طليعة الحركة وتقودها ،مهما اختلفت الأشكال الاجتماعية للكائن المتحرك. في الحقل السياسي تبدو النخب العربية القابضة على السلطة مستقرة نسبيا وضعيفة الحراك،فسواء كانت نخب ملكية أو جمهورية ، تقليدية أو ثورية لا تتخلى عن موقعها إلا بالقوة أو الوفاة ،وهي غالبا تنتمي إلى أصول عائلية أو عشائرية أو مذهبية. ولكي تحافظ على وجودها واستمرارها فإنها تنسج منظومة من العلاقات الشخصانية تكون هي في المركز منها مع كل ما يلزم لذلك من مسوغات أيديولوجية. نخبة من هذا النوع لا يمكنها أن تكون إلا نخبة متسلطة تقدم نفسها على أنها المدافع عن مصالح الوطن والمواطن في الوقت الذي تستعبد المواطن وتنهبه ، وتحول الوطن إلى مزرعة خاصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-السيد يسين،مشرف،((تحليل مضمون الفكر القومي العربي)) ،ط2،( بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1982)
2-الغزالي حرب،أسامة " الأحزاب السياسية في العالم الثالث"، سلسلة كتب عالم المعرفة،117،(الكويت ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،1987 )
3-محمد معلوم،حسين" قراءات في نقد اليسار العربي-التجربة الحزبية العربية "، (القاهرة،الهيئة العربية للكتاب ،1991) ص 311-333 .