إلى المثقف الفلسطيني: مقالة هامة بلا عنوان !!!


عبدالله أبو شرخ
الحوار المتمدن - العدد: 5283 - 2016 / 9 / 12 - 18:14
المحور: القضية الفلسطينية     

" الموت لا يوجع الموتى .. الموت يوجع الأحياء ! " ---- الرائع درويش

" أن تتجادل بالمنطق مع من تخلى عن المنطق تكون كمن يصف الدواء لميت !! – -- توماس بين

---------------------------------------------
يأتي هذا المقال الموجه لكل عاقل في قطاع غزة، في أجواء مرتبكة ومشوشة .. مشاعر متناقضة، تختلط فيها المقاومة بالانتحار، أو يمتزج فيها النصر الإلهي مع الهزيمة على أرض الواقع .. فلا نحن نجحنا في المقاومة المسلحة، ولا نجحنا في المفاوضات !!!
هذا المقال ليس موجهاً لأهل الشتات الذين يعتقد معظمهم أنه ما زال بالإمكان ممارسة العنف " الثوري " المسلح، وأن سلاح المقاومة في غزة من الممكن أن يكون قادراً على تحرير فلسطين بالقوة !
--------------------------------------------
منذ 68 عاماً والشعب الفلسطيني يصفق ويهلل لشعارات التحرير والعودة وطرد اليهود من حيث أتوا .. فهل عادت أمريكا الشمالية للهنود الحمر يسرحون فيها ويمرحون كما كانوا منذ آلاف السنين ؟؟! هل عادت أستراليا لسكانها الأصليين أم أن اللصوص وقطاع الطرق قد فرضوا وجهة نظرهم وأبادوا القبائل الأصلية وكونوا دولة حديثة ؟؟!؟؟!
-------------------------------------------
إن غياب المفكرين والفلاسفة عن الخطاب الثقافي الشعبوي الديماغوجي - ( العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص ) - قد أدى إلى استحضار نماذج من المقاومة لا تنطبق بأي حال على الوضع في فلسطين، لا جغرافياً ولا لوجستياً، منها نماذج الجزائر لدى القوميين، وفيتنام لدى اليساريين، بل لقد وصل الأمر إلى حد استحضار البعض لغزوة بدر بالسيف والرمح في عصر الصواريخ الموجهة بالليزر والحواسيب وتقنيات البلوتوث !!
-----------------------------------------
إن مباديء الفلسفة الأولى كانت قد أقرت أن العدالة المطلقة وهم لن يتحقق على أرض الواقع، وأن العدالة الممكنة الوحيدة هي حق الأقوى في تسيير حياة الأضعف وفق منظوره. هذا ما قاله المعلم الأول أرسطو وتبعه أفلاطون وفي العصر الحديث ماركس وكارل بوبر وآخرون !
لقد رفض الهنود الحمر في أمريكا الشمالية رغبة المستعمر الأبيض في إنشاء مجمعات سكنية حديثة لهم .. ظلوا يحلمون بالانطلاق والحرية في حياة البدائية والمشاع، بينما كان الأبيض ينظر إلى الثروات وإنشاء الصناعات واستخراج النفط والذهب .. الهنود رفضوا الخطط الجديدة للإسكان، وقاوموا بكل ما يملكون من سيوف ورماح ونبال لمواجهة البارود المتفجر فكانت النتيجة " المنطقية " .. إبادة 50 مليوناً من الهنود الحمر !! كان على الهنود أن يفهموا صيرورة التاريخ وحق الأقوى والأحدث والأسرع وهو ما لم نفهمه نحن في فلسطين منذ 68 عاماً !!!
------------------------------------------------
إن معطيات وظروف الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي تختلف كلية عن ظروف غزة والضفة، فغزة والضفة مساحات ضيقة جدا مقارنة بمساحة شبه قارية كالجزائر بما فيها من تعقيدات تضاريس جبال أطلس التي وفرت للمقاومة ملاذاً آمنا بعيداً عن جبروت فرنسا .. ثم أن السلاح الشخصي ( الكلاتشينكوف ) كان معادلاً موضوعياً للسلاح الفرنسي في الستينات، وكان في زمن الثورة الجزائرية تضامن دولي معها حتى في أوساط المثقفين الفرنسيين أنفسهم، ولا يجب التغافل عن كون الفرنسيين كانوا يمتلكون دولة عظمى خارج الجزائر وهي فرنسا الكبرى .. أما في الحالة الفلسطينية فالوضع مغاير تماماً ! وحتى التضامن الدولي الذي كنا نراهن عليه اضمحل وضعف بعد سيطرة المتأسلمين على الخطاب الشعبوي وتم خلط المقاومة الفلسطينية بالإرهاب بعد استهداف المدنيين الإسرائيليين في المطاعم والباصات أثناء الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000 ولم يفهم أحد متى وكيف انتهت وماذا حققت !!
أما المثال الفيتنامي حيث هزمت أمريكا عسكرياً، فقد كان محظوظاً بمتاخمة دولتين شيوعيتين من الناحية الجغرافية هما الصين والاتحاد السوفييتي، حيث ضمنت الثورة الفيتنامية سيلاً لا ينقطع من الذخائر والدعم اللوجستي، بل لقد كانت فيتنام الشمالية نفسها تحت سيطرة الثوار، ومقابل طيران الفانتوم الأمريكي، امتلك الفيتناميون طائرات سوفييتية من طراز ميج – 5 وصواريخ الآر بي جي التي كانت تفتك بالدبابات في وقتها .. هل رأيتم كيف أن ظروف فيتنام تختلف جذرياً عن ظروف غزة والضفة، حيث يكفي صاروخ واحد من الإف 16 لتدمير برج هائل من 14 طابقاً !!!
----------------------------------------------
المشكلة الكبرى المستعصية لدى الشعب الفلسطيني ومثقفيه، هي حالة إنكار التفوق الإسرائيلي المطلق على أدوات بدائية يمتلكها شعبنا، وقد رأينا جميعاً ماذا كانت نتائج " انتصارات " المقاومة، من قتل للآلاف وجرح الآلاف وأسر الآلاف وتدمير آلاف المنازل وتجريف مئات الدونمات وتشريد ربع مليون نسمة ما زال جزء كبير منهم يسكن الكرافانات الحديدية في قيظ الصيف بلا كهرباء أو صرف صحي ! يقال أن من يريد تحرير فلسطين لابد أن يضحي، فهل نضحي بالشعب كله ؟؟! وهل التضحية بالإنسان ستحرر وطناً ؟؟! وأيهما أغلى وأبقى، الإنسان أم الأرض ؟! ما جدوى تحرير الأرض كلها إن هلك الشعب الفلسطيني ؟؟!
--------------------------------------------
وحالة الإنكار لا تقتصر على سذاجة التفكير وقصر الرؤية الاستراتيجية فقط، بل تمتد إلى حالة التخلف الحضاري والعلمي والتكنولوجي والاقتصادي والاجتماعي التي نعاني منها في غزة، فجميع أهل غزة يرددون عبارة ( أن الطفل يخلق ثم يخلق رزقه معه ) وهم لذلك يسكنون 10 أفراد في بيت من الإسبست من غرفتين في مخيمات اللاجئين، ويعتاشون على الكوبونات والمساعدات والصدقات التي تدفعها الشعوب " الكافرة " !!! طيب أين الكرامة والعزة لشعب يعيش 80 % منه على المساعدات ؟؟! وهل الفقر حتمية تاريخية أم أن تخلف المناهج التربوية والتعليمية من أهم أسباب هذا الفقر ؟؟! وطالما أن الطفل يولد ويولد رزقه معه فمن أين أتى الفقراء والمشردون إذن ؟؟! ألم يقل الإمام علي ( ع ) أن ( من البلاء كثرة العيال دون موئل ) ؟؟!
-------------------------------------------
الآن نتساءل بكل عقلانية: ألا تكفي 68 عاماً من الموت المجاني والضياع بلا مقابل ؟؟! وهل غزة يمكنها تحرير فلسطين من فنادق قطر وتركيا وكلا الدولتين مرتبط حتى النخاع باتفاقات أمنية وسياسية مع إسرائيل ؟؟!
إسرائيل دولة احتلال متفوقة على جميع من حولها، ولا أقول هذا الكلام لأني ( عميل متصهين ) كما سيحلو للبعض أن يرجمني. لقد عبرت بعمق عن مأساة إنسانية ضحيتها 13 مليون نسمة، ويكفي أن غزة التي تريدون منها تحرير فلسطين بالصواريخ الحرب العالمية الثانية، تعاني من القنبلة السكانية الفظيعة، كما تعاني من مشكلات الفقر الشديد والبطالة وسوء الخدمات التعليمية والصحية، إضافة إلى تلوث المياه حيث ستكون غزة غير صالحة للحياة بحلول 2020 !!! أفلا نرحم أنفسنا قليلاً ؟؟!
---------------------------------------------
وثمة سؤال جوهري للغاية، وهو، هل يعلم السياسيون والمثقفون الفلسطينيون بأن اليابان وألمانيا وهي دول عظمى، قد هزمت عسكرياً في الحرب العالمية الثانية، ولكنهما لم تهزمان حضارياً ؟؟! بحسب المفاهيم السائدة فلسطينياً، فإن دولة مثل اليابان تعتبر محتلة من ناحية واقعية بسبب اتفاقية الاستسلام التي وقعها الإمبراطور بعد ضربها بالقنابل الذرية ؟؟! لكن الشعب الياباني فهم أن العدالة هي حق الأقوى، وأن عليهم التكيف مع سيادة قوى عظمى جديدة تمتلك مقدرات الكون، فنهضوا أولا بمنظومة الأخلاق والتربية ثم التعليم، ولنتأمل الآن هذه الدولة كيف تمكنت رغم فقر مواردها من بناء واحد من أقوى اقتصاديات العالم في العصر الحديث !
---------------------------------------------
إن دول الاحتلال والاستعمار والاستيطان، عادة ما تكون متقدمة بصورة لافتة، ولولا تقدمهم ما استطاع قطاع الطرق واللصوص الإنجليز في أستراليا، إبادة القبائل البدائية من سكان القارة الأصليين وبناء دولة حديثة تنتج من اللحوم والغذاء ما يسد حاجة الكوكب بأسره !!! لماذا الاستمرار في إنكار أمور تعتبر من المسلمات والبديهيات ؟؟! ألم تتعلم غزة من إسرائيل فنون الزراعة في الدفيئات والتي ما زال العالم العربي يجهلها ؟؟! ألم نتعلم منهم صناعة ألواح الطاقة الشمسية التي توفر استهلاك الطاقة بملايين الدولارات ؟؟! ألم نشاهد الفلفل الأخضر والأحمر والبرتقالي والأصفر والباذنجاني ؟؟! ألم يتدرب عمالنا على أحدث طرق البناء والتعمير داخل الورشات الإسرائيلية ؟؟! لماذا لا نفكر في استثمار اتفاق سياسي شامل مع إسرائيل في تطوير وتنمية المجتمع الفلسطيني كما تفعل الصين والهند في استيراد الأدوات الزراعية منها ؟؟!
--------------------------------------------
العالم لن يستمر في دفع المساعدات لفقرائنا في غزة والضفة، وبينما فشلت السلطة الفلسطينية ( أو أفشلت ) في تحديث المجتمع الفلسطيني، فإننا الآن، وفي ظل الخطوات المتسارعة للتنافس الاقتصادي والعلمي المشتعل في الكوكب، لا خيار لأجيالنا القادمة سوى النهوض والتقدم والتنمية، ويجب أن نعيد التفكير جيداً وملياً في عبارات ومسلمات مثل ( الاحتلال يعيق التنمية ) والحقيقة أن إسرائيل تعرف كيف تستفيد من أي تقدم فلسطيني، فغزة أيام الاحتلال كانت تصدر ثلاجات العرض المصنوعة في غزة إلى السوق الإسرائيلية نفسها، وكانت أيام الاحتلال تصدر الخضروات والورود والفراولة إلى السوق الأوروبية، بمعنى أوضح، أن الصدق مع النفس يؤكد بأن غزة أيام الاحتلال كانت قوة اقتصادية صاعدة كانت في طريقها لسنغافورة أخرى، ولكن قبل الانتفاضات والعنف الذي لم يجلب سوى الدمار والموت والتهجير وكأنه لم تكفينا نكبة واحدة عام 1948، لكي نستحضر بانغلاقنا وبلاهة تفكيرنا ثلاث نكبات أخرى قيل زورا وتنطعاً ( وجعلصة ) أنها انتصارات !! أما البديهية الأخيرة التي تحتاج إلى تحطيم فهي تعريف السياسة .. السياسة توازن مصالح بلا مباديء ولا أخلاق، فقد صنعت أمريكا داعش لتقسيم العراق وسوريا لمصلحة نموذج الشرق الأوسط الجديد ! وأكرر مرة ثانية، لا أخلاق ولا مباديء في السياسة بل مصالح، ومصالح فقط !
----------------------------------------------
ملاحظة: كنت قد كتبت محتوى مختصر على حسابي بالفيس بوك بنفس هذا المضمون، وطلبت من أصدقائي الذين أحبهم وأقدرهم أن يساعدوني في اختيار عنوان مناسب للمقال، فكان اقتراح الأستاذ محمود فرج أن ( انشرها بلا عنوان ) وقد اقتنعت فكانت المقالة بالفعل، بلا عنوان !

دمتم بخير
12 – 9 - 2016