الدين أم الضمير الإنساني

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 5273 - 2016 / 9 / 2 - 01:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

القارئ لتاريخ أوروبا يعلم ان ما تنعم به من تقدم واستقرار مقبولين "باستثناء ما تمر به من مصاعب اقتصادية حالياً " كان نتاج نضال مرير بدأ في القرن السادس عشر بحركة الاصلاح الديني ثم عصر النهضة وما تلاهما من مرحلة العقلانية ثم عصر التنوير. وفي رأينا فإن تاريخ أوروبا يحمل الكثير من الدروس والعبر ودليل لمراحل التقدم التي تنطبق على معظم المجتمعات البشرية منذ بدء الخلق، وقد توج هذا التقدم بالمقولة التالية:
"بعض من أفضل البشر عبر التاريخ الإنساني لم يؤمنوا بوجود إله، بينما بعض من أسوأ الجرائم بحق الإنسانية ارتكبت باسمه " أي الإله "
هذه الجملة قالها البابا فرانسيس "الاول" عام 1936 في شجاعة يصعب أن تجد مثيلا لها في كل الأوساط الدينية ويستحيل أن ينطق بها رجل دين مسلم. وهي تعني ببساطة أن الإيمان بوجود إله ليس شرطا كي يكون الإنسان جيدا، كما أن الكثير من الجرائم والمذابح تمت ولازالت تتم تحت رايات دينية مختلفة يدعي حملتها انهم ينفذون مشيئة آلهة متعطشة للدماء.
ولو أننا تأملنا هذه المسألة بعمق لوجودنا أن الضمير الإنساني هو العامل الحاكم والمؤثر في حياة البشر وليس الدين أو الإله، فالبشر يمكن أن يكونوا خيرون دون أن يلزموا أنفسهم بالإيمان بالأساطير والخرافات والطقوس الدينية التي لا معنى لها، وهو ذات الضمير الإنساني الذي غاب عن هؤلاء المتدينين الذين يقتلون ويخربون ويسبون النساء ويستغلون الضعفاء دون أدنى إحساس بالذنب أو الخجل مما يفعلون.
وكما قلت مراراً من قبل فإن بلادا عريقة مثل سوريا واليمن والعراق وليبيا يجرى تدميرها الآن وإذلال شعوبها باسم الدين. وبلادا أخرى مثل مصر ودول الخليج يجري استعباد شعوبها ونهب ثرواتها تحت سمع وبصر من يسمون أنفسهم برجال الدين الذين ينعمون برغد العيش والأمن والشهرة ولا يبالون بتسلط الحكام على العباد ومقدرات البلاد.
إنه الضمير الإنساني مرة أخرى الذي مات لدى هؤلاء مما جعلهم يعيشون في سلام وانسجام مع كل ما حولهم من ظلم وفساد وخراب دون ان يعتريهم أي احساس بالألم أو الندم أو حتى الخجل من تسمية أنفسهم "برجال دين"!
إذن فالدين دون ضمير حي لا قيمة له، كما أن الضمير الفردي الحي ليس بحاجة لأي دين.
نعم لعب الدين قديماً دورا هاما في ضبط وربط حركة المجتمعات البشرية القديمة التي كانت تتسم بالبساطة في تركيبها وتعدادها وتنوعها ومؤسساتها. ولكن مع الوقت ثبت ان الاديان تتسم بالجمود وعدم القدرة على التطور وتحارب التغيير وتعادي إعمال العقل والمنطق " من تمنطق فقد تزندق" "وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" . كما ان الاديان مدعاة للفرقة والاختلاف حتى داخل الدين الواحد حيث يبدأ الخلاف في الرأي بين المذاهب المتعددة بتراشقات كلامية سرعان ما تتحول إلى حرب وقتال وخراب.
ومن أشهر من اصطدمت بهم الأديان كانت الفلسفة ثم العلم. حيث أثبتت الفلسفة ان الأديان لا تتسم بالعدل أو المنطق لأنها تميز بين البشر بحكم تصميمها حيث يتميز الرجال على النساء والأحرار على العبيد والأمير على الغفير ومن يعلم "رجل الدين " على من لا يعلم "أنا وأنت" بعد أن تحولت الأديان إلى لوغاريتمات ومعضلات ومتضاربات لا يفهمها إلا رجال الدين الذين ابتكروا كل الحيل مثل نظرية الناسخ والمنسوخ للالتفاف حول تناقضات النص وإضفاء طابع من القدسية عليه.
كما رأت الفلسفة أن أي إله يدعو إلى الحرب والقتل والدمار لابد ان يكون إلها مزيفا، إذ كيف يدعو الإله مخلوقاته الى قتل واستعباد بعضهم البعض ثم محاسبتهم مرة اخرى يوم العرض عليه بالرغم من أن الاحداث كلها من صنعه وبإرادته.
أما العلم فقد أثبت أن الاديان ما هي إلا اساطير وان الميتافيزيقا ما هي إلا خرافات لا يمكن إخضاعها للبحث أو التنظير العلمي. والكلام في هذه المواضيع يطول ولكن وباختصار شديد فإن أوروبا تقدمت عندما نجحت في التحرر من هذه الخرافات ومن نفوذ الكنيسة ونظام الحاكم المطلق وأحلت محلهما ثقافة الضمير الفردي والحرية ودولة القانون. هذه هي الحداثة في أبسط معانيها وبأقل الكلمات وبدونها يمكننا القول بإن منطقتنا العربية لن تتقدم أبداً وستظل أسيرة للاستبداد والفساد وأديان جامدة لازلت تخضع لنفوذ وتفسيرات رجال ماتوا منذ مئات السنين.
إننا لا ننادي بأي حال بقتل الحس الديني أو الروحاني لدى الانسان لاستحالة هذا حيث سيبقى هذا الحس ملازما وسندا له خاصة في أوقات المحن والشدائد وغياب الأحبة، ولكن ما ننادى به هو أن يكون الدين فضاءا خاصا بكل انسان وألا يستخدم كوسيلة لخداع البسطاء والتسلط وكسب النفوذ والثروة، وبمعنى آخر أن يكون الدين حالة عقلية خاصة أكثر منه فتاوى وإملاءات ونزاعات ودعاوى للاقتتال والتدمير. وباختصار شديد علاقتي بالإله هي علاقة خاصة بيني وبينه وليست بيني وبينه وبينك. وينبغي ألا ننسى أبدا أن الدين هو مكون اعتقادي وقناعات شخصية أكثر منه مكون علمي أو حقيقي يمكن إثباته.
تاريخ أوروبا يعلمنا ان الحرية هي مفتاح التقدم وان تحرير الانسان من كل أشكال الاستبداد واحترام حقه في التعبير عن ذاته وحرية تواصله الروحاني مع ما يشاء من آلهة دون وساطة رجال الدين وتنمية ثقافة الضمير الفردي والعلم هم البداية الحقيقة لتحفيز الإبداع الإنساني وتحقيق التنمية الاقتصادية والإنسانية الناجزة التي تنشدها كل الشعوب.
وفي اللحظات التاريخية القليلة التي غاب فيها الوعي والضمير، مرت وتمر أوروبا بمصائب وكوارث وحروب رهيبة ولكنه ذات الوعي والضمير هو ما يعيدها إلى مسار الاستقرار والتقدم مرة أخرى.
يمكنك بالحيل وملايين الفتاوى الدينية أن تخدع العالم كله ولكنك لن تستطيع أن تخدع ضميرك أبدا.