بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السابع عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5256 - 2016 / 8 / 16 - 15:00
المحور: الادب والفن     

احتل أبو أرز وكتائبه ضيعة المكلس، كانوا يعتزمون الاستيلاء على معمل البسكوت، ومن هناك، الوصول إلى مخيم تل الزعتر. جاء ضوء الليل ليطمئن قائدنا:
- نحن نرصدهم رصد النحلة لعدو الزهر، قال.
بيد مرتعشة، صب عبد السلام لنفسه كأسًا، وشربها جرعة واحدة. امتلأ منخراه برائحة الدم والموت، برائحة الجثث المتحللة، الملقاة في الشمس. فَرَكَ وجهه بقليل من الويسكي، حتى أنه صب بعضه في منخريه، لكن الرائحة المقززة بقيت على حالها، فتغلب على ضوء الليل يأسٌ مفاجئ:
- توقف عن شرب هذا الشخاخ، صاح.
اتهم آمرنا بسقوط ضيعة المكلس، ناعتًا إياه بالسكير، بالفوضوي، بالغراب الثوري! ودون أن ينشغل بتناقضاته، صب لنفسه كأسًا، وشرب جرعة كبيرة.
- ماذا سنفعل، يا إلهي الطيب؟ تساءل.
أقفل عبد السلام أنفه بإصبعين، غير أن رائحة الجثث بقيت تطارده. بدأ يسعل، ويعطس. اتجه نحو النوافذ، وأخذ يضاعف أكياس الرمل، ليسد أقل ثغرة فيها، حتى تختفي الرائحة الكريهة. جَعَلَنا نزرع الحصى في الدماء، وأمر المقاتلين بوقف المعارك من أجل دفن الموتى.
- يفضلون أكلها، قال ضوء.
- أنا لا أتكلم عن الكلاب، استشاط عبد السلام.
- الكلاب، أمسكوها كلها، حتى أنهم طاردوها في الناحية الأخرى، أجاب.
سارع عبد السلام إلى الخروج ساخطًا، وهو يزرر قميصه، ويلهث كما لو كان نَفَسُهُ ضائقًا. أمر بدفن الجثث في الحال، رغم إطلاق النار، والقذائف تصب على الجثث لتقتلها مرة ثانية.
- الذين يقاتلون في تل الزعتر يموتون مرتين، همهم ضوء وهو يرى قائدنا يعود.
أفرغ كأسه، وراح يتفلسف:
- يموتون، ثم يبعثون، ليموتوا من جديد.
وبعد أن ثَمِلَ قليلاً:
- سنهزمهم لأنهم خرجوا من الشمس، صاح، ولأن ليلنا صار لعنتهم! سنلعنهم لأنهم دخلوا في الليل، ولأن شمسنا صارت حقدهم! يكفي أن ترى طفلاً قتيلاً في وضح النهار تضمه ذراعان مقطوعتان!
- يا ماخور الخراء، جمجم عبد السلام وهو يحرق أسنانه.
يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء!... دفن وجهه في مخدته، وهو يأمل أن يخفف ولو القليل من الرائحة النافذة. كان الحريق ينتشر، وكانت الملاجئ تظمأ. يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء!...
- لا يوجد ماء، صرخ الناس.
- ولا هواء.
- لا يوجد حليب.
- ولا دواء.
- يا ماخور الخراء... يا ماخور الخراء... يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء! كنا نصرخ من الغضب والعجز.
- لن يأخذوا معمل البسكوت منا، صرخنا مرة أخرى.
كنا، نحن الفدائيين، المقاتلين، المجانين، على اختلاف الملل، منهكين، وكنا نعلم أن معمل البسكوت إذا ما سقط كانت نهاية تل الزعتر. أرغمنا الكتائب على التراجع، وحاصرناهم داخل الكنيسة. كانت في ضيعة المكلس أكداس من الدبابيس، وكانت في ضيعة المكلس أمواس من الصقيع، فحيث يطأون، تنبثق الأشواك، ويمتد الجليد طبقات. سمعنا صَلية رشاش:
- هل تسمع، يا أبا نضال؟ سأل أبو فداء.
أجاب أبو نضال على أبي فداء بصَلية رشاش.
- وأنت، يا أبا ثائر، هل تسمع؟
أجاب أبو ثائر هو كذلك مطلقًا صَلية رشاش، لتحترق الأشواك، ويذوب الصقيع، ليتحول الصقيع إلى بحر يطوي دبابات أبي أرز في جوفه.
قهقه أبو ثائر، ثم لا شيء. أقلق صمت أبي ثائر المفاجئ رفاقنا. رأوه ينقلب على ظهره، كصُندوق للقراصنة. كان يضغط ذقنه بيديه، محاولاً حبس دمه في فمه. كان يهمهم: "أنا عطشان!" تخبط على الأرض خلال لحظة. "أنا جوعان!" قال. ثم، توقف عن الحركة.
كاد أبو فداء يفقد عقله. أطلق كالمجنون، بكى، كفر، وأطلق من جديد. غطس أبو نضال بأصابعه في دم صديقه، كما لو كان يَلَذُّ له أن يفعل. أفجعنا موت أبي ثائر. أرسلنا من يخبر عبد السلام، فبعث ضوء الليل ليخفف عنا، ليربطنا بالمرساة. لم يعد آمرنا يحتمل الجثث، ولا رائحتها. لم يعد يحبنا موتى. بدت أم الأبيض أمام أعيننا، كالسراب المنبثق من قلب النار. سمعتْ أبا فداء يقول لفريدة، وهو يبكي:
- آه! لو لم تخنا أختك.
قفزت أم الأبيض كالشيطان، ومدت له أحزمة الرصاص:
- خذ! أطفئ النار، أنذرته.
- مات أبو ثائر، جائعًا، همهم.
- أطفئ الجوع بالنار.
- مات أبو ثائر، ظامئًا.
- أطفئ الظمأ بالنار.
- مات أبو ثائر، شائظًا.
- أطفئ النار بالنار. تل الزعتر يناديك! تل الزعتر يناديك! صرخت بصوت المجنونة التي كانت.
- أقول نعم لتل الزعتر حيث نقاتل ولا لتل الصنوبر حيث يقاتل الكتائب!
- أطفئ النار بالنار، يا أبا فداء، واسكت، أطفئ النار بالنار.
دَلَّنا الأطفال على أعداء يحاولون التسلل خلفنا، كان ذلك من "اختصاص" أبي ثائر، كان هو من يتكلف بالتسللات. غاص ضوء بنظره في أعين الصغار، كان خائفًا مما سيقرأ، فبحث عن إيهام نفسه مرددًا في صمت: "أبو ثائر لم يمت! معمل البسكوت لن يسقط!؟
بينما كان عبد السلام يشرب كأسًا تلو كأس، كان أبو ثائر قد مات بالفعل، وكان معمل البسكوت على وشك السقوط. اقترب عبد السلام من المرآة، ونظر إلى نفسه، فظهر وجه أم الأبيض مكان وجهه. وجه أسود، بشع. أخذت تقهقه، بفمٍ اقتُلعت أسنانه. انبثق وجه أم فريد بدوره، أكثر سوادًا من وجه أم الأبيض، وأكثر بشاعة. هي أيضًا أخذت تقهقه، بفمٍ اقتُلعت أسنانه.
أخيرًا، حررنا الكنيسة. جاءت نادين لمعالجة الجرحى، ووضعت رأس أبي ثائر في حضنها. ابتسم أبو فداء: "أبو ثائر لم يزل حيًا! صاح. انظروا إليه! يبتسم لنا!"
- لا تقولوا لي إن أبا ثائر ميت! صاحت دهشة.
- أبو ثائر حي، صرخ أبو نضال.
أخذ يكلمه، حكى له أننا حررنا الكنيسة. كان أبو فداء يرتجف، ودمعة تسيل على خده.
- لا تكونوا مجانين! صاح ضوء الليل. أبو ثائر مات، أبو ثائر مات بالفعل!
غطى وجهه بيديه، فانفجرت فريدة باكية. أخذت أم الأبيض أبا ثائر من يدي نادين، وقالت:
- الأبيض ينام.
راحت تهدهده، وتدندن له.
ونادين تعود إلى المستشفى مع أحد الجرحى، أخبرت ضوء:
- وَضَعْنا الجرحى في الجامع، فلم يعد هناك مكان واحد في المستشفى.
- حسنًا فعلتم، قال الزعيم اليساروي.
- كنا نخشى أن يرفض الشيخ، لكنه أبدى كل تفهم.
- كيف لا يمكنه أن يبدي؟ همهم ضوء وقد أضناه الغم والهم.
أمرَّت نادين أصابعها على جرح الرجل وهمست:
- بالمقابل، لم يعد هناك دواء، لم يعد هناك ضِماد، لم يعد هناك مطهر، ولم يعد هناك ماء، لم تعد هناك قطرة ماء واحدة!
عَمُقَ اليأس في قلب ضوء أكثر، فترك الجريح يسقط على الأرض.
- ما فائدة الذهاب به؟ همهم ضوء الليل. ما فائدة العناء؟ ما الفائدة؟ ما الفائدة؟ ما الفائدة؟ ما الفائدة؟
كان الجريح يصرخ من الوجع، ونادين من الغضب:
- أنت لن تتركه هنا!
- ما الفائدة؟
أعطاها ضوء الليل ظهره:
- ما الفائدة؟ ما الفائدة؟ عوى من جديد.
- سيموت هنا!
- فليمت هنا، هذا أحسن!
- ماذا!؟
- ما الفائدة؟ ماااا الفاااائداااة؟ صرخ وصوته يتصادى.
حاولت نادين أن تحمل الجريح وحدها، والجريح يئن أنينًا لا يني، فلاقاها الأبيض عند تلك اللحظة. كان يحمل دلوًا.
- إلى أين؟ استجوبته نادين بفظاظة.
- إلى البئر، أجاب الأبيض.
- ماذا تفعل هنا؟ لم يبرأ جرحك بعد.
نظر إلى الرجل الملقى على الأرض، والموجع ألف مرة منه أكثر، وغمغم:
- لا أهمية لذلك.
- هل يمكنك حمله معي؟
لم يتردد لحظة واحدة.
في الطريق، نظرت نادين إلى جرح الأبيض بخيفة، وقالت:
- عاد جرحك ينزف!

يتبع الفصل الثامن عشر...