حول جدلية العلم والدين !


سامي النابلسي
الحوار المتمدن - العدد: 5256 - 2016 / 8 / 16 - 14:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ليست وظيفة الفكر أن يلعن في الموجودات، بل أن يستشعر الخطر الكامن في كل ما هو مألوف، وأن يجعل من كل ما هو راسخ موضع إشكال ! --- ميشيل فوكو

---------------------------------

لعل قرائي الأكارم قد لاحظوا مدى شغفي واهتمامي بمقولة فوكو السابقة لتعريف الفكر، فلا فكر في انتقاد جريمة القتل أو السرقة أو الاغتصاب، فهذه الجرائم متفق عليها إنسانياً ومنذ الحضارات القديمة. الفكر حسب فوكو هو مساءلة عقلية لكل سلوك مألوف ولكل مقولة متداولة، وخاصة إذا سلمنا بأن المجتمع العربي هو مجتمع استهلاكي متخلف غير مبدع وغير منتج، عندها لابد من مساءلة كل ما يتم ترديده وتكراره بين العامة والخاصة.
ضمن الجدل القائم منذ قرون على علاقة العلم بالدين، تم حسم الأمر لصالح العلم في أوروبا التي نهضت وتقدمت واخترعت وأنتجت وأبدعت. لقد حسمت أوروبا الجدل بالانحياز نحو الثقة بالعقل ومنجزاته، ونحو تهميش ما يسمى برجال دين، ومحاربة سطوتهم وتخلفهم وإقحام جهلهم في شتى أمور المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية. منذ اكتشف كوبرنيكوس مركزية الشمس ودوران الأرض حول نفسها، حدث الصدام بين العلم ( العقل ) والدين ( النصوص ).

لكن الأمر مع الدين الإسلامي لم يتكرر بنفس حيثيات ما حدث مع الدين المسيحي، فظل رجال الدين هم مصدر المعارف العلمية والثقافية، فيما يتم قتل ومطاردة وتكفير الفلاسفة والمفكرين إن هم فكروا يوماً في مساءلة أي من ( النصوص ) !
هنا تواجهنا معضلة شائكة، هل كان الدين الإسلامي مصدراً لأي معرفة علمية في يوم من الأيام ؟؟! ولماذا لم تؤدي ملايين الفتاوى إلى اختراع حبة الإسبرين أو لقاح شلل الأطفال ؟! لماذا لم يفلح رجال الدين في ابتكار أجهزة التكييف والسيارات والطائرات والصواريخ طالما أن الدين هو مصدر أساسي للمعرفة كما يقولون ؟؟!

إن الخلط واللبس قد حدث لدينا نحن المسلمين في تعريف العلم ذاته كظاهرة عقلية تعتمد على الحواس الخمس والتجريب لإنتاج المعرفة، فتعريف " العلم " في الدين لا يعني الفيزياء والكيمياء والرياضيات والبرمجة وهندسة الجينات وطب زراعة الأعضاء إلخ. إن لفظ " علم " في الدين الإسلامي إنما يقصد به " علوم الدين " تحديداً، أما العلوم السابقة فهي علوم دنيوية غير شرعية لدرجة أن ابن تيمية قال عن الكيمياء بأنها " ضلالة وبدع " !
أما فتوى ابن باز الشهيرة بتكفير من يقول بكروية الأرض ومركزية الشمس فهي معروفة وقد علق عليها ناجي العلي في كاريكاتير يسخر من الأسبوع الثقافي السعودي !
والعلماء طبعاً في التعريف الديني، هم الشيوخ وعلماء الدين وليسوا أمثال " الكفرة " الملاعين أمثال الرازي وابن سينا وآينشتاين ونيوتن ! ولهذا يرأس القرضاوي مجلس " علماء " المسلمين، ولا نعلم حقاً هؤلاء الجهلة علماء في ماذا مثلا ؟ في الحيض والنفاس وطريقة دخول المرحاض فيما العالم من حولنا يبحث في علوم الهندسة الجينية وأبحاث تكنولوجيا النانو وكيفية السفر بين الكواكب ؟؟!

كل ما سبق دفعني أكثر، متسلحاً بمقولة فوكو حول تعريف الفكر، إلى وضع تعريف العلم وتعريف الدين تحت مبضع التشريح العقلاني، لنرى، هل الدين يعتبر علماً من الأصل ؟؟!
للإجابة على هذه القضية بمنطق علمي، نقول:

1- بأن الدين يقوم على مسلمات لا يمكن الوصول إليها أو التحقق منها بالحواس الخمس، بل يجب الإيمان بها والتسليم بصحتها دون نقاش، مثل الحياة الآخرة والجنة والنار والملائكة ويوم الحساب وإلخ. لكن بالمقابل لا مسلمات في العلم، وهذا فارق مهم تجب مراعاته.

2- العلم يقوم على معارف قد تكون معلومات حسية مباشرة، كدرجة حرارة الجليد، أو تمدد المعادن بالحرارة، وقد تكون نظريات مثل تصورات أصل ونشوء الكون. والتصورات والنظريات العلمية قابلة للخطأ والصواب والتعديل بما يلائم سلامة المنطق وانتظام التفكير. توجد العديد من الأمثلة التاريخية التي تؤكد بأن العلم قابل للخطأ والصواب، مثل نظرية الإبصار لدى قدماء اليونانيين الذين اعتقدوا أن الرؤية تحدث عندما ترسل العين شعاعاً إلى الجسم، إلى أنا جاء ابن الهيثم الذي قال ( لو كانت العين هي من يرسل الأشعة لتمكنا من رؤية الأشاء في الظلام. لابد أن العكس هو ما يحدث )، ثم فسر الظلال المقلوبة على الحائط ليبدع لنا أول فكرة عملية لبناء الكاميرا. بالمقابل فإن مسلمات الدين ثابتة لا تقبل الخطأ والتعديل. إنها صائبة دوما على مر العصور وبشكل مطلق وممنوعة من المساءلة والنقاش !

3- القضية الثالثة التي تضع فارقاً مهماً وخطيراً بين العلم والدين، هي أن المعتقدات والمسلمات لها كهنوت يسهر على حراستها من الفلاسفة والمفكرين والعلماء، فالكنيسة قد نكلت بالعالم كوبرنيكوس وحاصرت جاليليو عندما تحدثا عن كروية الأرض ومركزية الشمس، أما شيوخ الدين الإسلامي فقد كفّروا أبو بكر الرازي وابن سينا وابن الرواندي والتوحيدي والبيروني وكوكبة ضخمة من علماء العصر العباسي، وهم من قتلوا العلامة عبدالله بن المقفع وقطعوا أوصال الحلاج بعد صلبه، وحديثاً قاموا بقتل المفكر والباحث فرج فودة وقتلوا المفكر والباحث حسين مروة ومهدي عامل وشكري بلعيد وهم من طعنوا الراحل نجيب محفوظ بسبب رواية. بينما ليس للعلم حراساً يقتلون من يخالف نظرياته، ولو جاء اليوم عالم ليقول أن النظرية النسبية خطأ، فلن تجد أتباع آينشتاين يهللون ويكبرون ويطالبون بفصل رأسه عن جسده !! بالعكس فإن أتباع آينشتاين سيطالبونه بإقامة الدليل العقلي على ما يقول !

4- إن الدين الإسلامي في حقيقته لا يعترف بالكهنوتية أو ما يسمى برجال الدين، بل على العكس، الإسلام جاء لكي يحارب الكهنوت الذي كان يمارسه الرهبان والقساوسة والأحبار، وجعل علاقة الإنسان مع ربه مباشرة دون واسطة.

5- الإسلام يقر تماماً بحرية الاعتقاد في آيات قرآنية كثيرة مثل ( لا إكراه في الدين ) و ( من شاء فليؤمن ومن فليكفر ) وكذلك ( أأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )، ولكن الكهنوت عكسوا الهدف من الدين وهو مصالح الإنسان وضد استغلاله ونسخوا تلك الآيات حسب ما تشتهيه أنفسهم وما ترتأي مصالحهم، فجعلوا الإسلام مشاهد من الدم وقطع الرؤوس، وتحول العقل المسلم إلى زائدة لا لزوم لها بينما الأمم الأخرى ابتكرت كل اللقاحات التي شكلت حماية للبشرية من الأوبئة والجراثيم واخترعوا جميع وسائل الراحة والرفاهية التي يستخدمها رجال الدين أنفسهم، من دون أن يخجلوا أو يعترفوا بفضل العلم، بل ما زلنا نستمع إلى صراخهم ولعناتهم وشتائمهم ضد العقل ومنجزاته الباهرة !

دمتم بخير