بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الرابع عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5253 - 2016 / 8 / 13 - 19:07
المحور: الادب والفن     

قبل أن نعود إلى تل الزعتر، مر عبد السلام بأبي الدميم ليراه، كان يريد أن يعلمه بمقتل كمال الدرزي، وأن يبحث معه وضعنا، هذا الوضع الذي غدا صعبًا جدًا. كانت سيارته المرسيدس المصفحة مصفوفة على الرصيف أمام عمارته، فبدا له ذلك غريبًا. بعد كل شيء، كل شيء ممكن في ماخور كل الخراءات هذا. وجده برفقة أبي أرز، وهما نصف عاريين، كأس في اليد، وحولهما نحو عشر عاهرات. كانا يحتفلان بموت الزعيم الدرزي، عدوهما المشترك.
- كمال لم يكن عدوك، قلت لأبي الدميم.
أرغى قائد القادة وأزبد قائلاً إن جزمات الإسرائيليين أحسن منه. فرشت العمة مريم مئات صحون المزة، وأحضرت خروفًا محشوًا قطعه عبد السلام بِحَرْبَتِهِ، لِيُمْتِعَ معدتي الزعيمين. كان أبو أرز يأكل كالذئب، يلقي النكت ويضحك مع أبي الدميم، يقبل العاهرات ويشرب مع الشياطين، وكانت الأجواء أمثلها للتفاوض:
- ارفع الحصار عن تل الزعتر، ولك مني أن أسحب رجالي إلى الجنوب، اقترح آمرنا.
استولت علينا الدهشة، ونحن نسمع أبا الدميم رافضًا، كان يعتبر أن رفع الحصار في هذه اللحظة "التاريخية" زَيْغٌ وضلال.
- سلام سَلِّم، سلام سَلِّم، كان يزعق بصوته الجسيم. هل تسمعني، يا سلام سَلِّم العظيم؟ هل تسمعني، يا سلام سَلِّم العظيم؟أعاد محاولاً تنعيم صوته المبحوح. سيبقى رجالك في المخيم الشهيد ما بقي فيه أهلنا.
- ستستمر الحرب إذن، قال رئيس الكتائب.
- سنفكر في هذا غدًا، رد رئيس الفدائيين. اليوم خمر وغدًا أمر!
تركهما عبد السلام في هَتَرٍ وهذيان، وعاد مباشرة إلى غرفة العمليات، بكلام آخر مركز القيادة. أمرنا أن نمنع كل من يريد الدخول، فتح قنينة ويسكي جديدة، وراح يثمل حتى تختخ. جاءت فريدة، وألحت على التحدث معه. كانت قد سمعت من يقول إن أباها مات، فأدخلناها. وعبد السلام بين الصاحي والغافي، أكد مقتل أبيها، فترامت في ذراعيه باكية. وضع خده على خد الفتاة، وبشفتيه ذاق ملح دموعها، وكم كانت دموعها زاكية! عند ذلك، أخذت تقبله. كانت قبلاتها لذيذة، ألذ ما طَعِمَ في حياته. أراد الابتعاد عنها، لكنها عادت إلى تقبيله. خلعت قميص الفدائيين، وعلى مرأى نهديها ذاب سحرًا. أعطاها ظهره بحثًا عن كأسه، وشربها جرعة واحدة. عندما استدار، كانت عارية تمامًا، مستعدة لممارسة الحب معه. قبلها من شفتيها، من نهديها، من فرجها، وهي وقوفًا باقية، مستسلمة، فحطم الكأس، وصاح:
- لماذا لا تتمردين عليّ؟ لماذا لا توقظين في نفسي الشهوة الوحشية؟ لماذا لا تدفعينني إلى زرع مخالبي في روحك؟
- لأنني أحبك، لأنني أحبك، همست واهبة إياه نفسها.
- أريد أن تكرهيني كما تكرهين كمال الدرزي.
أخذته بين ذراعيها برقة لا حدود لها، والأرض تترجرج تحت قدمي عبد السلام. انطلق نباح كلب، ثم، رشقة طلقات متواترة.
- أَتَذَكَّر يوم استيقظنا على صوت كلب كان ينبح، قال لها وهو يذهب معها للجلوس في سريره. نباح قصير، تبعه أنين طويل. كنت مع أمي وعمتي بدرية وطفليها إسماعيل وإسحق وأخويّ سالم وعزت وأختي ياسمين. كان ذلك في ليلة ليلاء: كان مخيم عين بيت الماء قرب نابلس صامتًا صمت القبر، والكلب يئن كاليتيم. خرجنا على عتبة البيت لنرى ما يجري، فرأينا أحدهم يهرب في الزقاق. هرعت أمي إلى كلبنا، فكان نصفه ذبيحًا. كان الدم يسيل من عنقه، وهو ينتفض كالطفل في مستنقع أحمر. أخذته بين ذراعيها، وصاحت تريدني اللحاق بالمجرم. انطلقتُ وسالم في أثره، عبثًا. قام بعض الجيران بمعونتنا، فلم تكن لنا بها فائدة، وكنا على خطأ في تركه يفلت منا. سألوني إن كنت أشك في أحدهم، وراحوا يثنون على الكلب، طيب ومطيع ولا يؤذي أحدًا، وفي صوتهم رنة أسف، فكأنه أحد أطفالنا. حين عودتنا إلى البيت، لم تدخر أمي وسعًا في إنقاذه. دهنت الجرح بمادة مطهِّرة، وضمدته، لكن الكلب بقي يئن طوال الليل ويبصق الدم، ولفظ نفسه الأخير عند الفجر.
"بكت أمي والطفلان بمرارة وكذلك أطفال الجيران، وارتدى بيتنا ثوب الحداد، وكل الحي معه. حقًا كان طيبًا ومطيعًا يحبه الجميع! لففناه أنا وسالم بجريدة، ورميناه في المزبلة. "
"لماذا ذبحوا الكلب؟ من ذبحه؟ ماذا فعل؟ أسئلة كان بإمكان الكل أن يطرحها، لكن، شيئًا فشيئًا، نسينا الحادث."
"كان أخي سالم يمشي على قدميه كل صباح من مخيم عين بيت الماء إلى نابلس، فيأخذ منه ذلك ساعة أو ساعتين. كان يعمل في المعمل الصغير الوحيد في المدينة، حيث كان يمارس مهنته كنساج، وكانت أمي تنهض من النوم ساعة قبله، تعجن، وتجلي، وتغسل بسطة الإسمنت، وحدها البسطة كانت من الإسمنت في بيتنا، فتنفجر رائحة الإسمنت في منخريّ، في صدري، في رأسي. لم أكن أذق طعم الراحة في الساعات الأخيرة من نومي إلا باستنشاق رائحة الإسمنت المغتسل بالماء. كانت البسطة محاطة بسياج من أعواد القصب يحمينا من عيون الناس، وكان كوخنا يُخْتَصر بِحُجْرة واحدة ذات جدران من الطين الناشف، وسقف من الزنك، دون نوافذ. كنا نتكوم في الداخل، قيامًا أو قعودًا، أيام القر أو الحر، ولم يكن يبقى لأمي، بعد شغلها الصباحي، غير أن ترمي دجاجاتنا بالذرة، وأنا أسمعها تقوقئ قرب يديها."
"كان أخي سالم يحب عمله منذ صغره، وكان يذهب إلى المعمل مع أبي في يافا، عروس البحر، كما كنا نسميها. كانت صفورية بعيدة بعض الشيء، وكان يبقى طوال ساعات بين آلات النسيج دون أن يشعر أبدًا بالملل. أتذكَّر، عندما كان يعود إلى البيت، كيف كان جدي يرفعه بين ذراعيه. أتذكَّر كل شيء في الوقت الحاضر: لحية جدي البيضاء، شعره الأبيض، حاجباه الأبيضان، نظرته البيضاء والعميقة."
"بعد النكبة عام 48، وجدت أمي نفسها وحيدة في المخيم بعيدًا عن بيتنا، مع طفلين آخرين، عزة وياسمين. كان أبي قد طلقها، ورحل، لم نكن ندري أين. كيف استطاع أن يفعل شيئًا كهذا هو الذي شارك في الثورة عام 36 وفي الحرب عام 48؟ كانت تصلنا أخباره من وقت إلى آخر، أخبار مقتضبة، فيقال لنا إنه مرة في دمشق، ومرة في الكويت، ومرة في الإسكندرية، ومرة في مرسيليا، ومرة في مالطا. إنه بدَّل مهنته عدة مرات، وإنه ما أن كان يتعرف على أحد حتى ينأى عنه. فجأة، عاد عام 67 ليموت في الحرب، وليترك لأمي ذهب الهزيمة. قبل النكسة، كانت أمي تكسب فضة الحياة مقابل غسل ثياب الجنود، تلميع جزماتهم، وتنظيف ثكناتهم، وكانت عمتي بدرية، التي لم تكن متزوجة في ذلك الوقت، تعمل منظفة عند أسرة ثرية من نابلس، مما كان يسمح لها بمساعدة أمي قليلاً. ثم تزوجت عمتي بدرية، واضطر أخي سالم إلى ترك المدرسة ليتعلم مهنة النساج. كان الأول في صفه، وكان معلموه يعترضون على قطع دروسه. كانوا طيبين! لكن، هم، لم يكن بإمكانهم أن يشعروا بما كانت تؤثر فينا آهات أمنا كل مساء. كانت تتأوه كما لو كانت تحتضر، بسبب كمية العمل التي كان عليها إنجازها في اليوم. كم كانت تشقى من أجلنا! ورغم ذلك، غالبًا ما كنا ننام على جوع بطننا. لم يكن لسالم الخيار، كانت أمي في حاجة إلى عمله، وكان في حاجة إلى علمه. لهذا، لم يترك كتبه العزيزة ولا أصدقاءه. كان الأستاذ جودت يعطيهم درسًا أو درسين خصوصيين في الأسبوع، وهم يجتمعون ستة أو سبعة في حجرته الصغيرة، ليسمعوا، ويكتبوا. لن أنسى أبدًا ما كان أخي يحكيه لي عن الأستاذ جودت. رماه الأردنيون في السجن عدة مرات، لأنه كان ثوريًا حقيقيًا، وتقدميًا حقيقيًا. كان يبدأ بشرح نظرية رياضية، ثم يأتي إلى الثورة، إلى الممارسة، وإلى كيفية التوصل إلى التحرير. كيف نصنع الثورات، الثورات بأتم معنى الكلمة. أقول كل هذا بعد أن عرفت ماخور الخراء هذا، جِراء الثوار هؤلاء!"
"كنت أرفض الذهاب إلى دروس الأستاذ جودت التي كانوا يريدون أن أسمعها، تمامًا كما كنت أرفض مهنة النساج التي كانوا يريدون أن أتعلمها. هربت من المدرسة، وبقيت طويلاً، وأنا أتسكع في أزقة المخيم. لم تكن أية مهنة تجذبني مذ كنت صغيرًا، ومع ذلك كنت ذكيًا، وأتعلم بسرعة. لهذا غالبًا ما كنت أتشاجر مع سالم، حتى أنني كنت أضربه، وكان يضربني، ومرة جرحته في جبينه، رغم أنه كان أكبر مني. الوحيد الذي كان يؤثر عليّ خالي. كنت أشعر بالانجذاب إلى خالي الذي كان يحبني أكثر من سالم، أكثر من عزت، أكثر من ياسمين. نجح في إقناعي بمساعدته في عمله، فرافقته أينما كان يذهب. كان خالي ميكانيكيًا، وهكذا صرت ميكانيكيًا..."
كانت هذه الحكاية الطويلة قد أتعبت عبد السلام، فنام نومًا عميقًا لم يستيقظ منه إلا على دوي المدافع، وشمس خجولة تتسلل من بين أكياس الرمل الموضوعة على النوافذ. وجد نادين عارية في فراشه، فأصابته الدهشة، لأنها كانت عارية، ولم تكن سمكة، ولأنها كانت نادين، ولم تكن فريدة. أوضحت له نادين، وهي ترتدي ملابسها، أنها كانت قد وجدته يقشعر من البرد، وأنها كانت قد نامت إلى جانبه لتدفئه، خير علاج لَمَّا ينعدم الدواء. كانت حجتها لتفعل الحب معه. أعلمته أنه كان قد هذى كثيرًا خلال نومه، وتوارت مع ابتسامة أخيرة.

يتبع الفصل الخامس عشر...