درس تموز: المذهبية عدوة المقاومة كما إسرائيل


حنا غريب
الحوار المتمدن - العدد: 5253 - 2016 / 8 / 13 - 11:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


يحق للشعب اللبناني، وللمقاومة بكل أطيافها وللذين واجهوا ببطولة استثنائية عدوان إسرائيل في تموز 2006 وكرَسوا هزيمة جيشها "الذي لا يقهر"، أن يحتفلوا بالنصر ويعلنوا على الملأ أن لا بديل عن المقاومة في مواجهة الاحتلال. ونتوجه في هذه الذكرى العاشرة بأسمى مشاعر الفخر والاعتزاز إلى الشهداء المقاومين والمدنيين، وإلى كل أبناء الشعب والجيش، الذين من دون وحدتهم ما كان لهذا العدوان أن يندحر. إن هذا النصر لم يولد فجأة في شهر تموز من ذلك العام، بل كان ثمرة نضال متراكم خاضه منذ مطلع القرن الماضي أبطال وشهداء من كل لبنان، بداية ضد السلطنة العثمانية ومن ثمّ ضد الانتداب الفرنسي حتى انتزاع الاستقلال، لتليه بعد ذلك سلسلة مواجهات متواصلة سطّرتها قرى الجنوب اللبناني على وجه الخصوص منذ عام 1948، ضد عدوان الكيان الإسرائيلي وترسّخ أطماعه التوسعية.

ومنذ البداية كان الشيوعيون في قلب هذه المسار المقاوم، فانخرطوا منذ الستينيات في قوات الأنصار ثم قوّات الحرس الشعبي، فجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي انطلقت في أيلول عام 1982، ممهّدة السبيل أمام الانتصار الكبير الذي حقّقه الشعب والجيش والمقاومة في حرب تموز 2006. فكانوا شركاء في تحقيق هذا الانتصار ومن حقهم الاحتفال بهذا النصر وتكريم شهدائهم وعائلاتهم وأن أحداً لا يمكنه تغييب دورهم المقاوم طالما هم تمسكوا به واستحضروه وقاموا بواجب تظهيره وحمايته وهو ما كانت ترمي إليه احتفالات منظمات الحزب في صريفا والجمالية وغيرهما كل على طريقته ومعهم اللقاءات والزيارات التي قامت وتقوم بها قيادة الحزب إلى عائلات الشهداء في المناطق اللبنانية كافة.

وعلى امتداد تلك المواجهات، التي شهدت ارتكاب إسرائيل للعديد من المجازر في قانا وصور وبعلبك والضاحية وأماكن أخرى كثيرة، كان مقاومون لبنانيون ينبتون من تحت الأرض كأزهار الربيع وأوراق التبغ، في مارون الراس وعيتا الشعب وبنت جبيل وصور والخيام ووادي الحجير وبلدات حاصبيا والعرقوب والبقاع وبعلبك والهرمل، مسجّلين بلحمهم ودمهم الملاحم البطولية في مكافحة العدو ودحره.

وإذ برهنت المقاومة عن قدراتها على امتهان الخطط العسكرية واستخدام السلاح المتطور والتكنولوجيا في تصديها للاحتلال، فقد أثبت شعبنا أيضاً امتلاكه لقدرات موازية على المستوى السياسي والإغاثي والمدني، حين اندفع عشرات الآلاف من المتطوعين الشباب والنساء والمنظمات الأهلية في مواكبة النضال المسلح للمقاومين، عبر تلبية الاحتياجات المعيشية الملحّة للناس تحت قصف البوارج والطائرات، مما جعلهم ــ على تنوّع انتماءاتهم الفكرية والسياسية والدينية ــ جديرين بالاحتفال بذكرى النصر في حرب تموز، بعدما رووا بدمائهم مجتمعين أرض الوطن.

وفي هذه الذكرى أيضاً، نتوقف بشكل شفّاف وصريح عند بعض الدروس والعبر تحصينا لهذا الانتصار على العدو الإسرائيلي، وتدعيماً لمرتكزاته. ومن أهم هذه الدروس، إن وحدة المقاومين على تعدّد انتماءاتهم ليست مسألة تنجز وتدوم في كل الظروف، مما يفرض على الجميع بذل كل الجهود للحفاظ عليها، لا سيما أن العدو لا يزال يتربص بلبنان.

وتشكل هذه الوحدة، كما نفهمها، الركن الأهم في الموقف المشترك الذي ينبغي اتخاذه من المسألة الوطنية، والذي يقوم على ثلاث رافعات: مواجهة الكيان الصهيوني ومخططاته العدوانية ضد لبنان؛ ومواجهة الدعم المتعدد الأشكال الممنوح إلى هذه المخططات من جانب المشروع الامبريالي الأميركي والقوى الرجعية العربية المنغمسة في التطبيع مع العدو الإسرائيلي وتوزيع الأدوار معه في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد؛ وفي مواجهة المشاريع الإرهابية الظلامية المستهدفة لحدودنا الشرقية ولمناطق عدة في الداخل اللبناني. وبهذا المعنى، فقد شكّل انتصار تموز صدمة للكيان الإسرائيلي، وعرقل تجسيد المشروع الأميركي، وأرعب الحكام العرب اللاهثين وراء الإدارة الأميركية للحفاظ على عروشهم، ومعهم قوى وأطراف لبنانية رجعية سعت بكل قدراتها خلال حرب تموز إلى تشجيع العدوان الإسرائيلي لمواصلة التدمير والقتل بهدف شطب كل أشكال المقاومة من المعادلة اللبنانية والإقليمية.

أما في المسألة السياسية الداخلية، فقد رأينا أنه عندما عجز العدو الإسرائيلي عن ضرب المقاومة من الخارج، لجأ أعداؤها إلى استخدام العدو الداخلي المتمثل بالنظام السياسي الطائفي، فلطالما لجأت أطراف هذا النظام إلى استعمال هذا السلاح الطائفي كلما لاحت مظاهر التوحد الشعبي في النضال الوطني والنقابي والاجتماعي. لقد نجح أسلوب الشحن المذهبي الذي وصل إلى حد الاقتتال الأهلي في افراغ هذه الوحدة الشعبية اللبنانية (والعربية) حول المقاومة من مضمونها ومعها فشلت قيادة المقاومة وعجزت عن حماية الانتصار وتحصينه نظراً لتركيبتها وباعتبارها شريكاً في نظام المحاصصة الطائفية، نظام المقايضة بعد أن سكتت عن الارتكابات التي وصلت إلى حد الخيانة من قبل شركائها في هذا النظام، وبعدما سكتت عن فسادهم ونهبهم للمال العام.

فنظامنا السياسي الطائفي والمذهبي هو عدو للمقاومة مثلما هي إسرائيل ومن ورائها. وعلى المقاومة أن تواجه هؤلاء دون تمييز عبر ربط التحرير بالتغيير الديمقراطي لهذا النظام الطائفي باعتبارهما قضية واحدة هذا هو مفهومنا للمقاومة، فشهداؤنا لم يسقطوا كي يحكم هذا البلد تحالف حيتان المال وأمراء الطوائف بل سقطوا من أجل بناء دولة مدنية علمانية ديمقراطية ومقاومة يعيش فيها أبناؤهم بعزة وافتخار.

ذلك أن معظم من سقط من شهداء في الدفاع عن أرض الوطن، ينتمي إلى بيئة أمعن فيها رأس المال الاحتكاري والريعي إفقاراً وتهميشاً واستغلالاً، وسعى فيها إلى طعن المقاومة عبر تجييش الإنقسامات والاصطفافات المذهبية والطائفية. إن شهيد المقاومة لم يكن غارقاً في الفساد والسمسرات والصفقات بل كان يؤمن بالعدالة والمساواة والحق في العيش الكريم. وبالتأكيد أن ذكراه لا تكافأ بسياسات الإفقار وبسلبه أهله وشعبه الحق في العمل اللائق والضمانات الاجتماعية والصحية والتعليمية والسكنية. أنها السياسات النيولبرالية التي لا يتوانى القيّمون عليها عن بيع السيادة والاستقلال وتكديس الثروات عبر النهب والمحاصصة، حتى لو اقتضى الأمر جعل لبنان كله مكباً للنفايات، وكهرباؤه غير متوفرة، وموارده المائية الأساسية ملوّثة (الليطاني والعاصي وسائر الأنهر) وهواؤه وتربته وغذاؤه فاسد، ودواء أبنائه مزوّر، وشبكات الأنترنت غير الشرعي متسلّط عليها من قبل حفنة من المتنفذين، من دون حسيب أو رقيب.

إن من يؤمن بالمقاومة والقضية الوطنية مدعو لتبني البرنامج الإصلاحي لبناء الدولة الديمقراطية المدنية العادلة والمقاومة. وفي طليعة هذا البرنامج إقرار مشروع قانون نسبي للانتخابات في لبنان دائرة واحدة وخارج القيد الطائفي، وذلك كمدخل لتفكيك النظام الطائفي وإعادة تكوين سلطة ملتزمة بالمواءمة بين مهمات التحرير ومهمات التغيير، وبإعادة بناء مقومات التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية على أساس احترام العلم والولاء للوطن الواحد وليس للزعيم الطائفي، وبإصلاح الإدارة ومكافحة الفساد والتحاصص والهدر، وتبني سياسات التقاعد والرعاية الصحية والاجتماعية ودعم القطاعات المنتجة وخلق فرص العمل واستعادة الكفاءات المهاجرة، وإعطاء العمال والموظفين والمتقاعدين حقهم المشروع في الأجر والتقديمات الاجتماعية.

ذكرى تموز عزيزة جداً، لنعمل معا لنستحق الفرح بإنجازاتها ولنحمي ونحصن انتصاراتها.

(*) الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني