بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل العاشر2


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5249 - 2016 / 8 / 9 - 15:17
المحور: الادب والفن     

أخبرنا عبد السلام بوصول مغربي، اسمه مرزوق، جاء لينضم إلينا، والغريب في الأمر أنه كان يرفض لمس السلاح الذي أعطيناه إياه.
- إذا جاء للقتال، قال القيادي الفلسطيني، فبالسلاح. أحضِروه لي!
أحضرناه.
- جئتكم، أوضح مرزوق بنظرة حالمة، من أجل العيش في عالم لم تعد المهانة تروج فيه، وليكون لحياتي معنى.
- المخيم على وشك أن يلفظ النفس الأخير، يلعن دين! أجاب عبد السلام بعنف. بالسلاح تمنعه من الموت، وتبني عالمًا سعيدًا يكون لحياتك فيه معنى الخراء!
- أحب الشمس من نعومة أظفاري، أجاب المغربي برخاوة. أريد أن أتبعها أينما تذهب، حتى في غمرة القتال، لأدفئ قلبي، لأرى أثر أقدامي، على طريق جنان النعيم الدنيوي.
- تغيب الشمس عن بيروت في الشتاء، يا أَحْبِة خراء الخراء! زعق رئيسنا، وهو يستشيط غضبًا. لا توجد غير شموس مدافعنا، التي تضيء لنا، في ماخور الجحيم هذا، أبعد ما تقدر على رؤيته أعيننا.
ودفع الكلاشينكوف بين ذراعيه.
ارتعدت فرائص المغربي، وأغمي عليه.
امتدت المعارك إلى ساعة بعيدة من الليل، ووميض البنادق يبدد الظلام. طلب عبد السلام من الأبيض نقل الجرحى إلى مستشفى المخيم، لكنه رفض. كان قد قاتل دون مساعدة المغربي، برر رفضه، وهو متعَب، متعَب جدًا. على أي حال، سيموت الجرحى، أضاف. ذهب ضوء الليل بهم وفريدة وعبد السلام، الذين استقبلتهم أغنيتا، زوجة الطبيب السويدي. كان طبيب المخيم الثاني لبنانيًا حديث التخرج، وكان يعمل متطوعًا مع الطبيب السويدي، وكذلك ممرضة فرنسية، اسمها نادين، أخت زوجة سالم، الأخ الأكبر لآمرنا، المهاجر في فرنسا.
قبلت نادين عبد السلام من وجنتيه، كانت تحبه. فريدة أيضًا، لكنها لم تكن تبدي شيئًا. فهم عبد السلام ذلك من الطريقة التي استخدمتها لإبعاده عن نادين، تحت حجة أن لديها ما تقوله بخصوص أختها، فاتنة. أعادت ما كان يعلمه من بطرس، يعني أن ما يهم لفاتنة حب أمريكيها الأشقر. لم تحاول إغراءه، هو، إلا لإذكاء الغيرة في قلب الأمريكي. وكذلك كمال الدرزي، وأبو أرز، وآخرون. سخرت بنا كلنا ليقع في غرامها. عندما أدركت أنها لا تصل إلى تحقيق غاياتها، حرضت أبا أرز علينا. كانت تريد إخضاعنا، وخاصة إخضاع رئيسنا، لأجل قبلة من الأشقر المغتر. كانت تتجاهل أن أبا أرز يعرف الشاب الأشقر معرفة جيدة، أنه يقيم علاقات حسنة معه، ولن يتردد الاثنان عن إخضاعها، مثل كلبة.
أبدت فريدة أسفها لتطبيق أختها الاستراتيجية نفسها بشكل مستمر، دون أن تقدر على التفكير فيما تفعل، فتدور عليها الدوائر في المستقبل. هل نسيت في مثل هذه السرعة مَثَلَ صديقتها المصرية، نجية، التي كان الشاب المغتر قد دمرها تمامًا؟
- أهم شيء في هذه اللحظة، قال عبد السلام لفريدة، شحنة الأسلحة الألمانية التي بين يدي كمال الدرزي.
- نعم، وافقت فريدة.
لم يكن يسمح لنفسه بمغادرة المخيم. كان وضعنا ضعيفًا جدًا بعد كل هذه المعارك، فطلب من فريدة الذهاب لرؤية الزعيم الدرزي. كان يأمل أن تتوصل إلى اتفاق معه، لحساسية شعوره تجاه النساء، ولكون فريدة أخت فاتنة التي يريد كمال الزواج منها.
عادت الأعمال الحربية بحدة متزايدة منذ الفجر. كان يبدو على أبي أرز أنه قادر على تطويقنا أكثر مما هو عليه، ومن موقع القوة، أخذ يطالب بلبنانه الكبير، فهل كان ذلك بموافقة العمة مريم، الغائبة دومًا؟ كان الجدار الصغير الذي يقسم حينا قد أصبح، وذلك منذ زمن طويل، في طي النسيان.
- صحيح أن حلمنا هو الوطن القومي-المسيحي، صحيح أن حلمنا هو الوطن القومي-المسيحي، (لم يقل "الماروني")، قال بصوته المعسول. لكننا مع التعددية الدينية، لكننا مع التعددية الدينية، قذف من موقع القوة دومًا.
ادعى بخصوصية لبنان كأمة قائمة بذاتها، لا علاقة مشتركة له بالأمة العربية غير علاقة اللغة والجغرافيا، فثار بعضٌ من جماعته –وكان ذلك اختلافهم الأول التاريخي. قالوا نعم للجغرافيا ولا للغة، فلغتهم كانت "اللبنانو-لبنانية"، ولم تكن غلطتهم إن كانت تشبه العربية. أما لهجتهم، ففينيقية. فينيقيا ولبنان كانا واحدًا، ربما لم يكونا من نفس العصر، لكن على كل حال من نفس الكوكب.
بدَّل أبو أرز الأسطوانة ما أن تمكنا من فتح ثغرة في مواقعه، وتسديد بعض الضربات القاسية. عاد يتكلم عن السور، ويهدد بقسم بيروت، فقلنا إن العمة مريم تحفر قبرها بيدها، وهي التي كانت ضد مثل هذا المشروع. خفنا عليها، فربما كانت رهينة القائد الكتائبي.
كان عبد السلام في حاجة ملحة إلى الاستعانة ببطرس في فتح ثغرة في جدار رجال الأعمال الإسرائيليين، لكن لم تكن هناك أخبار من بطرس. توقفت المعارك، وأخذت أجراس الكنائس تقرع، فتذكرنا برناديت، ابنة أجراس الحقيقة. بكى عبد السلام. نظر إلى الأنقاض، وقال لنفسه إن من اللازم عليه أن يجد حلاً، حتى ولو توصلت فريدة إلى رفع الحجز عن شحنة الأسلحة الألمانية. قرر أن يبعث من وراء أختها، ليجعلها تعلم أن القوة كالإغراء لا تجدي نفعًا. كفى أنانية! لن تخدع أحدًا غيرها! بإمكانه أن يكون لها وفيًا إن توقفت عن اللعب بالنار، وتركت أبا أرز وكمال الدرزي وضوء الليل وبطرس الأحمر وتقي الدين أن يحلوا مشاكلهم فيما بينهم.
- وداعًا بيروت! صاح. أهلاً وسهلاً صفورية!
وصلتنا أنغام مع هبوط الليل، كان ضوء الليل يعزف على الجيتار، وكنا ننظر إلى سماء بيروت، فنرى النجمات والغمام، وتصلنا الكلمات والأمواج:

ها إني جئت أعود اليوم إليك
جرحًا مطرودًا ثانيةً عن جسد الشام
منفيًا عدت وليس معي
إلا ذاك الوجه الغارب
إلا ذاك الصوت الغاضب
لم يسمع أحدٌ قولي في سوق الشام

يتبع الفصل الحادي عشر