بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الخامس1


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5239 - 2016 / 7 / 30 - 15:17
المحور: الادب والفن     

وصل أبو المشارق إلى المخيم في المرسيدس. طلب من الناس أن يرفعوا المتاريس، ويقيموا الملاجئ، مثل عمال معمل البسكوت. تجند الكل بعد أن صادر القيادي اليساروي كل ما كان يشبه الكحول والمخدرات: "على هذا المخيم أن يشبه عرين أسد!" قال. لوَّح بكلاشينكوفه، وطرد العاهرات إلى بيروت الشرقية. "لا مكان هنا إلا للثوريين!" أضاف. كان بطرس الأحمر قد شمر عن ساعد الجد، وأخذ يساعدنا في حفر الخنادق. أبو المشارق وعبد السلام كانا يجلسان على منصة بكل راحة، وهما يراقبان القبضات الخشنة في أعمالها. ثم، ذهب القيادي اليساروي بحثًا عن كل ما هو "محرم" ليصادره. استحى عبد السلام، وهو يرى بطرس يعمل إلى جانب العجوز أبي فريد، وهو يرانا كلنا نكد، فذهب ليساعد الأبيض. أذهلته الندبات التي كانت تغطي جسده.
- هذه من آثار الماضي، قال له الأبيض باسمًا.
حكى كيف رماه أبو أرز في زنزانة الشياطين، الشيطان المسكين الذي كانه. كان ذلك قبل الثورة. عذبه أبو مزة، مرة بالسوط، ومرة بالحديد. ابتسم، وبإصبعه أشار إلى الأحراش التي على المرتفعات.
- كل هذا بسبب أبي أرز، الذي أخذ موقعًا فوق، قال. كان رجاله يقتحمون أزقتنا متى أرادوا، كانوا يحطمون أبوابنا، كانوا يغتصبون بناتنا، فكنت أدافع عن نفسي، كنت أدافع عن الآخرين، كنت عدوهم اللدود. اسأل أمي تنبئك خيرًا مني.
كانت أمه تشبه العمة مريم، كأنها أختها الكبرى أو ابنة عمها. كان لها وجهٌ بيضاويٌ وعينان واسعتان، حزينتان لكنهما واسعتان، تدور بهما التجاعيد الناعمة. وخاصة، على عكس ابنها، كان لون بشرتها أبيض، مما كان يدفع إلى احترامنا وإعجابنا.
- في إحدى المرات، أكدت أم الأبيض، احتج ابني على أولئك المجرمين، فرماه أبو أرز، لعنه الله ألف لعنة، في الحبس. كان ذلك قبل الثورة. عذبه أبو مزة أشد عذاب، بالحديد وبالنار، فقط لأنه كان قد جرؤ على رفع صوته ضد أولئك المجرمين. وليستفزهم، أخذ يصيح "أنا فلسطيني!" نصحوه أن ينزع من رأسه فلسطين الشرموطة هذه من رأسه. "أنت أسود، وستبقى، دون وطن!" وما أن بدأت الثورة، عاد الأبيض إلى الصياح: "أنا فلسطيني، أنا فلسطيني..." كان أبو أرز يسمع ولا يمكنه أن يتدخل، وكان قلبه يمتلئ بالحقد. كان الأبيض يستفزه أكثر ما يقدر عليه، وكان يحتقره: "أنا أسود ولي وطن!" لهذا السبب سيشن الحرب، إلا أن تل الزعتر كريم، الزعتر كريم، والسلاح كريم!
تخيل عبد السلام المخيم تأكله النار كما تأكل النار الهشيم، ثم تنتشر في أحشاء بيروت، فشم رائحة شياط غابات الصنوبر. تنهد أبو فريد، وقال:
- وقت المصلحة، أبو أرز لا يفرق بين أحد، سيشن حربه على الجميع. أنا ابن الجنوب، اسأليني. بدأت حربه عندنا منذ زمن بعيد. قنابل الإسرائيليين من ناحية، والاحتكارات من ناحية.
- الاحتكارات ؟ سألت أم الأبيض.
توجه أبو فريد بالكلام إلى عبد السلام:
- هذه كلمة تعلمناها على طريق المنفى، اشرح لها ما تعني كلمة احتكارات.
تدخل بطرس الأحمر:
- تعني الليرات التي حتى البحر لا يسعها.
- فهمت، يا الأحمر، قالت أم الأبيض، بنبرة الفلاحة التي لها.
- تعني القنابل التي حتى النار لا توقفها.
- فهمت، يا الأحمر.
- تعني الذئاب التي حتى قلوبنا لا ترضيها.
- فهمت، يا الأحمر، فهمت، فهمت.
ابتسم أبو فريد، لأن أم الأبيض كانت قد فهمت. ابتسمنا نحن كذلك، لأن لها نفس لهجة العمة مريم. كانت تعرف أبا مزة، ولم تكن تعرف عمتنا. كيف كان هذا ممكنًا؟ قالت فجأة إنها من النادر ما تغادر تل الزعتر، لكنها تحب أن ترى بيروت، أن تزور أحياءها، أن تتعلم أشياء كثيرة. أضافت أنها لا تعرف أحدًا في بيروت، ما عدا العمة مريم، فاتسعت ابتسامتنا أكثر على شفاهنا. لم تتأخر عن إعلامنا أن العمة مريم غالبًا ما كانت تأتي لزيارتها. كانت الوحيدة بين اللبنانيين التي تدعمها في الأوقات الصعبة.
كان أبو فريد يواصل عمله بنشاط غير بعيد هناك، وكنا نتابع بنظرنا قطرات العرق التي تزلق على عنقه. عنق برنزي بفضل شمس الجنوب الكريمة. حمل حجرًا ضخمًا كما لو كان شيئًا لا أهمية له. ابتسم له عبد السلام، ولاقى نظرته المفعمة بالزهو التي كان يبدو عليها تقول: "رغم أثقال العمر، لم يزل أبو فريد شابًا!" وكأن الأبيض قرأ أفكاره، هتف، وهو يربت على كتف العجوز الجنوبي:
- لم يزل أبو فريد شابًا! لم يزل شابًا!
ما لبثت ابتسامة عبد السلام أن امحت، وانقبض قلبه. ذهب بعينيه إلى أم الأبيض، وهي ترفع المتاريس، وهي تبني الملاجئ، وفي عينيها السوداوين كل الملاجئ. لم يكن ضميره مرتاحًا، وهو يراها تعمل، هي أيضًا، كشابة في العشرين. كان لقدميها لون الطين، لساعديها لون الإسمنت. ذكرته بأمه التي كانت تجبل التحصينات مثلها بالإرادة، والمتاريس بالحياة. من وقت إلى آخر، كانت ترفع رأسها، وتنظر إلى أحراش الصنوبر على المرتفعات.
- هناك بنادق في الغابات تكمن لنا، همست.
عند ذلك، قرر سكان المخيم، كما قررنا كلنا، الانتهاء مما نعمل بأسرع وقت.
جذبت أم الأبيض عبد السلام عندما انتحى جانبًا، وتأوهت.
- لم يبق لي سوى ولدي، الأبيض، وهاتين اليدين السوداوين، أفلتت، وهي تمد يديها.
كان الضباب في عينيها، فلم ير القائد الفلسطيني بدًا من سؤالها عما يمسك قلبها.
- آه! لو تعلم، تابعت لعبد السلام. أخوه المعتصم كان يعمل في معمل البلاط، معمل صغير في الدكوانة، قبل أن يفلس. لم ير أخوه في حياته فشكة، المسكين! أوقفوه على عتبة المخيم، شباب مثله، وقتلوه. شباب يقتلون شبابًا آخرين، شباب يمتلئون بحقد أعمى، مستعدون للموت، هم كذلك، لقضيتهم المزعومة. في الواقع، لأجل قضية رؤسائهم، الذين هم، لا يُمَسُّون، كأبنائهم ومتاعهم. أما أخت المعتصم، أبيَّة، فلم يعد عندها وقت للنوم، وهم يحرثون على ظهرها ليل نهار في مشغل الخياطة.
قال أبو فريد المثل "في الصبر قوة"، لكنها صححته بحدة:
- في القوة صبر!
ثم سكتت. كانت تتابع بعينيها الأبيض، وهو يعمل بقدر عشرة أبناء، وأضاءت ابتسامتها أخيرًا وجهها. كانت الريح تعصف بطموحات عبد السلام، كان يخاف من ابتسامة أم الأبيض، وكان يريد الانسحاب، فمنعته صيحة أم فريد.
- نعم، هكذا، يا أم الأبيض، ألقت. ابتسمي! ابتسمي! ابتسمي بكرم ابتسامتك البيضاء!
كنا نتأمل تلك الفلاحة التي تتصعَّد من جديلتيها رائحة الجنوب، وكنا نأمل أن يأتي بطرس الأحمر لنجدتنا، لأن هذه الرائحة الطيبة كانت تخنقنا. أخرجت من صدرها كيسًا من التبغ، وأخذت توزعه علينا.
أشار أبو فريد بإصبعه إليها.
- هذه المرأة تساوي كل نساء الأرض، قال مزهوًا.
كانت تشع بنفس الزهو الذي لزوجها.
- في كل مرة تنجب فيها بنتًا، تابع أبو فريد، كان يتضاعف محصول التبغ مرتين.
- نعرف الآن لماذا كل هذه البنات التي لك، علق بطرس بمرح. ليس حبًا في أم فريد بل في التبغ!
ضحك أبو فريد.
- لو كانت جيوبي ممتلئة لكنت متفقًا معك، لكن كل شيء يذهب إلى جيوب أبي أرز. إن لم تصدقني فاسأل ابنتي فريدة تقل لك.
هزت فريدة رأسها موافقة، فباركها أبوها، ثم همهم:
- فريدة الساعد الوحيدة التي بقيت لي!

يتبع...