الإرهاب المُنتسب للدين: سؤالان صريحان ومواجهة!


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5225 - 2016 / 7 / 16 - 22:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


إرهاب نيس يوجه لطمة اخرى في وجه وعينا الجمعي تُضاف إلى الصفعات اليومية التي يوجهها لنا الإرهاب الطائفي المقيم في العراق وسورية واليمن وغير مكان في بلداننا. الإرهاب الذي ينسب نفسه للدين يضرب بقسوة ووحشية في كل مكان: من بنغلاديش وباكستان إلى اورلاندو ومرورا بعشرات البلدان والمدن. دفاعنا المستميت عن انفسنا امام انفسنا اصبح هشا ومكرورا، وتكرارنا بأن الذين يقومون بالإرهاب هم "شرذمة" لا تمثلنا لم يعد له تأثير حقيقي. لماذا لا تقوم "شراذم" الآخرين بما تقوم به "شراذمنا"؟ وما هي الثقافة والتعليم والمناخ الذي انتج "شراذمنا" ودفعها لممارسة إجرام يصعب وصفه، واخر تمثلاته اقتحام تجمعات لناس مدنيين بشاحنة ضخمة تهرسهم تحت عجلاتها! كذلك إحالتنا ما يحدث إلى اسباب خارجية وتدخلات عسكرية من قبل الآخرين، وعلى ما فيها من وجاهة وصحة، فقدت ايضاً جزءا كبيرا من فعاليتها. فنحن لسنا الشعوب الوحيدة التي تتعرض للإضطهاد او للظلم في العالم او عبر التاريخ، فلماذا تأتي ردة فعلنا على الظلم بوحشية بالغة تنسي العالم بشاعة الظلم الذي نتعرض له اساساً؟
لماذا لا تكون مقاومتنا لأي ظلم شريفة ونظيفة وتتسم بالفروسية، وليست منحطة وعديمة الأخلاق ولا تنتمي إلا إلى عالم النذالة والجبن؟ قرأت حديثاً تفاصيل عملية عسكرية اشرف عليها القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني اثناء الإنتداب البريطاني على فلسطين، وكان هدفها نسف مبنى جريدة صهيونية كانت رأس حربة في الدعاية للمشروع الصهيوني. الحسيني اجل تنفيذ العملية من وقت لآخر كي يضمن عدم وجود أي اشخاص عند تفجير المبنى، وتم تفجيره فعلا خلال الليل حتى لا يسقط ضحايا آدميين. هذه هي مقاومة الفروسية التي تحسب كل حساب لسقوط قتلى قد يكون منهم عمال نظافة لا ناقة ولا جمل لهم بكل القضايا الكبرى. اين ذهبت تلك المقاومة، ومن اين جاءت المقاومة التافهة التي تسيطر على ساحاتنا هذه الايام ولا تستهدف إلا المدنيين، وتمارس جبنا ارنبياً عندما تواجه عدوها وجها لوجه؟ لم يعد امامنا إلا مواجهة الحقائق والاسئلة البشعة كما هي من دون مواربة ومن دون تسويغ او تهرب، لأن مثل هذه المواجهة هي التشخيص الذي لا بد منه إن اردنا التخلص من سكين الارهاب الذي يحز رقاب مجتمعاتنا وثقافتنا وضميرنا الجمعي وصورتنا امام انفسنا والعالم. المساحة هنا لا تتيح إلا التأمل في سؤالين من هذه الاسئلة:
اولاً: هل الضغوط الخارجية والتدخلات العسكرية والإحتلالات تسوغ الإنحدار إلى الإرهاب بكل صوره؟ يجب ان يكون جوابنا الجمعي على ذلك: لا كبيرة، لأسباب اخلاقية واسباب براغماتية ايضا. اخلاقياً، يقودنا استخدام نفس اساليب المعتدي حتى لو كان متوحشاً لآخر مدى الى التورط في مشاركته التوحش وفقدان تفوق ميزان القوى الاخلاقي الذي تتسم به اية قضية عادلة. التفوق الاخلاقي للقضية العادلة هو جوهر قوتها وبقاؤها والتفاف الناس حولها، سواء اصحابها انفسهم او المتضامنين معهم. التورط في التوحش يفتت الإجماع على عدالة القضية ويبعثر المناصرين من حولها، بل يعمل على إحداث الإنقسام في اصحاب القضية ذاتهم.
كلما تمسكت القضية العادلة بالفروسية والنبل في مقاومتها التوحش كلما ازدادت قوة وبهاءً وظلت عدالتها سيفاً مصلتا على رقبة المعتدي المتوحش. هذا كان درس المقاومات النبيلة من غاندي إلى مانديلا مروراً بعمر المختار وعبد القادر الحسيني. براغماتياً، حتى لو تم ضرب كل المسألة الاخلاقية عرض الحائط واعتبارها تنظيراً مثالياً لا علاقة لها بالسياسة الواقعية، فإن التجربة التي خضناها في مساحات جغرافية وزمنية عريضة تؤكد فشل التوحش والارهاب وحتى المقاومة التي لم تلتزم بالحفاظ على تفوق الميزان الاخلاقي في تحقيق اي مُنجز على الارض. هوس بن لادن والظواهري في تفجير البرجين في نيويورك لم يهزم امريكا، بل قدم لها افغانستان والعراق تعويضا على ذلك. في العراق انجزت "مقاومة" الزرقاوي وقاعدته للإحتلال الامريكي عبر الإرهاب وتبنى استراتيجية "استهداف الشيعة حتى ينتبه السنة إلى المؤامرة" كوارث عدة : تكريس الوجود الامريكي واطالة عمره، إطلاق جنون الطائفية في العراق وتصديرها (بالتحالف غير المقدس مع سياسة ايرانية شبيهة)، تقسيم العراق وشرذمته، وتوطين الإرهاب في قلب العالم العربي. في سورية، حافظت "مقاومة" القاعدة وداعش على النظام الدموي في دمشق، وافشلت الثورة السلمية النبيلة، وحطمت سورية تماماً عبر تسويغ التدخلات الخارجية من حزب الله وإيران إلى روسيا وكل العالم. في فلسطين، لم تحقق حركة حماس وهي اقرب الحالات إلى المقاومة المعقولة بسبب انخراطها في معركة تتسم بإجماع على عدالة قضيتها أي منجز حقيقي على الارض. استراتيجية العمليات الانتحارية التي تبنتها لسنوات عدة سوغت لإسرائيل بناء الجدار العازل، وصعدت من التضامن العالمي معها، وجرت على الفلسطينين في قطاع غزة والضفة الغربية كوارث لا تحصى. على الارض، سعرت تلك العمليات من الهوس الامني عند اسرائيل لدرجة تقطيع اوصال الارض الفلسطينية عبر الحواجز الامنية وتحويل المدن إلى معازل منفصلة لا تتواصل مع بعضها البعض إلى في الحد الأدنى. اي جردة حساب بعقل بارد لحصيلة تلك العمليات تشير إلى خلاصة كارثية. وفي خلاصة الخلاصات فإن كل ما انجزته تلك العمليات و"مقاومتها" بنية عسكرية لحماس استخدمت لاحقاً في الصراع الداخلي وللسيطرة على قطاع غزة وإحداث إنقسام رأسي انهك فلسطين والفلسطيين منذ عقد من الزمان.
ثانياً: هل هناك علاقة للإرهاب المُنتسب للدين بالدين نفسه؟ الجواب نعم، لأن الدين اي دين ليس سوى التفسيرات والتأويلات التي يقدمها رجال الدين للنص المُقدس. والنص المُقدس لا يشتغل لوحده في الفراغ، بل يتم إيصاله للمتلقين والناس العاديين عبر التفسير ورجال الدين. وكل من يقول إن هذا الفعل او ذاك لا يعبر عن الدين الحقيقي فإنما ينطلق من نوايا حسنة ومدفوع بالضمير الديني البسيط، الذي سرعان ما تصدمه تفسيرات شرسه وقوية من جحافل المفسرين والمتطرفين تبرر القيام بكل شيء ضد العدو: من قتله، واستحلال كل ما يملك، بل ... وصولا الى حرقه حياً، كما بررت داعش فعلتها المجرمة بناءً على مقولات وتفسيرات دينية. التفسيرات الدينية والتأويلات التي يمكن ببساطة ان يُفهم منها ان الشهادة هي الإنتحار الرخيص ضد مقهى هنا او ناد يرتاده "الكفار" هناك منتشرة في ثقافتنا الدينية والتعليمية والمسجدية طولاً وعرضاً وعلينا ان نواجهها. ما هي النظرة المتأصلة ل "غير المسلمين" ونحن نستمع اسبوعياً لآلاف الخطباء يدعون الله "بأن لا يبقى منهم اثراً"، ويقرأ ابناؤنا يومياً فصولا وكتباً على مقاعد الدرس لا تؤسس إلا إلى النظرة الاستعلائية عليهم واحتقارهم اما صراحة او استبطانا. علينا ان نقر اولاً بأن الثقافة المدرسية والمسجدية تؤسس ل "داعشية كامنة"، حاسمة في نظرتها للآخر، وقاسية في احكامها، واستقصائية في جوهرها. الداعشية الكامنة هي الرأسمال الكبير والخطير الذي تعتاش عليه الداعشية المتوحشة والتي استطاعت الوصول إلى السلاح وتفعيل كثير من الفهم الداعشي الكامن الذي لم تتح له الفرصة للتعبير عن نفسه. والداعشية هنا وخلال العقود القليلة الماضية لم تكن مقصورة على بلد او مجتمع او طائفة، بل هي عابرة للبلدان والمناهج التعليمية والطوائف، فكما هي تستعر في اوساط "السنة" فإنها تستعر ايضا اوساط "الشيعة"، وتطرفها ينافس بعضها بعضا في تحطيم مجتمعاتنا. مستقبل هذه المنطقة واجيالها ومجتمعاتها مرهون بإستئصال الداعشية الكامنة وامتلاك الشجاعة الكاملة في الإقرار بوجودها ثم التحرك لمواجهتها استراتيجياً وبطول نفس، لأن الخراب الذي تجذر بسببها من الصعب اصلاحه بسياسات قصيرة الامد.