الديمقراطية وبيئتها المفهومية(الحلقة 1)


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 5212 - 2016 / 7 / 3 - 22:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الديمقراطية وبيئتها المفهومية( الحلقة1)
منذر خدام
ولادة المصطلح وحدوده الواقعية.
لقد شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين نقاشا مستفيضا حول مسألة الديمقراطية وارتبط ذلك على وجه الخصوص بالتحولات التي جرت في بلدان الكتلة السوفييتية.ونظرا لاتساع الاهتمام بالديمقراطية وعمق وشمولية المناقشات التي دارت حولها يمكن القول دون مبالغة أن هناك نوعاً من إعادة اكتشاف القضية على الصعيد العالمي وعلى الصعيد العربي أيضاً.واللافت أن غزارة النقاش حول قضية الديمقراطية لم يخف حقيقة أن هناك اختلافاً وتبايناً في مدلول المصطلح.فكل مساهم في النقاش يعطي الكلمة مدلولا وصفيا معينا ويسحب ذلك على البناء الاجتماعي فتتعقد القضية وتتعدد الأسئلة.ورغم الاختلاف والتباين في فهم المصطلح وتحديد محموله الدلالي ،فإنه ترك في جميع الأوساط الاجتماعية قيمة انفعالية إيجابية.
كلمة "ديمقراطية" من أصل يوناني وهي تعني في اللغة "حكم الشعب" وقد يضاف إلى الترجمة العربية للكلمة "نفسَه بنفسِه"، فتصبح الترجمة الكاملة لكلمة ديمقراطية هي "حكم الشعب نفسه بنفسه".من جهة أخرى فإن المدلول الاصطلاحي لكلمة ديمقراطية أي إشارتها إلى بناء اجتماعي معين يسود فيه نوع من الحياة السياسية كان ضيقا جدا على الدلالة اللغوية لمصطلح ديمقراطية.فمنذ البداية كان ثمة فارق كبير بين المعنى اللغوي لمصطلح "ديمقراطية" والمعنى الاصطلاحي بما هو إشارة إلى بناء اجتماعي محدد له حياته النوعية الخاصة.وإن إحدى التفسيرات الأكثر رجحانا لهذا الجانب الاصطلاحي لمفهوم الديمقراطية،أي إشراك العامة في إدارة شؤون الدولة، تعيد المسألة إلى ظروف الحروب العديدة التي نشبت بين دول-المدن اليونانية القديمة وتحديدا إلى المجتمع الأثيني .في ذلك الزمن ونتيجة للحروب العديدة التي قامت بين اليونانيين كادت تنقرض طبقة النبلاء-الفرسان مما استدعى صعود أناس من عامة الشعب لقيادة الجيش والحصول بالتالي على ألقاب النبالة دون أن يكون النبيل الجديد سليل أسرة نبيلة.ومع تزايد حضور العامة في الجيش والحصول على ألقاب النبالة تصاعدت المطالب بإشراكها في إدارة شؤون الدولة.وهكذا بدأ يجري انتخاب كل مسؤولي الدولة بصورة مباشرة من قبل الشعب وسمي هذا الطراز من الحكم المباشر بالديمقراطية.
وكان الإشكال الأول الذي واجه الديمقراطية اليونانية القديمة هو تحديد من يحق له المشاركة في الانتخابات ،وهو السؤال الذي لا يزال يطرح حتى وقتنا الراهن مع اختلاف الظروف التاريخية. ونظرا لأن المجتمع اليوناني القديم كان مجتمعا عبوديا فقد أجاب عن سؤال المشاركة بأن استثنى الأرقاء والنساء من عملية المشاركة في الانتخابات وحصرها في طبقة الأحرار أي أولئك الذين كانوا يتميزون بكونهم أرباب المواقد.فرب الأسرة هو رب الموقد فيها،ولكي يكون رباً للموقد عليه أن يكون صاحب أسرة وان يمتلك أرضا وعددا من العبيد.في اليونان القديمة بلغ عدد من ينطبق عليهم هذا التحديد لمفهوم رب الموقد نحو 12% من عدد سكان اليونان آنئذ.
تميزت الديمقراطية اليونانية القديمة بأنها ديمقراطية مباشرة يشارك فيها جمهور الشعب مباشرة أثناء انتخاب المسؤولين أو عزلهم، كما كان يشارك أيضا في المناقشات المتعلقة بشؤون الدولة والحكم .
هذه هي البدايات التاريخية لعملية ولادة مصطلح "الديمقراطية" وتمثيله واقعيا، لكن في سياق التطور التاريخي الاجتماعي العام توسعت الدلالة الاصطلاحية للمفهوم وأصبح يشير إلى بنى اجتماعية مختلفة تسود فيها أنماط من الحياة الاجتماعية متباينة إلى حد كبير.من هذه الزاوية لا يزال المصطلح في وضعية عدم التعيين ويشكل موضوعا ساخنا للسجال وربما سوف يستمر ذلك في المستقبل.فالمحمول الدلالي للمصطلح من زاوية الرؤية الغربية يختلف عنه من زاوية الرؤية في بلدان العالم الثالث . وحتى في الدول المتقدمة التي لها تاريخها الخاص والمتقدم في مجال الديمقراطية ثمة اختلاف وتباين في رؤيتها لما يشير إليه المصطلح واقعيا.واكثر من ذلك ثمة اختلافات جدية في رؤية المفكرين والسياسيين الذين اشتغلوا على قضية الديمقراطية في مختلف البلدان والظروف ، مما يبرهن على أننا إزاء ظاهرة معقدة ومتعددة ليس لها حدود معيارية بل حدود تاريخية، تتسع أو تضيق من بلد إلى آخر، وتختلف أيضا في داخل كل بلد بحسب رؤية كل شكل من أشكال الوجود الاجتماعي لها ومصلحته فيها. يقودنا ذلك إلى استنتاج مبدئي يفيد بأن الديمقراطية هي ديمقراطية واقعية فحسب ،و كل ديمقراطية واقعية هي ديمقراطية حقيقية بهذا المعنى . أما أن يقال أن هناك ديمقراطية حقيقية كحالة معيارية حدية فهو قول بلا معنى،لأن الديمقراطية من حيث الأساس ذات طابع تاريخي ترتبط مباشرة بمصالح قوى اجتماعية مختلفة.ويزيد في طابعها التاريخي أيضا كون مفهوم "الشعب " ومفهوم "الحكم" يتغيران عبر التاريخ . يترتب على ذلك استنتاج آخر يفيد بان كل اختيار ديمقراطي له مشروعيته التاريخية، بمعنى أن هناك مصالح اجتماعية معينة استدعته، وان المقارنة والمفاضلة بين اختيار ديمقراطي وآخر لا يكون استنادا إلى مقياس معياري حدي ، بل إلى اختيار آخر يكون أكثر فعالية في مجال التقدم الاجتماعي وفي اقترابه من حقوق الإنسان كما تتحدد تاريخيا.
وبالفعل ما كان يمثل نظاماً ديمقراطياً "حقيقياً" بالنسبة للكتلة السوفييتية والمتأثرين بمناخاتها الفكرية والسياسية هو غيره بالنسبة للدول الغربية . وحسب عالم الاجتماع البريطاني انتوني غيدنز هناك ثلاثة أنواع من الديمقراطيات : الديمقراطية المباشرة والديمقراطية التمثيلية متعددة الأحزاب والديمقراطية ذات الحزب الواحد.