تأملات في الديمقراطية عند بريطانيا والعرب

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 5210 - 2016 / 7 / 1 - 03:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

منذ أيام قليلة صوتت الغالبية في بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء ديموقراطي ونزيه ولكن نتائجه كانت صادمة للعالم ولبريطانيا نفسها، حتى أن عمدة لندن السابق بوريس جونسون والذي كان من أبرز من قادوا حملة الخروج لم يتوقع هو ومؤيدوه أن يكسبوا الاستفتاء ولذلك فإنه هو الآخر في صدمة ومرتبك حيث كان يتحدث قبل الاستفتاء عن رغبته في الخروج السريع لبريطانيا من الاتحاد ولكنه الآن يقول أنه لا يمكن لبريطانيا أن تعطي ظهرها لأوروبا وانه لابد من توثيق العلاقات معها، ويبدو أنه نسى انه طالب البريطانيين بعكس هذا قبل أيام قليلة.
وواضح من هذا أن بوريس يدرك أن ما فعله قد يؤدي إلى انفراط عقد المملكة المتحدة حيث أدى الاستفتاء الى انقسامها الى معسكرين اسكتلندا وايرلندا الشمالية اللذين صوتا للبقاء وإنجلترا وويلز الذين صوتا للخروج.
وعادت اسكتلندا تطالب من جديد بالاستقلال عن بريطانيا من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي، كما تطالب إيرلندا الشمالية بنفس الشيء من أجل الوحدة مع إيرلندا الجنوبية والبقاء في الاتحاد الاوروبي. هذا بالإضافة الى الثمن الاقتصادي الفادح الذي ستدفعه بريطانيا إذا ما تقرر الخروج من الاتحاد الأوروبي بشكل رسمي والذي بدأت تبعاته المؤلمة بالفعل فور الإعلان عن نتائج الاستفتاء والتي تمثلت في الهبوط السريع للإسترليني وتخفيض الجدارة الائتمانية لبريطانيا وبدء الكثير من البنوك والشركات العالمية في الاستعداد لنقل موظفيها ومقارها من لندن.
والأخطر مما سبق هو الكساد القادم لا محالة نتيجة حالة عدم اليقين التي تشمل عموم بريطانيا هذه الأيام بعد استقالة ديفيد كاميرون والصراع على من سيخلفه في حزب المحافظين، بالإضافة الى المعارك التي اشتعلت داخل حزب العمال والتي قد تؤدي إلى تفككه. ونتيجة حالة الفوضى هذه في الأجواء السياسية والاقتصادية عادة ما يحجم قطاع الأعمال عن القيام بأي استثمارات جديدة وكذلك يؤجل المستهلكون شراء أي أصول جديدة مثل المنازل والسيارات انتظارا لما سيحدث وهذه هي البداية التقليدية لنوبات الكساد كما تعلمنا في الاقتصاد.
ولو ان الأمور استمرت على هذا المنوال الكئيب خاصة وان دول الاتحاد الأوروبي لا تظهر أي نوع من الشفقة تجاه بريطانيا ما بعد الاستفتاء وتطالبها بالإسراع في الخروج فإنه من الأرجح أن تزداد الأمور خطورة وتعقيدا. ولكننا نعتقد بوجود مساع حثيثة وراء الستار في بريطانيا وداخل المجموعة الأوروبية وربما بضغوط من الولايات المتحدة الأمريكية حليف بريطانيا القوى لإيجاد مخرج من هذه الأزمة يحفظ كيان بريطانيا ويحافظ على قوة الاتحاد الأوروبي، وكل هذا يصب في مصلحة أمريكا في النهاية خاصة مع تنامي قوة الصين وتزايد المخاطر الروسية في أوروبا.
إننا أمام واقع مأساوي حقيقي يصعب تصديقه خاصة وأن مشاهده تتحرك بسرعة شديدة. وحتى الان فإن الخاسرين لا يزالون غير مصدقين انهم خسروا معركة بدت محسومة لصالحهم حتى قبل أن تبدأ ولذلك تراخوا في التصويت وهم الآن يطالبون بإعادة الاستفتاء ويجمعون التوقيعات لهذا المطلب غير المألوف.
والكاتب كان واحدا من المؤيدين للبقاء نتيجة المزايا العديدة التي تمتعت بها بريطانيا من خلال عضويتها في السوق الأوروبية الموحدة على مدار اربعين عاما تمكنت خلالها من الاحتفاظ بعملتها واستقلال سياستها النقدية والخارجية وكانت بمثابة البنت المدللة للاتحاد الأوروبي.
وأتذكر انه في بداية عملية فرز الأصوات منذ أيام أن كانت أصوات المؤيدين للبقاء أكثر من أصوات المعارضين ولذلك ذهبت الى الفراش وأنا مطمئن ولكن عندما استيقظت في الفجر صدمت بشدة وانا ارى شاشة ال BBC تظهر ان اعداد الرافضين تفوق أعداد المؤيدين بأكثر من مليون شخص!
ولكن بعد الافاقة من الصدمة قلت لنفسي هذه هي الديموقراطية الحقيقية بكل محاسنها ومساوئها. إنها الديمقراطية التي تساوي بين الجميع مهما تباينت حظوظهم في التعليم والغنى والذكاء والطبقة الاجتماعية، فلكل صوت واحد سائق التاكسي مثله مثل حامل الدكتوراه، وهذا أجمل ما في الديمقراطية حيث أنها النظام السياسي الوحيد الذي يساوى بين الناس بشكل كبير وعادل.
ولابد ان اعترف هنا أنني كنت مخطئا في قناعاتي القديمة بأن أسوأ ما في الديمقراطية هي أنها لا تعطي صوتاً إضافيا أو ثقلا معينا لأصوات النخبة من المفكرين والمثقفين والأكاديميين. فبعد تفكير عميق فيما بعد الاستفتاء البريطاني
اتضح لي أنه من غير العدل تمييز النخبة على العامة تحت أي زريعة لأن كل منا يسعى لمصالحه كما يراها. فبالرغم من إنني على دراية أكبر بالأمور الاقتصادية من سائق التاكسي إلا أنه أدرى مني بمصالحه ومشاكله الاقتصادية وكيفية التعامل معها. وعلى سبيل المثال فإنه لا يعنيه كثيرا انخفاض قيمة الاسترليني من جراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لأنه لا يجد ما يكفيه أصلاً من هذا الجنيه ولا يملك أي مدخرات تذكر وهو يسعى بالأساس لزيارة دخله المجمد منذ سنوات والحصول على مزايا أكبر في نظام التأمين الصحي الإنجليزي NHS الذي وعده به بوريس جونسون إذا صوت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولذلك فإن مصلحة سائق التاكسي تحقق من خلال تأييده لحملة بوريس الذي نظم مؤيدوه حملات ضخمة منها إعلانات على حافلات لندن تقول: سنوفر 350 مليون إسترليني أسبوعياً لدى الخروج وسيتم إنفاقها لتحسين ال NHS من أجلك.
اذن سائق التاكسي اتخذ القرار الاقتصادي الصحيح في ضوء ما توفر له من معلومات ولكن المشكلة انه أعطي معلومات كاذبة.
وقناعتي الشخصية هي أن الديمقراطية يمكن ان تعمل لصالح الجميع سواء كانوا ذوي تعليم عال أو حتى بدون تعليم شريطة أن تقدم لهم المعلومات الصحيحة وبالشكل المفهوم لهم والذي يساعدهم على اتخاذ القرار الصائب عند الإدلاء بأصواتهم وأؤكد مرة أخرى انه لا ينبغي التمييز ضد البسطاء ومتوسطي التعليم والفقراء وتصديق مقولة الأغنياء وبعض المثقفين بأنهم يستحقون فقرهم وحظهم العاثر لأنهم كسالى ولا يعملون بجدية كما يعمل الأغنياء ولا يجتهدون في التحصيل كما يجتهد المتفوقون ولذلك فإنهم يستحقون ما هم فيه من فقر وحرمان وأن الديمقراطية لا تصلح لهم لأن تمتعهم بحقوقها يهدد مصالح دولهم .
في رأينا أن هذا ادعاء ظالم وتوصيف غير دقيق للمسألة لأننا جميعاً نخضع لقانون الصدفة في هذه الحياة ، إنها الصدفة التي تجعل بعضاً منا ينشأ في أسرة متيسرة الحال وفي ظروف اجتماعية مواتية تساعده على نيل حظ جيد من التعليم في مدارس وجامعات متميزة ، كما أن الانتماء لأسرة ميسورة الحال يعني أن تكون فرص الارتقاء والتقدم في الحياة متوفرة نتيجة العلاقات الاجتماعية بأكثر ما هي متوفرة بطبيعة الحال لأبناء الفقراء بمعنى أن الوضع الاقتصادي للإنسان عند نشأته يحدد في الغالب مساره في الحياة وفهمه للعالم وحتى دينه وكل القيم الأخرى ، فالإنسان الذي تضيق به الحياة تضيق مفاهيمه وآفاقه وعوالمه وتقل مساحة التسامح والإبداع لديه بشكل ملحوظ .
ومرة أخرى فإنه لا ينبغي أبداً أن نحرم هؤلاء غير المحظوظين من حقوقهم الديمقراطية وأقل ما يمكن أن نقدمه لهم هو المعلومات الصحيحة وان نكف عن استغلال ضعفهم والعمل على رفع وعيهم واشراكهم في القرارات المصيرية التي تمر بها بلادهم دون زيف أو خداع كما يفعل حكامنا العرب الذين يؤسسون اركان حكمهم على أربعة دعائم أساسية هي الاستبداد والعنف والكذب وتغييب وعي شعوبهم.
كل ما سبق يبين انه بالرغم من كل محاسن الديمقراطية مثل حرية الرأي والاعتقاد والشفافية ودولة القانون والمؤسسات ... الخ كل هذا يمكن أن يضيع في لحظة إذا ما اسيء تطبيقها كما يحدث في بريطانيا الان.
وكما أسلفنا فإن أهم مظاهر الخراب التي تجلبها الديمقراطية على أي نظام سياسي مهما كانت درجة تقدمه هو إخفاء الحقائق عن الناس وتزييف وعيهم وحرمانهم من المعلومات الصحيحة وهو ما يؤدي إلى عدم استخدامهم لحقهم الانتخابي بالشكل الصحيح ومن ثم تأييدهم لسياسات وقرارات خاطئة. كما أن تهميش الطبقات الفقيرة في العملية السياسية وعدم الاهتمام بجدية بتحسين ظروفهم المعيشية الصعبة يؤدي إلى كفر هذه الطبقات بالعملية الديمقراطية برمتها وتوجههم إلى أي خيارات لا تهدف لشيء سوى إلحاق الأذى بالأغنياء والمحتكرين لخيرات الوطن حتى لو أدى هذا السلوك الى ضياع الوطن ذاته.
والخلاصة أن الديموقراطية سلاح ذو حدين وأنها تنجح عندما تخلص نوايا الحكام والسياسيين وأصحاب الآراء المسموعة والمؤثرة. والحل هو الاحساس بأوجاع الفقراء والسعي لإصلاح أوضاعهم البائسة وتزويدهم بالمعلومات الصحيحة والتي تتماشى مع المنطق والعقل والحقائق على الارض. ومناخ الديمقراطية النظيف يتيح كل هذا، إذا الأمل في الديمقراطية والمعرفة والضمير الانساني الحي وليس في رفع الشعارات الدينية والسياسية.


محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري