الشيطان يتخفّى خلف كثير من العمائم واللحى : تجربة حياة .!! ( الجزء الأول )


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 5175 - 2016 / 5 / 27 - 23:46
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مقدمة :
1 ـ أثار مقالى ( إستراحة مع الفن .. ) إستغرابا ، إذ كيف يكتب شيخ أزهرى أصولى عن الفن والغناء ، ليس فقط عن أنه حلال ومُباح ، ولكنه يعلن حبه للغناء وولعه به وتذوقه له كخبير و ( سمّيع ) . عبّر عن هذا بإيجاز الاستاذ سعيد على فقال (تخيلوا لو صرح كبار هيئة العلماء في السعودية و شيخ الأزهر و مفتيو الدول الإسلامية بمثل هذا !!). الشائع أن شيوخ الجهل فى عصرنا البائس لا يكتفون بتحريم الغناء ، بل إن أجازه بعضهم فهم يترفعون عن سماع الأغانى ، ويعتبرون سماعها لا يليق بمكانتهم الدينية والاجتماعية ، وحجتهم أن الغناء ( يُلهى عن ذكر الله .!!) كما لو كانوا يذكرون الله جل وعلا قياما وقعودا وهلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات ، والأرض .!! , قد عهدناهم يتفكرون فى الدنيا ويتكالبون عليها ويتنافسون فى نفاق المستبد ، ويقدسونه آناء الليل وأطراف النهار . ولو أمرهم المستبد بالرقص الشرقى فى ميدان التحرير لتفوقوا على ( نجوى فؤاد ) ، ولتنافسوا فى صياغة الفتاوى التى توجب الرقص على العباد .!
2 ـ ذكّرنى هذا ببرنامج إذاعى فى الستينيات ـ حين كانت الاذاعة شديدة الانتشار والتأثير ـ كان إسم البرنامج ( زيارة لمكتبة فلان ) تذهب مقدمة البرنامج الى بيت أحد المثقفين والمفكرين والأدباء ، وتدخل المكتبة التى فى بيته ، وتتصفح معه أهم الكتب التى قرأها ، ويتخلل النقاش الثقافى أغنيات يختارها الضيف . وفى اللقاء تظهر ثقافة الضيف ومدى إطلاعه ويستفيد المستمع للبرنامج من عُصارة فكر الضيف ومن رحيق مكتبته . وكنت شغوفا بالاستماع الى هذا البرنامج فى صباى ، ولا زلت أتذكر حلقة منه كان الضيف فيها هو ( مفتى ) مصر وقتها . على عكس عصرنا البائس الذى سيطرت فيه (المواشى البشرية ) على قيادة الأزهر والأوقاف و الإفتاء كانت القيادات الأزهرية فى عصر عبد الناصر تقرأ وتكتب و ( تفكُّ الخط ) .!. المفتى ضيف البرنامح كان أُعجوبة ، فلديه فى بيته مكتبة أصولية ضخمة تضم مجلدات من أمهات الكتب، وكان يستعرضها أمام مقدمة البرنامج فخورا بجمعها . ولكن المؤسف أن معظم مجلدات الكتب فى مكتبته كانت عذراء لم يدخل بها المفتى ولم يفتض غلافها ولم يقرأ ما فيها . قليل منها ما قرأه . ولكنه كان لبقا ، ومن لباقته أن رفض بإصرار الاجابة عن السؤال التقليدى فى البرنامج وهو أحبّ الأغانى التى يسمعها . وكان واضحا من رفضه أنه ( يترفع ) عن سماع الأغانى ، وأنه لا يليق به أن يسمعها . وأحسب وقتها أنه كان يرتدى الزى الأزهرى السائد إرتداؤه وقتها ( العمّة والكاكولا ) . لم تكن اللحى والذقون منتشرة وقتها ، ولكن كان الزى الأزهرى ( العمة والكاكولا ) سائدا بين الأزهريين رمزا للتقوى من حيث المظهر ، لذا كان معاديا للغناء والفن .
3 ـ وأروى تجربتى فى صباى مع ( العمة والكاكولا ) .
أولا : ( شد العمّة شد .. تحت العمّة قرد )
1 ـ ربما كنت اصغر من دخل التعليم الأزهرى الاعدادى . عام 1959 حاول أبى إدخالى الأزهر فلم يفلح لأن سنى كان عشر سنوات . أدخلنى والدى الأزهر عام 1960 طالبا بالابتدائى ـ قبل أن يحل التطوير بالأزهر ويصبح الابتدائى فيه (إعداديا ). وارتديت (العمة والكاكولا ) وأنا طفل ضئيل الحجم فى الحادية عشر من العمر . وتمتعت بلقب ( شيخ أحمد ) وقتها . كان والدى أزهريا مأذون القرية ومعلما للأطفال فى مكتب لتحفيظ القرآن فى قرية أبو حريز بمحافظة الشرقية . ونظرا لفقره ـ يرحمه الله جل وعلا ــ فقد أعطانى طربوشه الخاص وإكتفى بتفصيل كاكولة لى ، أذكر حتى الآن لونها الأخضر الفاتح . كان منظرى مضحكا ، ليس فقط فى التناقض بين حجمى الضئيل والزى الأزهرى المهيب الذى أرتديه ، ولكن أيضا لأن طربوش ( أبى ) كان كبير الحجم على رأسى . وقتها كان زملائى فى نفس الفصل يقتربون من سنّ العشرين ، ويلائمهم الزى الأزهرى ، عكس الحال معى .
2 ــ فى الستينيات كان المجتمع المصرى يدين بالتصوف السنى ، حيث ( البساط أحمدى ) والمجون دين مُباح فى الموالد وبين ايدى الأولياء الصوفية ، والعلمانية مرعية الجانب ، وشعارات القومية العربية تطارد الوهابية السعودية خارج مصر، وحفلات ام كلثوم الشهرية مناسبة ممتعة للعرب جميعا ويحضرها عبد الناصر واركان حكمه . وقتها كان التعليم الأزهرى محدودا ، وكان من يرتدى الزى الأزهرى تُطارده السخرية المصرية فى الشوارع ، يقال له ( شد العمة شد .. تحت العمة قرد ) ( شيل العمة شيل ... تحت العمة فيل ) ( شيل العمة شيل ... تحت العمة قتيل ). تخيل هذه السخرية تلاحق الأزهريين الشباب مفتولى العضلات من طلبة الأزهر فكيف بصبى ضئيل الحجم مثلى ؟ وكان الطلبة الأزهريون عادة يتمسكون بالوقار الذى يفرضه إرتداء الزى الأزهرى فيمضون فى طريقهم لا يلتفتون الى الساخرين بهم . ثم بعضهم بعد هذا الوقار المصطنع يمارس ـ سرا ـ سائر الفواحش . ويتربى على هذه الإزدواجية ، الوقار والهيبة وإصطناع التقوى وهو فى الزى الأزهرى ، ثم إذا خلعه سعى فى الأرض يفسد فيها تلميذا مخلصا للشيطان .
3 ـ كنت طالبا فى المعهد الأزهرى الاعدادى بمدينة ابو كبير محافظة الشرقية ( 1860 : 1963 ) ، وكنا نخرج منه بعد الدراسة أفواجا نسير فى الشارع بالزى الأزهرى ، وتلاحقنا نفس العبارات. وكان هناك رجل مُصاب بعُقدة من الأزهريين . قام بتأجير غرفة من بيته لطالب فى معهد أبو كبير ، وعامل هذا الطالب كإبن له ، ولكن هذا الطالب وقع فى غرامة إبنة صاحب البيت ، وحدث المحظور ، فجر بها ثم هرب بها تاركا لوالدها العار يعيش به . لذا وجد شفاءه فى الانتقام من طلبة المعهد الأزهرى ببلده ، يطاردهم ويسلط عليهم الأطفال ينشدون النشيد الرسمى ( شد العمة شد ..تحت العمة قرد ) ( شيل العمة شيل ..تحت العمة فيل ) ( شيل العمة شيل ... تحت العمة قتيل ) ، وكان طلبة الأزهر يمضون فى طريقهم لا يعبأون بهذه السخرية ولا يأبهون بهذا الرجل ،حتى حدثت الموقعة .!
4 ـ كنت أسير كالعادة بين الزملاء بمنظرى المضحك صبيا يرتدى الزى الأزهرى الموقر ، وكنت أكثر منهم تمسكا بالرزانة والمهابة ، لصغرى فى السن ولأننى أحمل فوق رأسى طربوش وعمامة أبى ، وكان أبى هو ( مثلى الأعلى ) ، فلا بد أن أحترم طربوشه الذى تحمله رأسى ، ولا بد أن أن أحترم الزى فى سيرى فى الشارع . هذه المهابة المصطنعة من صبى صغير زأدت فى كوميدية الموقف ، وتلقفها هذا الرجل الموتور ، وفى يوم من الأيام وأثناء عودتنا من اليوم الدراسى تربص بنا هذا الرجل وسلّط ولدا من أعوانه فتسلل وسار خلفى ومعه عصا طويلة رفع بها الطربوش الذى أرتديه وأطاح به فى الهواء ، وتعالت هتافات السخرية ، وإشتعل الموقف ، إذ تنادى الشباب الأزهرى الى نداء الجهاد ، فخلعوا الزى الأزهرى ووضعوه فى حراسة واحد منهم ، ثم تجمعوا حول الرجل الموتور واذاقوه علقة ساخنة ، أحسب أنه حمل معه ذكرياتها الأليمة الى قبره .
5 ـ مات والدى الشيخ منصور محمد على ) يرحمه الله جل وعلا عام 1963 ، وأنا فى الرابعة عشر من عمرى ، فكفلنى عمى الشقيق الحاج ( أحمد محمد على ) وانتقلت الى المعهد الأزهرى فى الزقازيق اسكن مع ابن عمى الشقيق ( عبد الحميد أحمد محمد على ) ، وكنت مثله لا أزال أرتدى الزى الأزهرى ، وأعانى من سخرية الساخرين ، وأتحملها متمسكا بالوقار ، ولكن مظهرى قد أصبح أكثر إضحاكا ، صحيح ان قامتى طالت قليلا ، ولكن مع بقاء نفس الكاكولا كما هى ، وقد أصبحت قصيرة تستوجب السخرية ، والجلباب الريفى الذى أرتديه تحتها أصبح ظاهرا مكشوفا يرحب بمن يريد السخرية والضحك . أذكر أننى كنت أسير وحيدا فى الشارع بالزى الأزهرى وقورا محترما فلاحقتنى فتاتان مشاكستان ، ظللن يسخرن منى ، وكلما اسرعت بالسير لآتخلص منهما لحقتا بى تقولان : ( نظرة يا مولانا .. يا طعامته .. يا ننوس أمُه .. ) وعبارات من هذا القبيل . كنت أتماسك وأنا فى منتهى الغيظ ، ودخلت الحجرة التى كنت أسكن فيها ، وألقيت بطربوش ابى ، وخلعت الكاكولا التى تشبه ( الجونلة القصيرة ) وخرجت مسرعا بالجلابية ــ الزى الشائع وقتها ـ ابحث عن الفتاتين ، فوجدتهما فى الشارع تتضاحكان ، فلاحقهما بمعاكسات سمجة ، إنتقاما ، وعدت مبتهجا .
6 ـ بعدها كان السماح بارتداء البنطلون والقميص لطلبة الأزهر ، فاسترحت . ولكن ظل الزى الازهرى يرتديه البعض من الطلبة وحافظ على إرتدائه شيوخ النفاق ، خصوصا من يريد الوصول للمناصب . والأهم أنه ظل التأثير للزى الأزهرى سائدا بين الأزهريين حتى بعد أن خلعوه ، أقصد الإزدواجية المنافقة ، التظاهر بالتقوى والترفع عن المباحات كالاستماع للغناء لأن هذا لا يليق ، ثم يسعى أحدهم فى الأرض فسادا.
ثانيا :
1 ــ ثم ساد هذا وانتشر بعد وفاة العهد الناصر وسيادة الدين الوهابى ، فانتشر التدين السطحى والاحتراف الدينى وامتد ليعم الجامعات والنقابات والأحزاب والعوام والرعاع والصفوة والمثقفين والجاهلين . الأحاديث التى كنتّ أسخر منها فى الثانوى أصبحت مقدسة على مستوى الشارع ، الكتب التراثية الصفراء المقررة علينا فى الأزهر اصبحت أكثر بياضا وأكثر إنتشارا . الفتاوى المضحكة عن الاستنجاء والطهارة ودخول الحمام والجماع والتى كنا نستحى منها أصبحت دينا منتشرا على الألسنة فى المساجد والمحافل ، تُقال بمنتهى الخطورة والجدية ، والويل لك إذا نقدتها وسخرت منها ، فقانون إزدراء الدين يتربص بك وفى إنتظارك.!. تبارى الجميع فى النفاق الدينى والاجتماعى ، وسادت اللحية والجلباب والحجاب والنقاب ، واصبح كل فاسق يُقال له : ياحاج ، وتنافس الجميع على الحج وزيارة القبر المزعوم للنبى على أمل التمسح بشباكه حتى يفوز بشفاعته المزعومة وحتى يرجع من الحج ـ بزعمهم ــ (عاريا ) كيوم ولدته الست ماما .. وإمتلأت المساجد بروادها ، وتكاثرت المساجد الوهابية ، جنبا الى جنب مع سوء الأخلاق وفساد المجتمع ، وأن يصرخ بعض الأراذل : ( الله أكبر ) فى مظاهرة للرعاع تقوم بتعرية سيدة مسيحية فى الشارع .!
2 ـ وقد قلتها من ثلاثين عاما : ( الشيطان يتخفى خلف كثير من العمائم .. واللحى .) .
3 ـ لماذا تخلصت مبكرا من هذا ( العُهر ) الأزهرى السلفى ؟ كيف حافظت على تفوقى فى علوم التراث جنبا الى جنب مع محافظتى على الدين الحق ومحافظتى على إنسانيتى وحبى للفنون وشغفى بسماع الأغانى ؟
4 ــ موعدنا فى الحلقة القادمة بعون رب العزة جل وعلا ..