محاكمة الحضارات


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5174 - 2016 / 5 / 26 - 14:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كلمة عن الحضارة
"صراع الحضارات" كان عنوان الورقة العلمية التي نشرتها مجلة "الشئون الخارجية" في عددها الصادر صيف 1993. اما كاتب الورقة فهو صامويل هانتنجتون (1927-2008) أستاذ العلوم السياسية بجامعتي هارفارد وكولومبيا الامريكيتين. ولم تكن هذه الورقة بالورقة العادية فقد اثار ما جاء بها من مقولات جدلا لم يقتصر المشاركون فيه على الأكاديميين بل امتد ليشمل اهل السياسة وصناع القرارات. فقد تنبأ هانتنجتون، انطلاقا من تحليله العميق لمعطيات الواقع بعد انتهاء الحرب الباردة، بأن الصراع القادم لن يقوم على اختلاف الايدولوجيات بل سيقوم على اختلاف الثقافات والأديان. وفي مقابل تيار "صراع الحضارات" الذي يتبنى رأى هانتنجتون ظهر تيار "حوار الحضارات" الذي يدعو الى التقارب ويهون من شأن الاختلافات. وقد غاب عن كلا الفريقين موضوع لا تقل أهميته عن موضوع العلاقة بين الحضارات، صراع او حوار، وهو موضوع "تقييم الحضارات". او بعبارة اخري التعرف على "قدر ما أسهمت به حضارة بعينها في الارتقاء بأحوال الإنسان". فبدون هذا التقييم قد يقع البعض في فخ الاعتقاد بأن ان حضارته هي خير حضارة أخرجت للناس. ويصاب الواقعون في هذا الفخ بمرض "المناعة المفرطة" الذي يحد من قدرته على استيعاب متغيرات الواقع ومن ثم مع التكيف معها.

ولعل رؤية هانتنجتون لمفهوم الحضارة هي أحد الإضافات الهامة التي جاءت في هذه الورقة المثيرة للجدل. ونقطة البداية لرؤية هانتنجتون هي مفهوم "تعدد الانتماءات" الذي هو أحد السمات التي تميز الانسان عن بقية الكائنات. فهو في البداية ينتمي لعائلته (او قبيلته)، وهو أيضا ينتمي للمدينة التي يقيم فيها وللوطن الذي يعيش فيه، وهو أخيرا ينتمي لحضارة بعينها. انه اذن الانتماء متعدد المستويات والذي يزداد عدد من يتبنوه كلما انتقلنا من المستوى الأدنى للمستوى الأعلى. فعدد من ينتمي لعائلة اقل من عدد من يستشعرون الانتماء للوطن وهذا الأخير هو اقل من عدد من ينتمون لحضارة بعينها. لذا لم يكن غريبا ان يعرف هانتنجتون الحضارة بوصفها "أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعرض مستوى من الهوية الثقافية التي تميزهم عن الآخرين. ويمكن تعريفها بمجموعة من العناصر الموضوعية المشتركة مثل اللغة، التاريخ، الدين، العادات، والمؤسسات، هذا بالإضافة الى العناصر الذاتية المتعلقة بكيف يرى الافراد أنفسهم" (Huntington, 1993) . او بعبارة أخرى ينظر هانتنجتون للحضارة بوصفها كيان ثقافي يعمل على تجميع البشر متجاوزا الحدود السياسية.

وانطلاقا من هذا التعريف ميز هانتنجتون بين ثمانية حضارات معاصرة هي الحضارات الغربية، الصينية، الإسلامية، الهندية، الأرثوذكسية، الامريكية اللاتينية، الافريقية والبوذية. والبعض من هذه الحضارات له جذور تاريخية والبعض الآخر حديث النشأة او قيد التكوين. فالحضارة الصينية، على سبيل المثال، يعود تاريخها إلى 1500 سنة قبل الميلاد على الأقل، وهي تتعدى حدود الصين ككيان سياسي، لتشمل الكوريتين وتايوان وفيتنام. وتشبه الحضارة الهندية الحضارة الصينية في قدمها اذ يعود تاريخ نشأتها في شبه القارة الهندية الى 1500 سنة قبل الميلاد وتشمل بالإضافة الى الهند نيبال. اما الحضارة الإسلامية فقد كانت بدايتها في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي وامتدت لتشمل الشرق الأوسط الكبير وكذا وسط آسيا وشبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا. ويشكل التراث الفلسفي الاغريقي والروماني واحدا من اهم الروافد التي أسهمت في تشكيل الحضارة الغربية. وبالمثل تعتبر الرؤية الأرثودوكسية للمسيحية أحد أهم مكونات الحضارة الأرثودوكسية. وإذا كانت الحضارات السابقة تتميز بعمقها التاريخي فإن الحضارات الامريكية اللاتينية والإفريقية تعتبر من الحضارات الحديثة التي مازالت في مرحلة التبلور.

عطاء الحضارات
والآن، وبعض ان عرضنا للحضارات الرئيسية المعاصرة، يحين وقت محاولة الإجابة على السؤال الرئيسي وهو "ما هو قدر ما أسهمت به حضارة بعينها في الارتقاء بأحوال الإنسان" وهو سؤال ليس من السهل الإجابة عليه لتعدد الاسهامات وتنوع اشكالها. إلا أن الدور غير المسبوق الذي تلعبه المعرفة العلمية في كافة المجالات، والذي أدى لانتقال المجتمعات المتقدمة من مرحلة مجتمع الصناعة الى مرحلة مجتمعات المعرفة، يجعلنا إعادة صياغة السؤال السابق ليكون "ما هو قدر ما انتجته الدول المنتمية لحضارة ما من معرفة، وما هو قدر تأثير هذه المعرفة على أحوال باقي الأمم؟" وعلى سبيل تبسيط الأمور يمكن اعتبار عدد الاوراق العلمية المنشورة في المجلات العلمية المحكمة كمؤشر للإنتاج المعرفي للدول المنتمية للحضارة. وبهذا تكون تمت الإجابة على الجزء الأول من السؤال. اما إجابة شقه الثاني المتعلق بقياس تأثير المعرفة فسنجده في ادبيات كيفية كتابة ورقة بحثية. وتخبرنا هذه الادبيات انه من الضروري ذكر مصدر المعلومات التي نستخدمها ونستشهد بها، او بعبارة اخري "الإستشهادات المرجعية" Citations. ويعتبر عدد الإستشهادات المرجعية مؤشرا لمدى تأثير المعرفة الموثقة في الأوراق العلمية على الآخرين.

وقد استخدم دافيد كنج، عالم الكيمياء وكبير مستشاري الحكومة البريطانية للشئون العلمية، هذان المؤشران لدراسة الإنتاج المعرفي للدول وللتعرف على تأثير هذه المعرفة على الدول الأخرى (King, 2004). وقد اسفرت هذه الدراسة، التي نشرت في واحدة من اهم الدوريات العلمية، عن مجموعة من النتائج الهامة. وأول هذه النتائج هي ان 98 % من الأوراق العلمية التي تم الاستشهاد بها في الفترة من 1978 الى 2001 كانت من انتاج 31 دولة بينما لم تتعدي نسبة اسهام بقية الدول (162) ال 2%. وتنتمي 21 دولة من هذه الدول ل "الحضارة الغربية" (استراليا، النمسا، بلجيكا، كندا، الدانمارك، فنلندا، المانيا، فرنسا، اليونان، إيرلاندا، إيطاليا، لوكسمبورج، هولندا، بولندا، البرتغال، اسبانيا، السويد، المملكة المتحدة، سويسرا، الولايات المتحدة، إسرائيل). وتضم مجموعة "الحضارة الصينية" ثلاث دول هي كوريا الجنوبية، تايوان، الصين. وتتوزع بقية الدول على الحضارات الست الباقية فتشمل "الحضارة الأرثودوكسية" روسيا، و"الحضارة الهندية" الهند، و"الحضارة البوذية" سنغافورة، و"حضارة أمريكا اللاتينية" البرازيل، و"الحضارة الإسلامية" إيران، و"الحضارة الأفريقية" جنوب افريقيا. وأخيرا تأتي اليابان كدولة متفردة يصعب الحاقها بأي مجموعة حضارية. اما ثاني هذه النتائج فهو نسبة اسهام الدول المنتمية للحضارة الغربية في انتاج المعرفة والتي بلغت حوالي 87% من اجمالي المعرفة المنتجة في نفس الفترة. كما تبين نسبة الاستشهادات المرتفعة، التي تبلغ حوالي91 %، التأثير القوي لهذه الحضارة.

واتوقف هنا لأترك لقارئنا العزيز مهمة استخلاص دلالات الأرقام!
المراجع
Huntington, S. P. 1993. The Clash of Civilizations? Foreign Affairs, 72(3): 22-49.
King, D. A. 2004. The Scientific Impact of Nations. Nature, 430(July): 311-316.