عرض مختصر لكتاب هام

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 5161 - 2016 / 5 / 13 - 00:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

وترجمة عنوان الكتاب بشيء من التصرف هي "صعود وهبوط النمو الاقتصادي الأمريكي " تأليف بروفيسور روبرت جوردون أستاذ الاقتصاد الأمريكي. وترجع أهمية الكتاب لكونه يعرض بشكل تاريخي موثق مراحل الصعود والهبوط في أهم وأكبر اقتصاد في العالم منذ انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية والتي انتهت بالإبقاء على الاتحاد الفيدرالي الأمريكي عام 1865 بعد حوالي أربع سنوات من الحروب الطاحنة ضد الولايات التي كانت تسعى للانفصال.
إن بقاء الولايات الأمريكية متحدة أدى إلى تغيرات ضخمة وسريعة داخل القارة الأمريكية والعالم كله من خلال الاختراعات التي تم ابتكارها داخل امريكا ثم انتقلت الى العالم كله ومن أهمها الكهرباء وصناعة السيارات والتليفونات والنقل البري بواسطة السكك الحديدية.
كل هذه الاختراعات المذهلة تمت خلال فترة قصيرة نسبيا بعد انتهاء الحرب الأهلية مباشرة وبالتحديد في الفترة من عام 1870 وحتى عام 1900، أي في الثلاثين عاما الأخيرة من القرن التاسع عشر؛ ثم قامت امريكا بعد ذلك باختراع الطائرات والنقل الجوي.
ومما ورد في الكتاب الذي يقع في حوالي 750 صفحة وقامت جامعة برينستون العريقة بطباعته أن شركات السكك الحديدية الأمريكية كانت تضيف 20 ميلا من الخطوط الحديدية في اليوم الواحد وهو شيء اعجازي بالنسبة لمستوى التقنيات التي كانت سائدة وقتها.
وقد شهدت فترة الثلاثين عاما هذه معدلات نمو اقتصادي مرتفعة للغاية داخل الولايات المتحدة كما ساهمت الكهرباء وسرعة وسهولة الانتقال والاتصال في استغلال الموارد الطبيعية والبشرية بشكل أفضل. وتمثل هذه الفترة بداية ميلاد الرأسمالية الصناعية في الغرب.
كما شهدت الفترة التالية والتي امتدت من بداية القرن العشرين وحتى عام 1930 انخفاض أسعار السيارات في أمريكا بنسبة وصلت الى أكثر من 60 % مما ساعد على انتشارها، كما زادت نسبة استخدام التليفونات في أمريكا بما يزيد عن أربعة أضعاف مثيلتها في انجلترا وستة أضعاف مثيلتها في ألمانيا وعشرين ضعف مثيلتها في فرنسا.
وعندما ضرب الكساد الكبير امريكا والعالم في أوائل الثلاثينات فإنه لم يؤثر بشكل كبير في مسيرة تقدم الاقتصاد الأمريكي وريادته للعالم واستمر القطاع الخاص هناك في تقديم المزيد من التقنيات الحديثة وتسجيل العديد من براءات الاختراعات.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية ظهرت مدى قوة الآلة الصناعية الأمريكية في هزيمة ألمانيا واليابان وايطاليا. وهو ما مكنها من إعادة تشكيل النظام الأول العالمي بما يتفق مع مصالحها.
وكان من أهم ملامح هذا النظام والنفوذ الأمريكي خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا بما فيها ألمانيا نفسها وإنشاء العديد من المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقيات بربتون وودز التي تم التوقيع عليها بين الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية واليابان واستراليا لتنظيم أسعار صرف عملات هذه الدول ببعضها البعض من خلال ربطها بسعر ثابت للذهب " نظام قاعدة الذهب بمراحله الثلاث “ ومن يومها والدولار هو العملة الأولى في العالم. كما شهد الاقتصاد الأمريكي معدلات نمو عالية في فترة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم.
وباختصار شديد فإن البروفيسور جوردون يرى ان فترة النمو الذهبي للاقتصاد الأمريكي تمت خلال فترة المائة عام الممتدة من عام 1870 وحتى 1970 واعتمدت على خمسة اختراعات صناعية أساسية وهي الكهرباء، الاتصالات والمواصلات، محركات الاحتراق الداخلي، توفير المياه والصرف الصحي للقطاع المنزلي وصناعات الأدوية والكيماويات.
ولكنه يرى أنه ابتداءا من عام 1970 بدأ النمو الأمريكي في الانحصار لعدة أسباب منها:
-;---;-- تعرض الشركات الأمريكية لمنافسة شديدة من الشركات اليابانية وشركات دول جنوب شرق آسيا ثم الشركات الصينية،
-;---;-- زيادة اسعار النفط خاصة بعد حرب 1973 في الشرق الأوسط،
-;---;-- زيادة فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء في أمريكا وتأثيرها الضار على إنتاجية الفرد،
-;---;-- ارتفاع نسبة كبار السن مقارنة بمجموع عدد السكان في أمريكا وما واكب هذا من ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية وضغطها على الموازنة الأمريكية،
-;---;-- ارتفاع تكلفة التعليم العالي وانخفاض نسبة المنح الدراسية التي تقدمها الجامعات الامريكية للطلاب.

ومما يدلل على دقة ما ذكره بروفيسور جوردون توا " وهذا الكلام من عندي " فإن الصين بدأت نهضتها الحقيقة في اوائل السبعينات بعد ثورتها الثقافية فهل تصادف هذا مع بداية أفول النجم الأمريكي؟

وعلى سبيل المثال فإن معدلات النمو الأمريكي قبل السبعينات لم تقل ابدا عن 3% سنويا ماعدا سنوات الكساد الكبير ولكنها الآن وطوال العشر سنوات الماضية لم تصل أبداً لهذا المعدل حيث بلغت نسبة النمو في المتوسط حوالي 1.7% سنوياً، بينما لم تقل نسبة النمو في الصين عن 7% طوال العقود الأخيرة وتجاوزت 11% في سنوات عديدة.
كما أن نصيب الولايات المتحدة الأمريكية من إجمالي الناتج العالمي انخفض من حوالي 22% في عام 1970 إلى حوالي 16.5% في عام 2015، بينما زادت نسبة مساهمة الصين في الناتج العالمي من 4% في عام 1970 إلى حوالي 15.5% في عام 2015.

وهذا يعني ان هيمنة الصين على العالم تتزايد بوتيرة منتظمة، كما ان كل محاولات امريكا لتحفيز اقتصادها على النمو بمعدلات الماضي لم تفلح كثيرا وكل ما حققته سياسات التيسير النقدي Quantitative easing “ " الأخيرة هو زيادة معدلات النمو بشكل طفيف ليس إلا.

وهذا الكلام لا يعني بأي حال أن أمريكا سوف تنهار قريباً كما يدعي البعض فهذا الكلام بعيد عن المنطق والحقائق الاقتصادية لأن امريكا ستظل لفترة طويلة قادمة أغنى دولة في العالم نتيجة قلة عدد سكانها مقارنة بالصين، كما أنها ستظل الأقوى عسكرياً وتكنولوجيا.

وعودة للكتاب حيث يرى البروفيسور جوردون انه يكاد أن يكون مستحيلا أن تعود امريكا إلى عصرها الذهبي في النمو الاقتصادي الذي شهدته في الفترات التي اوضحناها سابقا لكل العوامل التي ذكرناها، وهو لا يرى أن عصر ثورة المعلومات والإنترنت الذي بدأ في أمريكا أيضاً لن يحقق ما أنجزته الاختراعات السابقة مثلما أحدثته الكهرباء والنقل والاتصالات من نقلة هائلة في تاريخ امريكا والعالم.

وهو محق في هذا لأن الآثار الاقتصادية لاختراع السيارة الأولى سوف تكون دائما أكبر بكثير من صناعة سيارة تقود نفسها مثلا وهو ما تحاول شركة جوجل القيام به الآن.
ولكن البروفيسور جوردون غير محق في تقليله الشديد من شأن ثورة المعلومات والتقنيات الهائلة التي تتم في الجامعات الأمريكية الآن خاصة في مجالات وتطبيقات النانو تكنولوجي والهندسة الوراثية والطب وصناعات الأدوية والإنسان الآلي والعالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف المحمولة التي غيرت ولازالت تغير حياة الشعوب وعلاقات الإنتاج بشكل مؤثر وإيجابي أكثر منه سلبي.

والخلاصة التي أود ان اوصلها إلى القراء أن ما حققته امريكا من تقدم ونجاح يرجع الى مناخ الحرية والديمقراطية واحترام أدمية الإنسان وحقوق المهاجرين والأقليات والإيمان بمبدأ العيش المشترك وهم في هذا معاكسين لتوجهاتنا في عالمنا العربي على طول الخط.

وفي الوقت الذي يتجه فيه العالم شرقاً وغربا إلى الأمام بشتى الطرق والتقنيات الحديثة في ظل ظروف تنافسية صعبة فإن عالمنا العربي بعيد عن كل هذا ولازال محصوراً في مستنقع الاستبداد والفساد وهو يتقهقر الآن إلى عصر الحروب الدينية وزمن داعش والغبراء.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري