تراجيديا النكبة / الهولوكوست .. دمٌ ودموع !


عبدالله أبو شرخ
الحوار المتمدن - العدد: 5155 - 2016 / 5 / 7 - 18:13
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية     

تراجيديا النكبة / الهولوكوست .. دمٌ ودموع !

سمعت أبي يناديها هيلدا. تلك المرأة الطيبة التي كانت تعمل وتكدح في مصنع لدباغة الجلود في مدينة " ملبس / بيت هاتكفاه ". كنت متعوداً على العمل في الإجازات الصيفية حتى أثناء طفولتي حيث كان العمل في الدولة العبرية هو مصدر حياة الغزيين شبه الوحيد. ولأن الإجازة في الصيف فقد كنت أشاهد ذراع هيلدا مختوماً بالنار، محفوراً في الجلد 483، حيث كان النازيون يتبعون هذه الطريقة لتعذيب اليهود. هذه المرأة كانت من بولونيا، وكان المصنع بأسره من يهود شرق أوروبا ومملوكاً لأحد اليهود الروس الذين كان معظمهم من المعتقلين الذين تم تحريرهم عقب هزيمة ألمانيا. معظمهم كانت لديه حالات نفسية وعصبية جراء المكوث لسنوات في معتقل أوشفيتز، فمثلا كان صاحب المصنع يمشي معجوقاً بين الماكينات يحرك يديه بعصبية ويتحدث إلى نفسه.

كانت مائدة الدهان التي يعمل عليه أبي ملاصقة لمائدة هيلدا، وكانا يتقاضان نفس الأجر دون تمييز، وكان أبي يحصل على كافة حقوق العمال اليهود في المصنع من ادخار وإجازات مرضية وحوافز والأعياد المدفوعة الأجر.

كانت هيلدا تروي لأبي طوال اليوم قصص وحكايات عن أيامها في بولونيا وعن آلامها في المعتقل النازي، وبالمقابل كان أبي الذي يتقن العبرية، يبادلها حكاياته الخاصة عن طفولته في المجدل قبل نكبة قيام إسرائيل.

في العام 1978 ولد أخي الأصغر غسان واسمه كان نسبة إلى الكاتب الشهيد غسان كنفاني الذي نشأت في بيت المخيم وأنا أشاهد أبي يقتني رواية عائد إلى حيفا. بمناسبة مرور أسبوع على مولد غسان، قامت هيلدا بشراء هدية متواضعة لصديقها الفلسطيني اللاجيء، وكانت عبارة عن زجاجات شامبو أطفال وبودرة بالإضافة إلى بعض ملابس المواليد الجدد الزاهية.
------------------------------------
مرت السنون، وكبر غسان، وأصبح من أطفال الحجارة أثناء الانتفاضة الأولى، ثم دخل الجامعة ودرس تنمية اجتماعية، ولكنه لم يوفق في العثور على وظيفة. دخلت الانتفاضة الثانية، وفي أحد أيامها، وانتقاماً لاستشهاد رفيق دربه، امتشق سلاحه وتوجه إلى موقع عسكري احتلالي واستشهد هو الآخر بنيران دبابة !
-----------------------------------
بين هيلدا والقتلة !

المهاجرون الذين كانوا جزءا من الهولوكوست، كانوا يعطفون على اللاجئين الفلسطينيين، وكانوا يصادقونهم بمودة وإخلاص واحترام كبير متبادل. ربما لأن كلاهما نجى بأعجوبة من موت محقق. اليهود على يد الألمان، ونحن على أيدي الأجيال الجديدة من اليهود الصهاينة بالطبع، فهناك يهود كثر حول العالم يتعاطفون مع الشعب الفلسطيني وقضيته، مثل تجمع " يهود من أجل حق الفلسطينيين بالعودة " !
أبي وهيلدا، كلاهما كان يروي مأساته الفظيعة في تراجيديا النكبة / الهولوكوست، وكلاهما نجح في بناء الصداقة الحقيقية والمودة، وكان من الممكن أن تصبح فلسطين / إسرائيل، دولة موحدة لشعبين صديقين، لكن هذا قبل ظهور " الحريديم " اليهود، و" السلفيين " الفلسطينيين !

ما قبل حماس وفتح والفصائل والسلطة، كانت الحياة أفضل، كانت أخلاق الناس أفضل، ما قبل مشروع الثراء الوطني كان كل شيء أفضل، ما قبل الانتفاضات والحروب كانت الدولة الموحدة قائمة على أرض الواقع، وبالطبع كانت الحياة أفضل ما قبل الحريديم، وكانت أجمل من قبل الاستيطان !

أخيراً، لا تظن عزيزي القاريء أن الحياة الآن في غزة والضفة بائسة للجميع، لا أبداً، هي بائسة على معظم الناس .. على الأغلبية الساحقة. على 170 ألف خريج .. الحياة سوداء ل 200 ألف عامل لا يجدون ثمن ربطة الخبز .. الحياة قبيحة لآلاف من مرضى السرطان الذي يضطرون لاستصدار تصاريح لهم لكي يحصلوا على جرعة الأمل في القدس ونابلس.
لكن الحياة ما زالت رائعة وجميلة لبعض الأفراد وبعض الفئات .. يسكنون الفيلات ويركبون السيارات آخر موديل ولا يأكلون سوى الخرفان بالزغاليل وسمك الهامور والدنيس ولا يعلمون أولادهم إلا في لندن ولوس أنجلوس وميامي ! وقبل أن أنسى، لا تقطع عن فيلاتهم الكهرباء !
اليهود الحريديم كذلك مرفهون أكثر من عامة اليهود، فهم يحصلون على رواتب ومنح دون عمل، ولا يخدمون في الجيش، وهم بذرة الاستيطان، ولا يفعلون شيئاً سوى قراءة أسفار التوراة والصلاة في مواعيدها ! منهم فئات يحرمون التلفاز والراديو والغناء والموسيقى والرسم وحتى يحرمون تعلم لغات أخرى غير العبرية، يسألونهم، وكيف سنقرأ لكم أسماء الأدوية عندما تمرضون ؟؟!

------------------------------------

بين غسان المولود حديثاً وحصول هيلدا على صورة له بالتبان الأخضر، وغسان المستشهد برشاش الدبابة، مسافة 25 عاماً، قضيناها في الدم والدموع ! في الحقيقة هي 25 عاماً من الجنون والفظاعة !