ومن التفكير ما قتل


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5153 - 2016 / 5 / 5 - 00:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

احاديث الخبراء ومحاوريهم من الاعلاميين في البرامج الحوارية، بوستات الفيسبوك والتعليقات المصاحبة لها، كتابات المهتمين بالشأن العام، بشتى طوائفهم، في الصحافة المطبوعة. ثلاثة مصادر مختلفة يمكن لمن يتابع محتواها ان يرسم الملامح العامة لنمط التفكير السائد في المحروسة. واصارحكم القول ان نتيجة متابعتي لتلك المصادر اصابتني بحالة قلق شديد على مستقبل المحروسة. فالنتيجة توجز في عبارة هي "تسيد التفكير اللاعقلاني". وتقتضي منا الأمانة العلمية تحديد المقصود من عبارة "التفكير اللاعقلاني".

وبداية يعتبر التفكير خاصية فريدة تميز الإنسان عن بقية الكائنات الحية. وهي خاصية تمكنه ليس فقط من تفسير ما يتلقاه من إشارات خارجية عبر حواسه الخمس، بل ايضا من دمج هذه التفسيرات مع ما قد يكون مختزنا في الذاكرة من معرفة وخبرات. ونتيجة هذه العملية هي تصور معين يستخدمه الانسان في تصريف الأمور. لذا لم مستغربا ان يعرف علماء السيكولوجيا الادراكية التفكير بأنه: "هو العملية العقلية المنظمة والهادفة التي يستخدمها الإنسان لفهم ما يشاهده من ظواهر وما يدور حوله من أمور ومن ثم لمساعدته على إتخاذ قررات صائبة".

ويوحي استخدام صفة "العقلية" في وصف عملية "التفكير" بأن العقل هو اللاعب الرئيسي في عملية التفكير وهو امر غير صحيح. فهناك عوامل اخري تؤثر على مسار تلك العملية وعلى نتائجها. ومن اهم هذه العوامل: الإحتياجات العاطفية للإنسان كحاجته للأمن والحب والإنتماء، مايؤمن به قيم ومبادئ، ومصالحه الذاتية. كما تتأثر عملية التفكير بعوامل أخرى مثل نقص المعلومات والجهل بالموضوع، التهرب من مواجهة الأسباب الحقيقية بخداع النفس وإلقاء اللوم على الآخر، الخضوع لرأي ذوى السلطة والمكانة، والتحيز بتضخيم الأدلة التي تؤيدنا وإهمال غيرها.

ويقودنا اخذ هذه العوامل في الاعتبار الى تصنيف ثنائي للتفكير: "التفكير اللاعقلاني" و "التفكير العقلاني". والتفكير العقلاني هو ببساطة ان تقوم احكامنا وقراراتنا وأفعالنا على معطيات يمكن التحقق من صحتها، ولا تلونها مصالح شخصية، ولا تقيدها الآراء المسبقة، ولاتوجهها المشاعر الذاتية. وعبارة "معطيات يمكن التحقق من صحتها" تعني الشيئ الكثير. فهي أولا تعني دينامكية التفكير العقلاني فكل ما يثبت خطأه من معطيات يتم استبعاده واستبداله بما ثبتت صحته. وهي تعني أيضا مرونته بتقبله لكل جديد من معطيات صحيحة. وكل ما يخالف هذا يقع في خانة التفكير اللاعقلاني. ويأخذ التفكير اللاعقلاني صور عديدة يطلق عليها علماء النفس مصطلح "التشوهات الإدراكية" Cognitive Distortions. ومن اكثر هذه الصور شيوعا: "التفكير الثنائى" Black and White Thinking، "الْمُبَالَغَةُ"، "التفكير العاطفى" Emotional Thinking، "التعميم المفرط" Overgeneralizing، "الإحساس بالعظمة" Grandiosity، "النظرة الضيقة" Tunnel Vision، و"التفكير بالتمنى" Wishful Thinking.

وأول صور التفكير اللاعقلانى هو "التفكير الثنائى (أو تفكير الأبيض والأسود)" الذى يتبنى في حكمه على الأمور منطق "إما ... أو" ولقد عرضنا له نفصيلا في مقالة سابقة (*). وثاني تلك الصور هي "الْمُبَالَغَةُ" التي تجعل من المصاب بها لا يحسن تقدير الأمور فهو اما يعظم من شأنها او يقلل منه. فهو في الحالة الاولى "يعمل من الحبة قبة" فينظر إلى الأخطاء الصغيرة بوصفها خطايا لاتغتفر، ويحول الإخفاقات العادية إلى كوارث غير مسبوقة (التفكير الكارثى). وهو في الحالة الثانية يهون من شأنها مستخدما في ذلك أسلوب "التلطيف" أو إطلاق أسماء مُلطِفة على الأشياء السيئة. فنرى المدلسين، على سبيل المثال، وهم يطلقون إسم "النكسة" على واحدة من أقسى الهزائم التى منيت بها الأمة المصرية فى العصر الحديث وهى هزيمة 1967. كما نراهم يطلقون إسم "الفتح" على واحدة من أقسى الغزوات التى عانى من آثارها الشعب المصرى على أيدى غزاة صحراويين إستباحوا ثرواته بشكل غير مسبوق.

وثالث تلك الصور هي "التفكير العاطفى" الذى يبنى أحكامنا على الأشياء والأشخاص انطلاقا مما نشعره تجاههم من عاطفة، حب أو كره؛ اعجاب او استهجان؛ ، لاعلى أساس المعلومات الحقيقية والموثقة. ويؤدي هذا التفكير الى تكوين صورة مشوهه للواقع بما فيه من كائنات وكيانات و لما يقع فيه من احداث. وهي الصورة التي تؤدي، بدورها، الى اتخاذ قرارات خاطئة وتبني سلوكيات غير ملائمة. و"التعميم المفرط" هو الصورة الرابعة من صور التفكير اللاعقلاني، ويعتبر المصاب بهذا التشوه الادراكي ان خبرته في التعامل مع موقف بعينه صالحة للتطبيق في مواقف أخرى دون أية مراعاة لاختلاف الظروف. ولعل قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" من أبرز أمثلة هذه الصورة. هذا ويعد "التصنيف" Labeling احد اشكال "التعميم المفرط" حيث حيث يقوم المصاب بهذا التشوه الادراكي بتصنيف الناس والمواقف انطلاقا من تجربة واحدة، فمقالة لأحد العلمانيين، على سبيل المثال، ينقد فيها بعض المفاهيم الدينية تجعله يصنفهم في خانة الملحدين.

وخامس تلك الصور هو "الإحساس بالعظمة" الكاذبة. ومن يعاني من هذا التشوه الادراكي، فردا كان او كيان، يعتقد انه "الأجدر" و"الأحسن" و"الأذكى" وكل أسماء التفضيل الممكنة، واننا "خير أمة أخرجت للناس" واننا "لَنَا الصّدرُ، دُونَ العالَمينَ"، على الرغم من عدم وجود أي شواهد تدعم هذه الاعتقادات. اما الآخر بالنسبة للمصاب بهذا التشوه، فهو اما حاقد علينا او متآمر يسعى لتدميرنا. وسادس صور التفكير اللاعقلاني هي "النظرة الضيقة" التي تجعل المصاب بها محدود الأفق لا يمكنه الإحاطة بكافة جوانب ما يواجهه من مشاكل. فنراه يهتم بأحد جوانبها مغفلا بقية الجوانب. ان اثر هذه الصورة على عملية التفكير يشبه اثر الغطاء الذي يوضع فوق عيون خيول جر العربات فتحجب عنها رؤية ما حولها باستثناء اتجاه وحيد. وحالتنا الأخيرة في قائمة حالات التفكير اللاعقلاني هي حالة "التفكير بالتمنى". والمصاب بهذه الحالة يعتقد ان كل ما يتمناه أو ما يتمنى حدوثه سوف يحدث بالفعل، أي انه ينظر الى الأمنيات غير المتحققة بوصفها حقائق متجسدة.

كانت هذه نبذة سريعة عن التفكير اللاعقلاني وبعضا من صوره الشائعة. وادعو قارئنا العزيز الى البحث عن امثلة لهذه الصور في المجتمع الذي يعيش فيه. وهي مهمة سهلة لمن يعيش في منطقتنا.


(*) السيد نصر الدين السيد، هذا ما جناه علينا ارسطو، الحوار المتمدن، العدد: 5135، 17 ابريل، 2016
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=513780