مسلسل الدم فى خلافة الرشيد : الرشيد بين الاسراف فى النساء والاسراف فى الدماء


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 5151 - 2016 / 5 / 3 - 08:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مقدمة :
هارون الرشيد أشهر خليفة عباسى فى كتب التاريخ وكتب الأدب وحتى (ألف ليلة وليلة ). وكانت خلافته حوالى 23 عاما ، وعاش حوالى 47 عاما ، ومات بطوس يوم السبت 3 جمادى الآخرة، سنة 193‏.‏ كان واسطة العقد فى تاريخ الدولة العباسية ، وصلت فى عهده الى أوج فخامتها وإنتصاراتها وإزدهارها . كان يعكس ملامح الدين الٍسٌّنّى فى التدين السطحى وإستغلال دينه الأرضى فى تسويغ مطامحه ومطامعه الدينية. وبين تدينه السطحى وتقواه التى يُرائى بها الناس وبين إسرافه فى الدماء وجمع المال وقع فى التناقض ، مع الحدة فى الغضب ، والانقلاب الأهوج من الحب الجارف الى القسوة فى الانتقام . هذا بالاضافة الى ما عُرف عن الخلفاء من عبادة المال والاسراف فى سفك الدماء. يمكن تلخيص هارون الرشيد فى كلمة ( النهم أو الإسراف ) . كان منهوما فى تناول المُتع الجنسية وفى جمع الأموال ومسرفا فى سفك الدماء . ونعطى بعض التفصيلات :
أولا : دينه الأرضى ‏:‏
1 ـ فى مرحلة الدعوة العباسية فى دولة الأمويين ، نشر الدعاة أحاديث تبشر بقرب ظهور المهدى من آل محمد ، وكان من أساطين العباسيين من إختلط بالفقهاء ، مثل (أبى جعفر المنصور )، وهو الذى قام بتجنيد مجموعة من صُنّاع الأحاديث يتزعمهم ( الأعمش ت 148 ) وهو ( سليمان بن مهران ، شيخ أصحاب الحديث فى الكوفة ،وكان كارها لبنى أمية. وهو متهم بالتدليس،ومات فى خلافة المنصور. ). وفى خلافة المنصور انتشرت أحاديث كثيرة تنسب للنبى مدحا فى خلفاء بنى العباس، وبعضها كان من رواية الخلفاء العباسيين . وسمى المنصور ولى عهده بالمهدى لتنطبق عليه أحاديث المهدى . وبوصفه هذا كان المهدى يقتل خصومه بتهمة الزندقة . وجاء إبنه الرشيد يرث مُلكا وطيدا تم تأسيسه على دين أرضى ، فجعل نفسه مالكا لهذا الدين الأرضى ، ومعه قاضى القضاة يُفتى له بما يريد فى هذا الدين ( الملاكى ).
2 ـ ولأنه كان المالك لهذا الدين الأرضى فقد كان لا يقبل من يزاحمه فى هذه الملكية ، ولأن هذا الدين أرضى قد أقيم على أحاديث منسوبة للنبى فلا مجال للعلويين أن يزاحموا الرشيد فى ملكيته لتلك الشخصية التى صنعوها للنبى ، والتى قام ابن إسحاق من قبل فى تصويرها فى (السيرة ) لتتشابه مع شخصية أبى جعفر المنصور . وبالتالى كان الرشيد يؤمن بملكيته للقبر المنسوب للنبى فى المدينة والذى قام بتوسيعه أبوه المهدى . وحدث أن ( حج هارون الرشيد ، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم زائرًا له وحوله قريش وأفياء القبائل ومعه موسى بن جعفر ، فلما انتهيا إلى القبر قال‏ ( الرشيد ) :‏ " السلام عليك يا رسول الله يا ابن عم ‏.‏" افتخارًا على مَنْ حوله فدنا موسى بن جعفر فقال‏:‏" السلام عليك يا أبت "، فتغير وجه هارون ) ولم يغفرها الرشيد لموسى بن جعفر العلوى ، تقول الرواية : ( ثم اعتمر الرشيد في رمضان سنة تسع وسبعين فحمل موسى معه إلى بغداد فحبسه بها فتوفي في حبسه. ). سجنه الرشيد لأنه ( زايد ) على الرشيد ( دينيا ) بما يُتيح له ان ( يُزايد ) على الرشيد سياسيا ، لذا حبسه وتركه يموت فى الحبس، حتى لا ينازعه أحد فى ملكيته للدين السُّنّى وملكيته للدولة الدينية المؤسسة على هذا الدين السُّنّى.
3 ـ ولأنه كان المالك لهذا الدين الأرضى المؤسس على الأحاديث فقد كان لا يقبل أى نقد لأى حديث مهما بلغت مخالفة هذا الحديث للمنطق . تقول الرواية : ( وحدثه أبو معاوية يوماً، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بحديث احتجاج آدم وموسى، فقال عمُّ الرشيد‏:‏ أين التقيا يا أبا معاوية ‏؟ فغضب الرشيد من ذلك غضباً شديداً، وقال‏:‏ أتعترض على الحديث ‏؟‏عليَّ بالنطع والسيف، فأحضر ذلك، فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد‏:‏ هذه زندقة‏.‏ ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا، فأقسم عمُّه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة مني وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها‏.‏ فأطلقه‏. ) . تساءل عم الخليفة سؤالا بريئا : متى تقابل آدم وموسى ؟ فكاد أن يقتله الرشيد ، وإعتذر الرجل وأقسم أنه ما قال له أحد هذا السؤال ( الكافر ) . الاعتراض على أى حديث هو زندقة . والزندقة عقابها القتل بلا تردد .
4 ـ ولهذا كان ( زنديقا ) من يخرج ثائرا على الرشيد ، أى يكون خارجا عن الدين ( الأرضى السًنى ) وخارجا على طاعة الرشيد الذى يملك الدولة ويملك دينها السُنّى أيضا . وأصبح وصف الزندقة مرادفا للخروج على الرشيد . فى أحداث عام 170 تقول الرواية ( ظهر من كان مستخفيأ منهم طباطبا العلوي، وهوإبراهيم بن إسماعيل، وعلي بن الحسين بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وبقي نفر من الزنادقة لم يظهروا ، منهم: يونس بن فروة، ويزيد بن الفيض. )، وفى أحداث عام 171 ، تقول الرواية ( تتبع الرشيد خلقاً من الزنادقة فقتل منهم طائفة كثيرة‏.‏ ) وفى عام 180 ( خرجت المحمرة بجرحان وكتب طي بن موسى بن هامان: أن الذي يهيج ذلك عليه عمرو بن محمد العمركي وأنَه زنديق ، فأمر الرشيد بقتله فقُتل بمَرْو ‏. ) ( ظهرت طائفة بجرجان يقال لها‏:‏ المحمرة لبسوا الحمرة واتبعوا رجلاً، يقال له‏:‏ عمرو بن محمد العمركي، وكان ينسب إلى الزندقة، فبعث الرشيد يأمر بقتله فقتل وأطفأ الله نارهم في ذلك الوقت‏.‏ ).
5 ـ وبسبب هذا الدين الأرضى الذى يستند عليه سلطانه كان للرشيد ( ندماء ) من رواة الحديث ( كما كان له ندماء للمجون أيضا لإضحاكه ولتسليته بالشعر ..وبالخمر ، هذا عدا آلاف الحسناوات ) . كان من رواة الأحاديث لديه أبو معاوية الضرير ، تقول الرواية : ( وقد استدعى إليه أبا معاوية الضرير محمد بن حازم ليسمع منه الحديث . قال أبو معاوية‏:‏ ما ذكرت عنده حديثاً إلا قال‏:‏ " صلى الله عليه وسلم على سيدي " ، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى‏. وأكلت عنده يوماً ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء عليَّ وأنا لا أراه، ثم قال‏:‏ يا أبا معاوية أتدري من يصب عليك الماء ‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏. قال‏:‏ يصب عليك أمير المؤمنين‏. قال أبو معاوية‏:‏ فدعوت له‏.فقال‏:‏ إنما أردت تعظيم العلم‏.). وتكاثرت الروايات عن وعظهم للرشيد وبكاء الرشيد عند الوعظ ، ولم نر لهذا الوعظ أثرا فى حياة الرشيد ، فلم يتوقف عن سفك الدماء وسلب الأموال و الفسق بالنساء .! يبكى أمام الفقهاء ، ثم يمارس عمله العادى فى الفسق والطغيان ..
6 ـ وروايات الفقهاء عن الرشيد منها ما يتعارض مع سيرته التاريخية ، فلا نقبل قولهم فيه : ‏( كان يحج سنة ويغزو سنة .) فهذا ما لم تسجله الحوليات التاريخية التى رصدت غزواته وسنوات حجه . ولا نصدق قولهم فيه : ( كان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة تطوعا إلى أن فارق الدنيأ !. ) فلا يمكن لمن ينشغل بآلاف الحسناوات أن يتسع وقته لهذا . ولايمكن أن نصدق هذه الراوية : ( وقال بعضهم‏:‏ دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد‏:‏ قتلته لأنه قال القرآن مخلوق، فقتله على ذلك قربة إلى الله عز وجل‏. ) ذلك أن (فتنة خلق القرآن ) لم تكن قد ظهرت بعد . ظهرت فى آخر عام من حكم المأمون . ولكن لا مانع من تصديق أنه ( أول من كتب في صدر كتبه الصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.) وأنه ( كان إذا حجّ حجّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، فإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الطاهرة.). وأنه ( كان الرشيد يكثر الحج والغزو واتخذ قلنسوة مكتوب عليها‏:‏ غازٍ حاجٍ ‏.‏ ). فكل هذا من لوازم دينه الأرضى .
7 ـ ومن لوازم دينه الأرضى أيضا تناقضه بين البكاء عند الوعظ و القسوة المفرطة عند الغضب . وحكايته مع البرامكة هى أبرز ذلك التناقض . لا يهمنا هنا الأسباب . يهمنا التناقض بين التطرف فى المحبة ثم الانقلاب المفاجىء الى تطرف فى الانتقام .
يحيى البرمكى هو الذى جعل الرشيد خليفة بالتخطيط مع الخيزران . لذا قيل عن السنوات الأولى فى حكم الرشيد : ( وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور ، فكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها . وكان الرشيد يقول ليحيى‏:‏ يا أبي ‏.. ) ( استوزر الرشيد يحيى بن خالد، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، فاحكم فيها بما ترى، واعزل من رأيت، واستعمل من رأيت، ودفع إليه خاتمه. ) أى يتصرف فى كل شىء باسمه دون أن يشاوره. وفى عام 178 ( فوض الرشيد أمور دولته كلها إلى يحيى بن خالد البرمكي. ).
ثم كانت نكبة البرامكة فى عام 187 . سجن ( أباه ) يحيى البرمكى فى شيخوخته،وسجن أخاه من الرضاع الفضل بن يحيى، وظلا فى السجن حتى ماتا فيه . وقتل جعفر بن يحيى، ( وصُلب بباب الجسر رأسه، وفي الجانب الغربي جسده ). وفى عام 189 أمر الرشيد ( بإحراق جثة جعفر بن يحيى.). بل قتل الرشيد فى عام 187 إبراهيم بن عثمان بن نهيك،( وسبب قتله أنه كان كثيراً ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، ويبكي عليهم إلى أن خرج من البكاء إلى حد طالبي الثأر، فكان إذا شرب النبيذ مع جواريه أخذ سيفه ، ويقول: واجعفراه! واسيداه! والله لأقتلن قاتلك ولأثأرن بدمك .) ، وخاف إبنه أن يصل الخبر الى الرشيد فيقتلهم جميعا فأخبر الرشيد بما يقوله أبوه ، فقتل الرشيد أباه .!. ولم يكتف الرشيد بالقتل بل صادر أموال البرامكة ، وألجأ نساءهم الى التسول . يقول أحدهم : ( دخلت على أمي في يوم أضحى وعندها امرأة بَرْزة في أثواب دنسة رثة . فقالت لي‏:‏ أتعرف هذه ؟‏!‏ قلت‏:‏ لا ‏.قالت‏:‏ هذه عبادة أم جعفر بن يحيى بن خالد ‏.فسلمت عليها ورحبت بها وقلت لها‏:‏ يا فلانة حدثيني ببعض أمركم ‏.قالت‏:‏ أذكر لك جملة كافية فيها اعتبار لمن اعتبر وموعظة لمن فكر. لقد هجم عليَ مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة وأنا أزعم أن جعفرًا ابني عاق بي ، وقد أتيتكم في هذا اليوم أسألكم جلد شاتين أجعل أحدهما شعارًا والآخر دثارًا‏.).
ثانيا : نهمه للمال وإسرافه في إنفاقه .
1 ـ كان الرشيد مغرما بمصادرة الأموال حتى من أقرب الناس اليه . فى عام ‏173 : توفي والى البصرة والكوفة (محمد بن سليمان العباسى ):( فأمر الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء، فوجدوا من ذلك شيئاً كثيراً من الذهب والفضة والأمتعة وغير ذلك،‏ كان دخله في كل يوم مائة ألف‏.وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله‏.وقد أرسل الرشيد من اصطفى من ماله الصامت فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الدراهم ستة آلاف ألف، خارجاً عن الأملاك‏.‏ )، وفى رواية أخرى:( وكانت عظيمة من المال والمتاع، والدواب، فحملوا منه ما يصلح للخلافة، وتركوا مال لا يصلح ، وكان من جملة ما أخذوا ستون ألف ألف،) وأسرف الرشيد فى توزيع هذا المال لمن لا يستحق ، تقول الرواية : ( فلما قدموا بذلك عليه أطلق منه للندماء والمغنين شيئاً كبيرأ، ورفع الباقي إلى خزانته ).هذا المال من عرق الغلابة فى البلاد المفتوحة .!
2 ـ ويذكر أن الخيزران ماتت فى نفس العام ، وتقول الروايةعن ( محمد بن سليمان نائب البصرة ) أنه ( أهدى للخيزران فى اليوم الذى ماتت فيه : مائة وصيفة، مع كل وصيفة جام من فضة مملوء مسكاً‏.‏ ) وعن تركة الخيزران تقول نفس الرواية ( وكان مغل ( أى دخل ) ضياعها في كل سنة ألف ألف وستين ألفاً ). ورثها الرشيد .
3 ـ وفى عام 189 سافر الرشيد إلى الري خصيصا بسبب شائعات عن الوالى علي بن عيسى والى خراسان، بأنه ( ظلم أهلهأ ، وأساء السيرة فيهم، فكتب كبراء أهلها وأشرافها إلى الرشيد يشكون سوء سيرته وظلمه، واستخفافه بهم، وأخذ أموالهم. وقيل للرشيد: إن علي بن عيسى قد أجمع على الخلاف، ). وقدم هذا الوالى هدايا هائلة للرشيد ومن معه ، فنجا من العزل والعقوبة . تقول الرواية: ( وأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى أتاه علي بن عيسى من خراسان، فلما قدم عليه أهدى له الهدايا الكثيرة، والأموال العظيمة، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته، وولده، وكتابه، وقواده من الطرف والجواهر، وغير ذلك، ورأى الرشيد خلاف ما كان يظن فرده إلى خراسان.) . وفى عام 191 مات قتلا أبن هذا الوالى وظهرت أموال له قد دفنها فى بستان ، ونهبها بعض الخدم ، ووصلت الأنباء الى الرشيد فأرسل قائده هرثمة ليأتيه بها ، تقول الرواية:( وكان ابنه عيسى قد دفن في بستان، في داره ببلخ، أموالاً عظيمةً قيل كانت ثلاثين ألف ألف، ولم يعلم بها أبوه ولم يطلع عليها إلا جارية له، فلما سار علي بن عيسى إلى مروأطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، واجتمعوأ، ودخلوا البستان، ونهبوا المال، وبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج عن بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال، وهويزعم أنه قد باع حلي نسائه.. فعزله، واستعمل هرثمة بن أعين. فسار هرثمة ولا يعلم بأمره أحد، حتى ورد نيسابور، فلما وردها استعمل أصحابه على كورهأن وسار مجداً يسبق الخبر، فأتى مرو والتقاه علي بن عيسى، فاحترمه هرثمة، وعظمه، حتى دخل البلد، ثم قبض عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف؛ وكانت خزائنه وأثاثه على ألف وخمسمائة بعير، فأخذ الرشيد ذلك كله. ).
4 ـ لذا كانت تركة الرشيد هائلة : قال ابن الجوزي‏:‏( وقد خلف الرشيد من الميراث ما لم يخلفه أحد من الخلفاء، وخلف من الجواهر والأثاث والأمتعة سوى الضياع والدور ما قيمته مائة ألف ألف دينار، وخمسة وثلاثون ألف دينار‏.‏ وقال الطبرى : ( وكان في بيت المال سبعمائة ألف ألف ونيف‏.‏ وكان في بيت المال لما توفي تسعمائة ألف ألف. ) .هذا عدا ما أسرف فى إنفاقه فى حياته على الشعراء والنساء . كل هذه الأموال جاءت سُحتا من عرق أهل البلاد المفتوحة . يذكر أحدهم قول الرشيد له وقد خرج من عند زوجته زبيدة : (‏ دخلت اليوم إلى هذه المرأة - يعني‏:‏ زبيدة – فأقلت ( من القيلولة ) عندها وبتُّ، فما استيقظت إلا على صوت ذهب يصب‏. قالوا‏:‏ هذه ثلثمائة ألف دينار قدمت من مصر‏. فقالت زبيدة‏:‏ هبها لي يا ابن عم‏.فقلت‏:‏ هي لك‏.‏ثم ما خرجت حتى عربدت علي وقالت‏:‏ أي خير رأيته منك ‏؟. ).!
ثالثا : نهمه الجنسى :
1 ـ ذكر الطبرى وابن عساكر أنه ( كان في دار الرشيد من الجواري والحظايا وخدمهن وخدم زوجته وأخواته أربعة آلاف جارية، وأنهن حضرن يوماً بين يديه فغنته المطربات منهن فطرب جداً، وأمر بمال فنثر عليهن‏. وكان مبلغ ما حصل لكل واحدة منهن ثلاثة آلاف درهم في ذلك اليوم .‏) بالاضافة الى آلاف المحظيات فقد تزوج الرشيد زبيدة بنت عمه، وأمة العزيز، وأم محمد بنت صالح المسكين، والعباسة بنت عمه سليمان بن أبي جعفر، فزفتا إليه في ليلة واحدة ، وعزيزة بنت الغطريف ، حفيدة عثمان بن عفان.) تقول الرواية : ( وأما الحظايا من الجوارى فكثير جداً . حتى قال بعضهم‏:‏ إنه كان في داره أربعة آلاف جارية سراري حسان‏.). وتقول رواية أنه دخل الرشيد دار خالد البرمكي فرأى فيه جارية أعجبته وقد استوقفته الجارية وقالت له : أما لنا فيك من نصيب ؟ فقال لها : وكيف ؟ استوهبني من هذا الشيخ ، فأعطاها له خالد البرمكي ، وكانت اسمها هيلانة . ) .
2 ـ ومع هذا العدد من النساء فقد كان يحلو للرشيد أن يأخذ المزيد مهما كلفه الأمر . وحين تولى أخوه الهادي الخلافة استولت على قلبه إحدى جواريه واسمها غادر ، وقد خطر للخليفة الهادى أنه سيموت ويتركها ويأخذها من بعده أخوه هارون الرشيد حين يتولى الخلافة ، وقوى هذا الخاطر في نفسه إلى درجة أنه استحلف أخاه هارون بالأيمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشياً حافياً ألا يأخذها بعده ، ثم استحلف الجارية نفس الأيمان المغلظة، وبعد موت الهادي طلبها الرشيد لنفسه فقالت له : كيف وقد حلفنا تلك الأيمان المغلظة ؟ فقال لها الرشيد : أنا أُكفّر عن تلك الأيمان ، وصارت له .
3 ـ ومع هذا العدد من النساء فقد كان يحلو للرشيد أن يفسق بنساء أخريات ، ويستعمل فى تسويغ هذا الفسق دينه السّنى الملاكى . وقد هوى جارية لأبيه فامتنعت عليه وقالت له : (إن أباك قد طاف بى ) أى نام معها وبالتالى تحرم على أولاده ومنهم الرشيد . فاشتدت رغبة الرشيد فيها وبحث عن حيلة شرعية ، فأفتى له بالفقيه أبو يوسف باستحلالها، قال ابو يوسف للخليفة هارون الرشيد : كيف نأخذ بشهادة جارية ؟ !، ولم يأخذ بصدق شهادتها فيما تحكيه عن نفسها أن والد الرشيد ـ قد نالها من قبل .
ويحكي أبو يوسف أنه جئ به من بيته ليلاً إلى الخليفة الرشيد فوجد عنده عيسى بن جعفر، فقال الرشيد لأبي يوسف يستفتيه أنه طلب جارية مغنية من عيسى ابن جعفر وأنه رفض أن يعطيها له ، وأنه إن لم يفعل سيقتله، وقال عيسى أنه كان قد أقسم بالطلاق و العتاق أنه لن يبيع هذه الجارية ولن يهبها لأحد وأنه لا يعرف كيف يخرج من هذا القسم ، فأفتى له أبو يوسف أن يبيع للرشيد نصفها وأن يهبه النصف الآخر ، ففعل وصارت الجارية ملكاً للرشيد . وأحضروها له في المجلس فلما رآها قال لأبي يوسف: هل من سبيل إليها الليلة ؟ فقال أبو يوسف إنها مملوكة ولابد من استبرائها فلابد أن تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ فأعتقها وتزوجها وأعطى أبا يوسف مائتي ألف درهم وعشرين ثمناً عن الثياب ، وأرسلت له الجارية عشرة آلاف درهم . وقد أخطأ أبو يوسف في إفتائه للرشيد بأن ينال الجارية بعد زواجها بلا استبراء ، لأن العدة بالنسبة للمرأة لا تختلف إن كانت المرأة جارية أو حرة ، ففى كل الأحوال لا بد من مراعاة العدة حتى تتيقن من خلوها من الحمل ، ولكن كان العباسيون يملكون فقهاء الشرع يحكمون لهم بغير ما أنزل الله تعالى .
4 ـ فى قصر جعفر البرمكى كانت توجد إحدى الجواري الصغيرات من القادمات الجدد ،تعلقت به,وعزمت بكل ما لديها من عزم أن تجذب انتباهه . وعرفت غرامه بالطرب والغناء فتعلمت وأجادت . وشيئا فشيئا بدأ يصغى إليها ويهتم بها وأحست أنها على وشك أن تفوز به خاصة بعد أن أطلق عليها لقب"فتينة". ورأت فتينة أن اهتمام مولاها بها مقترن باهتمام ندمائه بغنائها فكانت تبذل كل ما تستطيع لتجيد الغناء في حضرة أصحابه،فازدادت شهرتها ،وازداد جعفر بها إعجابا وإهتماما. ووصلت شهرة فتينة إلى الرشيد فطلبها من جعفر ولكن جعفر رفض طلب الخليفة.بعد مقتل جعفر صادر الرشيد أمواله وأموال أسرته، وضم الرشيد إلى قصره كل جواري جعفر, ومنهن فتينة.وعقد الرشيد مجلسا استعرض فيه جواري جعفر وأمر كل واحدة منهن أن تعرض فنّها عليه.. إلى أن جاء دور فتينة. وكانت المفاجأة .. أمرها الرشيد أن تغنى ، وكان متشوقا لسماع غنائها، ولكنها نكست رأسها للأرض وسكتت. وتكهرب الجو، وتصاعدت أنفاس الجواري، وهن يعلمن أن غضب الرشيد ساحق ماحق, وأنه يتطرف في عقوبته. ارتفعت أصوات الجواري لفتينة وهن يرتعدن ( ويحك..غن!!).وانهمرت دموع فتينة ونظرت للرشيد تتحداه وتقول :( أما بعد السادة فلا..).! أي بعد السادة جعفر البرمكى وآله لن تغنى لأحد حتى لو كان الرشيد نفسه..وسقطت قلوب الجواري في أقدامهن، وانقطعت أنفاسهن، وانتظرن تحول فتينة إلى جثة هامدة مختلطة الملامح. ونظر الرشيد إلى أقبح خادم في القصر واسمه الحارث بن بسيحر،وقال له : (خذها..قد وهبتها لك..) فأخذها بيده ومضت معه. فلما ولت دعا الرشيد الحارث بن بسيحر وأمره أن لا يقربها, وأنه إنما أراد إذلالها ولم يعطها له على الحقيقة.. وبعدها بأيام استدعى الجميع، وسأل عن الحارث بن بسيحر وأمره باستدعاء فتينة، فحضرت وجلست ، وأخذت الجواري في الغناء والألحان, ثم قال الرشيد لفتينة : (هيه .. غنى ..)، فانهمرت دموعها وقالت نفس مقالتها الأولى: ( أما بعد السادة .. فلا..)!! وهنا ثار الرشيد. وصرخ:سيف ونطع..(والنطع هو قماش غليظ يوضع تحت المحكوم عليه بالإعدام حتى لا يلوث دمه المكان)..ووقف السياف فوق رأسها. وأجلسوها على النطع ..وقال لها الرشيد: غنى .. فبكت وقالت :( أما بعد السادة.. فلا..)، وذهبت عقول الحاضرين من الخوف.وصاح الرشيد بالسياف: أنظر إلى يدي.. فإذا عقدت لك بالخنصر إلى اثنين فلا تضربها.. فإذا عقدت لك بالوسطى ثلاثا فاضرب عنقها..ورفع السياف سيفه فوق رأسها.. وقال لها الرشيد: غنى.. فقالت: أما بعد السادة فلا.. وعلا بكاؤها.. وقال لها للمرة الثانية.. غنى .. فقالت:أما بعد السادة ..فلا.. وقال لها للمرة الثالثة والأخيرة: غنى .. فأقبلت عليها الجواري يستعطفنها ويناشدنها الله في نفسها.. فاندفعت تغنى باكية على حبيبها جعفر وتندبه قائلة:
لما رأيت الديار قد درست أيقنت أن النعيم لم يعد
آي غنت.. ولكن لكي تغيظ الرشيد!! فوثب إليها الرشيد فأخذ العود من يدها وأخذ يضرب به وجهها ورأسها حتى تفتت العود وغطى الدم وجهها وجسدها ، وحملوها من بين يديه مقيدة تنزف دما فماتت بعد ثلاثة أيام .
رابعا : مجرد أمثلة عن إسرافه فى الدماء :
1 ـ بمجرد أن فرغ من جنازة أخيه الهادى كان أول أمر يصدره الرشيد هو ضرب عنق أبي عصمة القائد،لأنه كان يطيع أوامر الخليفة الهادى وابنه ولى العهد يومئذ ، تقول الرواية عن سبب قتل هذا القائد ( لأنه كان مع جعفر بن الهادي، فزاحموا الرشيد على جسر فقال أبو عصمة‏:‏ اصبر وقف حتى يجوز ولي العهد‏. فقال الرشيد‏:‏ السمع والطاعة للأمير‏. فجاز جعفر وأبو عصمة ووقف الرشيد مكسوراً ذليلاً‏. فلما ولي أمر بضرب عنق أبي عصمة، ثم سار إلى بغداد‏.‏).
2 ـ وفى عام 171 : قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ نائب الجزيرة صبراً في قصر الخلد بين يديه‏.‏والسبب أن أباهريرة هذا إنهزم أمام الخارجى الصحصح . قتله صبرا ) أى تركه يموت جوعا وعطشا .!
3 ـ وقبل دقائق من موته ، جىء للرشيد ببشير بن الليث أخ الثائر فى خراسان ( رافع بن الليث ) وكان الرشيد ـ فى مرضه ـ قد قاد الجيش للقضاء على هذا الثائر . تقول الرواية عن بشير بن الليث مع الرشيد ( فلما وقف بين يديه شرع يترقق له فلم يقبل منه، بل قال‏:‏ والله لو لم يبق من عمري إلا أن أحرك شفتي بقتلك لقتلتك‏. ثم دعا بقصاب فجزأه بين يديه أربعة عشر عضواً، ثم رفع الرشيد يديه إلى السماء يدعو الله أن يمكنه من أخيه رافع كما مكنه من أخيه بشير‏.‏) . أى أمر جزارا أن يقطّع بشيرا قطعة قطعة . كان هذا آخر ما فعله الرشيد قبيل موته بدقائق .
4 ـ تفاصيل مسلسل الدماء فى خلافة الرشيد نتوقف معها فى المقال التالى بعون رب العزة جل وعلا.

أخيرا : حتى لايضيع منا طرف الخيط :
نذكركم بعنوان الكتاب : الأصل التاريخى لتقسيم العالم الى ( دار السلام ودار الحرب ).
ونذكركم :
1 ـ بأن الله جل وعلا لم يخلق البشر ليكونا معسكرين متحاربين ، بل خلق البشر جميعا أخوة من أب واحد وأم واحدة ، وجعلهم شعوبا وقبائل كى يتعارفوا سلميا ، لا لكى يتقاتلوا ، يقول جل وعلا يخاطب البشر جميعا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات )
2 ـ إن الله جل وعلا أرسل رسوله بالقرآن الكريم رحمة للعالمين وليس لقتال العالمين ، يقول جل وعلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء )
3 ـ إن الله جل وعلا أمر المؤمنين بالدخول فى السلام كافة ، فقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) البقرة ). وتشريعات القتال الدفاعية هى إستثناء يخدم السلام . ولكن الصحابة إتبعوا خطوات الشيطان بالفتوحات ، وجعلوها دينا ، نتج عنه تقسيم العالم الى معسكرين متحاربين ـ حربا مستمرة ، لا يزال الوهابيون يواصلونها حتى اليوم
4 ـ القتال فى الاسلام هو لرد العدوان فقط ، وهذا معنى أن يكون فى سبيل الله جل وعلا . أما القتال المعتدى الذى فعله الصحابة فهو فى سبيل الشيطان ، وليس هناك توسط : إما قتال دفاعى فى سبيل الله جل وعلا ، وإما قتال باغ معتد ظالم يريد الثروة والسلطة ، أى فى سبيل الشيطان . يقول جل وعلا عن نوعى القتال : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)(76)النساء)