ماذا فعل الحكم العسكري بمصر

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 5140 - 2016 / 4 / 22 - 01:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"إن أمة يحكمها العسكر أمة غير حرة " غاندي
هناك نظم استبدادية مثل الصين وروسيا نجحت في رفع مستوى معيشة شعوبها وتحقيق نقلة نوعية في اقتصاديات بلادها جعلت شعوبها متسامحة الى حد ما مع تقييد الحريات وبعض الفساد.
ولكن لم يكن هذا حال النظام العسكري الشمولي في مصر طوال أكثر من 60 عاماً كما سأوضح حالا.
بعد تخرجي عام 1977 في جامعة القاهرة سافرت مباشرة للعمل في دولة الإمارات كي أتمكن من ادخار بعض المال لاستكمال دراساتي في الخارج. وأتذكر جيداً أن الجنيه المصري وقتها كان يساوي 5.5 درهم اماراتي، أما اليوم فإن نفس الدرهم أصبح يساوي 2.8 جنيه مصري بالأسعار الرسمية وليس بأسعار السوق الحرة التي تجاوزت هذا السعر بكثير.
وبشكل آخر فإن قيمة 1000درهم وقتها كانت تساوي 180 جنيه تقريبا، أما اليوم فإن نفس ال 1000 درهم تساوي 2800 جنيه، أي أن قيمة الدرهم زادت بمعدل 15 ضعفا على مدار 40 عاما فقط وهذا شيء مذهل ومحزن ومخز.
إنها رحلة طويلة من الانهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والثقافي تحت الحكم العسكري بدأها الزعيم الخالد عبد الناصر عندما ألغي دولة المؤسسات والقانون والأحزاب السياسية والصحافة الحرة والبرلمان واستقلال الجامعات والنقابات العمالية والمهنية وحتى أجهزة الثقافة والفنون تحولت إلى أجهزة تابعة للدولة الأمنية والمخابراتية وتم حصر دورها في التغني بعبقرية ووطنية الزعيم.
ولم تشهد مصر أي تغيير يذكر في هذه المنظومة الخربة من يومها وحتى الان وبالرغم من كل الهزائم والنكبات التي تتكالب على مصر من الداخل والخارج.
إن إلغاء المجتمع المدني وتوغل العسكريون والامنيون في كافة أجهزة الدولة أدى إلى هدر كبير لموارد الدولة المصرية نتيجة سوء التخطيط وتفشي الفساد وكما هو معروف فإن الاستبداد والفساد وجهان لعملة واحدة وقرينان لا ينفصلان.

كما ان الادعاء بأن هذا النظام العسكري والاستبداد يحقق الاستقرار لمصر ادعاء باطل حيث أن الاستبداد يؤدي إلى التطرف والعنف وأحياناً لا يبدو هذا على السطح نتيجة سياسات القمع الوحشي والتي يتبعها النظام، ولكن هذا التطرف عادة ما يغلي في قاع المجتمع ويتحين الفرص للانفجار في اي لحظة وقد يؤدي هذا إلى انهيار الدولة كما هو حاصل في سوريا وليبيا واليمن الآن.
والآن أنعم الله على مصر بالرئيس السيسي الذي أصبحت مصر أكثر استبدادا في عهده من أي وقت في تاريخها الحديث.
وهو رجل يميل إلى تبسيط الأمور ويصور له عقله ان بمقدوره حل مشاكل مصر بمفرده وأن كل ما يحتاجه هو أن يستمع له الجميع وان يسمعوا له هو فقط وان يمتثلوا لتعليماته هو فقط. والسيسي لا يفهم ما معنى أن يكون هناك شعب له رأي ودستور وحكومة وبرلمان ومعارضة، أنه يعتقد وبشكل جازم أن كل هذه الأشياء مضيعة للوقت وان المدنيين لا يستحقون إلا التجاهل لأنه لا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم في تحقيق حلمه بأن تصبح مصر "قد الدنيا" وان أفضل شيء يفعلوه المدنيين هو أن يلتزموا بالصمت وان يتركوه يعمل وإلا فإن السجن سيكون مصيرهم.
الرجل يتمتع بابتسامة خلابة ولكن وراء هذه الابتسامة وحش عنيد لا يرحم ولا يؤمن بالمبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والاختلاف في الرأي وسيادة القانون. ... الخ
هذه المصطلحات تثير اشمئزاز وسخرية السيسي ويرى أن الشعب المصري غير مؤهل لها. وقناعاته هذه ليست نابعة من أي توجه سياسي ولكن من تربيته العسكرية المبنية على الطاعة العمياء لأوامر القائد أيا كانت هذه الأوامر وأيا كان هذا القائد. ولذلك فإنه يعني ما يقول بان أمام المصريين رحلة عشرين عاما كي يصلوا الى منعطف الديمقراطية.
والسؤال هل سيبقى من مصر شيء يذكر بعد عشرين عاما أخرى مع السيسي؟ أو لم يكفي بعد أكثر من ستين عام من الاستبداد والخراب وسوء الإدارة؟

وفي أحدث أزمة من أزمات السيسي مع الشعب المصري وبغض النظر عمن يملك جزيرتي تيران وصنافير فإن السيسي تجاهل شعبه وبرلمانه تماماً وأعلن فجأة عن اتفاق تسليم الجزر للسعودية بعد الاتفاق مع إسرائيل.
وهذا التصرف يوضح بجلاء مدى احتقار السيسي للشعب ولكل مؤسسات ودستور الدولة المصرية. والأخطر من هذا أنه عندما تكلم تحدث بطريقة فوقية كالعادة وطلب من ال 90 مليون مصري ألا يتكلموا في هذا الموضوع مرة أخرى لأن الموضوع معروض على البرلمان المؤيد له على طول الخط.
وهو لا يدركك أن الشعب المصري بفطرته يعرف أن مجرد حضور الملك سلمان لمصر وإعلان الاتفاق في حضوره يعني أن موضوع الجزر منتهي أصلا وأن البرلمان سيبصم على الاتفاق لا محالة.
والسؤال إلى متى سيستمر السيسي في غروره وعناده وعزلته واحتقاره للشعب المصري، ومتى سيعي أن استبداده لم يفد مصر في شيء لأن منظومة الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري والاخلاقي ومعاناة المصريين في رحلتهم إلى المجهول معه مازالت مستمرة.
والأن فإن أخطر ما يضيع من مصر هو استقراها ومستقبلها وكرامتها أمام العالم كله.

ولا نملك في غربتنا إلا أن ندعو لمصر بالأمن وزوال الغمة.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري