عبد الله العروي والدعوة إلى أولوية الحراك الثقافي


محمد بوجنال
الحوار المتمدن - العدد: 5130 - 2016 / 4 / 11 - 07:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



لقد عرف الحراك العربي –المسمى بالربيع العربي- تحليلات ومقاربات متنوعة منها الإسلامي، ومنها اللبرالي، ومنها الماركسي. ومساهمة في إغناء النقاش حول هذا الحراك العربي، سنورد مواقف بعض رواد الفكر العربي الراهن بالتوالي نبدؤهم بموقف عبد الله العروي.
دون الرجوع القهقرى إلى أسباب تخلف المجتمعات العربية، نرى أن لهزيمة 1967 أثرا كبيرا على المجتمعات العربية وبالتالي على العقل العربي. وقد كان هذا الوضع، بمثابة العامل الذي أشعل فتيل الدعوة إلى الحراك العربي الثقافي. ومن بين الداعين لهذا الحراك المفكر المغربي عبد الله العروي الذي أكد ويؤكد على أن تخلص الدول العربية من هزائمها وتخلفها لا يمكن أن يحصل إلا بالنظر في أولوية المجالات الثلاث التالية وكذا نوعية العلاقات بينها وهي: الاقتصاد، السياسة، الثقافة. والتشخيص ، في نظره، يحدد أهمية المجال الثقافي وبالتالي أسبقيته على المجالين الاقتصادي والسياسي نظرا لما عرفاه من هزائم وتعثر أكده منطق الواقع. وقد وضح موقفه في القول بأن الثقافة في العالم في العالم العربي تتميز بثلاث مميزات: أولها عكسها المزيف لقضايا العالم العربي في الذهن العربي وبشكل لا واع بفعل مفاهيمها المتداولة؛ وثانيها النسق الثقافي الذي يهدف حجب الواقع؛ وثالثها استعارات ثقافية اعتبرت نماذج دون أن تجد لها موقعا إيجابيا داخل الواقع العربي. وفي كل هذا يرى العروي أن الثقافة العربية هي تصورات ذهنية غير مطابقة لواقع مجتمعاتها.
فالعروي رأى، ومنذ مدة، أهمية المجال الثقافي في التأسيس للحراك في العالم العربي؛ إلا أن العكس كان هو السائد. بذلك نجده يتساءل: كيف يمكن للثقافة العربية أن تنجز مهامها التاريخية المتمثلة في تحقيق النهضة وهي في وضع يتميز بالانفصام عن واقعها وبالتالي عن مهامها تلك؟
قلنا أن الهزيمة العربية ل1967 لعبت دورا كبيرا في جذب انتباه عبد الله العروي إلى أهمية وأولوية المجال الثقافي الذي لم يقتصر فيه على نقد هزائم الأنظمة العربية وحسب، بل وكذلك نقد ما سماه بالمنهج الماركسي الكلاسيكي الذي يرجع ميكانيكيا قضايا المجتمعات العربية إلى البنية الاقتصادية والسياسية؛ وبديله الذي دافع عنه هو كون الفهم الصحيح لبنية المجتمعات العربية يقتضي اعتماد الحراك الثقافي الذي اعتبر أولويته على المجالين الاقتصادي والسياسي؛ وبمعنى آخر، فالعروي يرى أنه، أن تبقى الصراعات محددة في الاتهامات المتبادلة من قبيل هذا مادي وذاك مثالي، فالأجدر ضبط العوامل الموضوعية والذاتية لضبط أساس بنية التناقضات: أهي البنية التحتية أم البنية الفوقية؟ هل هي علاقات الإنتاج أم ثقافة المجتمع؟ لذلك، فضعف قوى الحراك العربي، نظرا لضعفها الثقافي، فشلت في تحقيق النهضة. ويتابع العروي قوله بأن نقاشه لم يكن منصبا على برامج وأهداف تلك القوى، بقدر ما أنه منصب على المنطق الذي به تم تحرير تلك البرامج والأهداف والشعارات التي تم تبنيها؛ والمقصود من القول هذا هم طرحه أهمية المستوى الثقافي الذي به تفهم التناقضات العامة للواقع العربي. لذلك ميز العروي بين المستوى الثقافي ومستوى البرامج والأهداف كما حددتها القوى كما حددتها القوى والأنظمة المنهزمة إذ يرى أن البرامج والأهداف تلك، صحيحة والمتمثلة في : الوحدة، التنمية، الديمقراطية؛ لكنها، بفعل تخلفها الثقافي، عرفت الانهزام تلو الانهزام. فثقافة متخلفة ومتسرعة، بها تم تحرير البرامج والأهداف والشعارات، لن تكون سوى برامج وأهداف وشعارات مهزومة.لذلك نجد العروي، في كتابه مفهوم العقل، يرفض مفهوم التسريع أو ما يسميه ب"الاستعجال" حيث رأى أن الاستعجال نهج طوباوي يفرز الفوضوية التي تكون خلاقة أدبيا ولكنها عقيمة سياسيا واجتماعيا؛ وهذا يؤكد أن العروي لم يحبذ الاستعجال في حصول الربيع العربي.
هكذا، فالثقافة العربية ثقافة مفارقة لعصرها أو قل ثقافة جامدة وتقليدية تفتقر إلى العلاقة بقضايا ومشاكل مجتمعاتها. لذلك كثيرا ما كرر العروي قوله بأن الثقافة العربية، سواء منها المكتوبة أو الشفوية،، بقيت، وما زالت، ثقافة منفصلة عن مشاكل وحاجيات المجتمعات العربية، ثقافة لا تهتم ولا تنصت إلى أسئلة الواقع لتبقى وفية لمراحل تاريخية قديمة وتقليدية. وعليه، فهو يرى أن المجتمعات العربية لا تختلف عن غيرها كمجتمعات، بل الاختلاف راجع إلى المستوى الثقافي الذي لم يتمكن من استيعاب مكتسبات العقل. ومعلوم أن غياب ذلك يعني، وبالكاد، غياب العلاقة بين العلم والثقافة في عالمنا العربي وهو الحاصل بالفعل، بل والسائد ممثلا في الالتصاق بالتراث والماضي؛ لذلك يقول العروي ما مضمونه أن العرب ، منذ عصر النهضة، يعيشون كأجسام في العصر الراهن، وكثقافة في عصور قديمة.
نحن إذن نعيش ثقافة بمكونات قديمة وماضية وبالتالي معزولة عن واقعها العربي؛ لذا ، بقيت ثقافة جامدة ومعزولة عن قضايا وإشكالات المجتمعات العربية. هكذا يعتبر العروي من الرواد الداعين إلى تغيير هذه الثقافة الجامدة للتمكن من تغيير الواقع وتخليصه من بنياته التقليدية وإلا سنبقى ضحية الفشل كما حدث للحراك العربي؛ إن حصول الحراك الثقافي، في نظره، لن يحصل إلا بالقطع مع ما تراكم من فكر وثقافة تقليدية وهو ما سماه ب"القطيعة المنهجية" التي هي القطع مع المناهج التقريرية والجدالية؛ وبلغة أخرى، فالمنهج ليس هو الجانب الشكلي المتمثل في: المراجع والإحالات والهوامش...الخ، بل هو أساسا قطع أو قطيعة مع التقاليد. فغياب "القطيعة المنهجية" يعني تبني مناهج ترسيخ الثقافة العربية الجامدة، ثقافة عبادة المطلقات على حد تعبيره؛ فهذا الجمود والهدوء يجب أن يزول ليحل محله الصراع؛ وبلغة أخرى، فالعروي يرى أن تبني "القطيعة المنهجية" يعني، وبالكاد، تبني فكرة "الثورة الثقافية" التي يجب أن تعم كل فئات المجتمعات العربية، ثورة تصفي الحساب مع الثقافة التقليدية لبناء مجتمع جديد بثقافة جديدة وهو ما افتقر إليه الحراك العربي في نظره؛ إنه الوضع الذي ما زال مؤجلا بسبب تشبثنا وافتخارنا شعوريا ولا شعوريا بماضينا، وفي نفس الآن عداؤنا لتجارب ومكتسبات غيرنا أو إعجاب بعضنا بها دون استيعابها وهضمها وهما ما ميزا الحراك العربي فكان الفشل لا محالة، إذ فلا حراك اجتماعي بدون ثورة ثقافية؛ فالتخلص من هذا العبء أو الثقافة التقليدية هو أحد أهم أهداف الثورة الثقافية؛ إنه النهج الذي مارسه الغرب فتمكن من استيعاب وهضم الثقافة العلمية التي أصبحت هي هدفه الأسمى، فحصل التغيير على مستويي السلوك والعقل، من الجمود إلى الفعالية والإنتاجية وبالتالي إلى الحرية. وهذا يعني ، بالنسبة للعروي، أنه لا يمكن إنجاز هذه الثورة العلمية إذا لم تنجز الثورة الثقافية الشاملة. هذه النقلة تقتضي،يقول العروي، بروز الوعي النقدي الذي يتضمن برنامجه في آن واحد تحديث المجتمعات العربية من جهة، واستيعاب منجزات الآخر من جهة أخرى؛ وبلغة أخرى، فالوعي ذاك لا بد من أن يكون وعيا نقديا لجدلية صيرورتي التاريخ العربي والغربي في آن واحد. إنه الوعي الذي بإمكانه – إضافة إلى عوامل تالية- الذي بإمكانه تأسيس البديل الثقافي العربي أو قل الحراك الثقافي أو ما يسميه ب"الثورة الثقافية" التي لا يمكن أن ينجزها لا الجيش ولا الحزب ولا الطبقة العاملة، بقدر ما أنها الانتلجنسيا أو النخبة المثقفة. إنه النهج الذي سيمكننا من التأسيس الفعلي للحراك الثقافي العربي في نظره؛ في هذه الحالة، يمكن إنجاز ما عصي عن الإنجاز الذي منه إنجاز بناء ماركسية فعلية وبالتالي توفير أرضية نجاح الربيع العربي.