جدل التنمية والديمقراطية ومؤشرات التعثّر المغاربي (2 - 2)


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 5129 - 2016 / 4 / 10 - 13:08
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     

جدل التنمية والديمقراطية ومؤشرات التعثّر المغاربي (*) (2 – 2)
مؤشرات تعثّر التنمية الإنسانية المغاربية
في مقاربتنا لا نغفل أننا أمام خمسة أقطار لكل منها سياسة معينة، ومخططات تنموية مختلفة، وتحظى بتعامل خاص من طرف القوى الدولية الكبرى تبعاً لتموقعها في استراتيجياتها ورهاناتها الإقليمية والدولية.
ثمة مؤشرات كثيرة تدل على تعثّر عملية التنمية الإنسانية المغاربية استناداً إلى معظم، إن لم يكن كل، مؤشرات هذه العملية. إذ إنّ الجزء الظاهر من هذه المشكلة يتمثل في الفقر واللامساواة (المعدل المتوسط للفقر يصل إلى 17 % بينما كانت هذه النسبة لا تتجاوز الـ 12 % في بداية تسعينيات القرن الماضي). لكنّ الفقر في الحقيقة ليس سوى جزء من المشكلة، فإلى جانبه هناك مؤشرات كثيرة: ضعف مستوى الرعاية الصحية، وتراجع واضح في فرص التعليم الجيد، وضعف في سياسات الأمان الاجتماعي. والبطالة (أشارت بيانات منظمة العمل الدولية في مايو/أيار 2013 إلى أنّ نسبة العاطلين من الشباب في شمال أفريقيا تبلغ 23.6% مقابل المتوسط العالمي الذي بلغ 12.6%)، وارتفاع نسبة النمو الديمغرافي، وتدنّي مستوى الخدمات، والارتفاع في المديونية الخارجية، وتراجع أسعار المواد الأولية، وارتفاع قياسي في أسعار الغذاء والمواد الأساسية، وحُمّى تضخمية تنهك القدرة الشرائية للفئات المحدودة والمتوسطة الدخل، وهو وضع صعب على دول تحتاج إلى نمو متصاعد لتواجه أزمة البطالة بين شباب المدن.
ولاشك أنّ عدم تجانس التشريعات الاقتصادية يحد من الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، ويفقدها في المتوسط 2.5 % من الناتج الإجمالي بسبب إغلاق الحدود وضعف التجارة البينية التي تمثل 3 % من إجمالي المبادلات التجارية، في مقابل 65 % مع الاتحاد الأوروبي.
وأخيراً يكمن أحد التفسيرات الرئيسية لتعثّر التنمية المغاربية في افتقارها إلى التكامل، ففي أوروبا ومناطق أخرى من العالم، يعمل التكامل الإقليمي بالتدريج على تغيير البيئة السياسية، وتعزيز ثقة المجتمعات بنفسها وثقة العالم بها. والحقيقة أنّ بعض الشروط الأساسية اللازمة للشروع في عملية التكامل الإقليمي متوفرة بالفعل في المغرب الكبير، لكنّ الأمر يحتاج إلى تناول جديد. وتتلخص الوسيلة الوحيدة لتفعيل التكامل في خلق كيان إقليمي مغاربي، وقد يساعد إحياء الاتحاد المغاربي في خلق هذا الكيان الجديد.
ما العمل ؟
استناداً إلى المقدمات السابقة أقترح المداخل التالية للتعاطي المغاربي المجدي مع تحديات التنمية والديمقراطية:
(1) – عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد
إنّ المسألة ذات التأثير البالغ على مستقبل التنمية المغاربية تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، فالكثير من أسباب فشل التنمية يعود إلى الوهم بإمكان تعجيل التنمية الاقتصادية في غياب تحرك واضح في اتجاه التحديث السياسي. وثمة قضية هامة أخرى تتمثل في الموقف من القطاع العمومي، إذ أننا نعتقد أنّ أية تنمية مغاربية ناجحة في المستقبل مرهونة بالمحافظة على دور هذا القطاع في الاقتصاد الوطني، خاصة في المشاريع الاستراتيجية. إذ أنه لابدَّ من تدخل قوي لسلطة الدولة في وضع المعايير والقوانين والسياسات، وفي جمع الموارد المالية وتوزيعها، وفي إعداد البرامج الاجتماعية ومراقبتها من أجل ضمان الرفاهية للشعوب المغاربية.
ومما لاشك فيه أنّ تحقيق هذه المرونة، على الصعيد الاقتصادي، مستحيلة دون إطار سياسي ديمقراطي تعددي، يساعد على إطلاق مبادرات الشعوب المغاربية لإعادة بناء الإقليم المغاربي على أسس عصرية.
لقد أثبتت ثورة الكرامة والحرية في تونس أنّ المسألة ذات التأثير البالغ على التنمية الشاملة تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، إذ إنّ المقاربة التنموية، طوال العهد البائد، كانت تفتقد إلى مؤسسات ديمقراطية تمكّن المواطنين التونسيين من المشاركة في صياغة مستقبل وطنهم والمفاضلة، بحرية ووعي واستقلالية، بين الخيارات التنموية المتاحة وطرق ووسائل بلوغها، وبالتالي إجراء مفاضلة صحيحة بين الأعباء والمردودية المتوقعة لكل من هذه الخيارات.
(2) – إعادة صياغة توجهات ومسار التنمية المغاربية
إنّ الموقف الإجمالي في الإقليم المغاربي بعيد تمام البعد عن كونه مُرضياً، حيث يعتمد اقتصاد الجزائر على صادرات النفط والغاز، التي تتأثر بأسعار العرض والطلب في السوق العالمية. كما يعتمد اقتصاد المغرب على الإنتاج الزراعي والتحويلات المالية من المغتربين. بينما تعتمد تونس على الطلب من قِبَل المستهلك الأوروبي وعلى السياحة.
ومن الملاحظ أنّ الدول المغاربية شديدة المركزية، وقد أدى الإفراط في المركزية - في السياسة والتنمية - إلى جعل الجهات الداخلية أطرافاً هامشية وضعيفة التنمية. مما يفرض عليها تبنِّي استراتيجية إقليمية للتنمية، قادرة على إقامة بنى تحتية متطورة تربط بين العواصم والمدن الداخلية والحدودية بعضها ببعض، وتفسح في المجال لولادة أقطاب تنموية أساسية. الأمر الذي يتطلب تغييراً جذرياً في نمط إدارة الدولة والمجتمع، بين المركز والأقاليم، أي نحو تحقيق اللامركزية الإدارية، أي تطوير الديمقراطية التشاركية.
إنّ المطلوب من الدول المغاربية، للتعاطي المجدي مع التحديات التنموية، أن تعيد صياغة توجهات ومسار التنمية المغاربية، بما يساعدها على الاستفادة المتبادلة من الإمكانيات والموارد المتوافرة لديها ككتلة إقليمية قادرة على الاستمرار والتواصل، وتطوير التعليم التكنولوجي وتضييق الهوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وفقاً للتطور العلمي والتكنولوجي، وهذا يتطلب توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة مستقرة، تحمي الطبقات الفقيرة وتحفظ حقوق الإنسان الأساسية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتحفظ استقلال الوطن وأمنه وتؤمِّن مستقبله ومستقبل أجياله. كما يتطلب تنسيق التشريعات المالية والاقتصادية وفتح الحدود أمام التجارة البينية، وإنشاء سوق استهلاكية مشتركة تزيد جاذبية المنطقة في مجال استقطاب الاستثمارات الأجنبية، تؤدي على المدى المتوسط إلى تعزيز تكامل اقتصادي حقيقي بين دول المنطقة، تقلِّص تبعيتها الخارجية وتوفِّر لديها سيولة أكبر للإنفاق على التنمية. خاصة أنّ المنطقة تملك شروط التكامل بين الطاقة والزراعة والمعادن والسياحة والصناعة والخدمات، ما يجعلها مستفيدة من الوضع الدولي بسبب موقعها الجغرافي وانفتاحها الثقافي في الفضاء الأورو - متوسطي.
وفي الواقع يمكن للدول المغاربية، إذا رغبت وصممت، أن تغيّر الوضع القائم وتقود المسيرة نحو تحقيق الأهداف المرجوة بتبنّي إدارة حكم جيدة، وسياسات إصلاح عادلة لصالح الفقراء والطبقات الوسطى، وإدارة موارد نشطة وفاعلة، وتحديد أولويات واضحة ودقيقة للتنمية، وتبنّي برامج الإصلاح الاقتصادي القادرة على خلق فرص عمل تمتص الداخلين إلى سوق العمل، وتستقطب نسباً متزايدة من صفوف العاطلين عن العمل، ومعالجة الفجوات بين المدن والأرياف.
ويتعلق الأمر بمقاربة مغاربية قوامها تمكين المواطنين من المساهمة في بلورة حلول ملائمة لمشكلاتهم المتعلقة بتلبية حاجياتهم الأساسية وكذا بآلياتهم وأنماطهم الإنتاجية، في نطاق وضعهم كمسؤولين عن اتخاذ القرارات وتفعيلها ومتابعتها. من هنا يصبح المشروع التنموي تلقائياً مدرسة للديمقراطية، تتعلم فيها الدولة وأجهزتها مراجعة أساليبها في اتجاه آفاق أوسع للشراكة، ويتعلم فيها أفراد الجماعة إنضاج شخصية جماعية مستقلة ومبادرة مستعدة للاضطلاع بمسؤوليات التغيير الاجتماعي والانخراط في تشخيص، وتحليل، وتقييم المعوّقات والمؤهلات، واتخاذ قرارات أو اختيار حلول معينة تجاه المشروعات التنموية المقترحة. إنها مقاربة بديلة تقترح الطرق والأساليب التي تساعد الجماعات على التدبير الذاتي وعلى الفهم والشعور بامتلاك مشاريع التنمية التي ستحدث تغييرات دائمة في حياتها.
إنّ مقاربة من هذا النوع تضع الكائن البشري في مركز الاهتمام قائداً للمشروع وموضوعاً له، بحيث يحضر في جميع مراحل تدبير مشاريع وبرامج التنمية، من التشخيص والتحليل إلى التخطيط والتنفيذ إلى التتبع والتقويم. كما أنّ هذه المقاربة، التي تبنتها مجمل المنظمات الدولية الناشطة في المجال التنموي، تسمح بتقليص مساحات الإقصاء الاجتماعي من خلال الأخذ بعين الاعتبار حاجيات وتطلعات الجماعات الأكثر هشاشة، من قبيل المرأة وذوي الاحتياجات الخاصة والطبقات الفقيرة.
إنّ نجاح الخطط التنموية المغاربية ومواجهة تحديات العولمة واقتناص فرصها، يتطلبان توفير شروط كثيرة، تأتي في مقدمتها توفير مؤسسات ديمقراطية تمكّن المواطنين المغاربيين من المشاركة في صياغة مستقبل أوطانهم والمفاضلة، بحرية ووعي واستقلالية، بين الخيارات التنموية المتاحة وطرق ووسائل بلوغها، وبالتالي إجراء مفاضلة صحيحة بين الأعباء والمردودية المتوقعة لكل من هذه الخيارات.
لا حلول سحرية، ولا بدائل معلبة، لكن الانطلاق الحقيقي والشجاع في هذه المواجهة العصيبة، يبدأ بإقامة نظام تعددي ديمقراطي سليم، يؤسس لدولة الحق والقانون، ويضعها تحت الرقابة والمحاسبة والمساءلة، ويقر استقلال القضاء وتداول السلطة واحترام الآراء المتعددة والمختلفة، ويطلق حرية الصحافة والرأي والتعبير. إنّ هذا النظام الديمقراطي وحده قادر على طرح رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية وطنية، تعتمد التنمية الشاملة بمشاركة القطاع الخاص، وإعادة تأهيل القوة البشرية، مع تحديث المنظومة الثلاثية المعروفة، وهي التعليم والثقافة والإعلام.
وفي سياق كل ذلك فإنّ الاعتماد على الذات مغاربياً يحتاج إلى حرية انتقال عوامل الإنتاج المغاربية من رؤوس أموال وقوى عاملة ومنتجات، كما يحتاج إلى ترشيد العلاقات الاقتصادية مع العالم الخارجي ووضعها على أسس متكافئة، بحيث يمكن تحقيق مزايا جماعية.
وهكذا، فإنّ التنسيق والتكامل المغاربيين يمكن أن يخلقا إمكانية تنمية حقيقية تلبي الحاجات الأساسية للشعوب المغاربية، وتضمن استقلال الإرادة المغاربية. إذ أنهما ينطويان: أولاً، على إمكانية تطبيق مبدأ الميزة النسبية بالنسبة إلى إنتاج كل من الأقطار المغاربية، وما يترتب على ذلك من زيادة في الكفاءة الإنتاجية، وذلك بأن يتخصص كل قطر في إنتاج السلع التي يتمتع فيها بالكفاءة الإنتاجية. وثانياً، زيادة فرص التوظيف الكامل، فبعض البلدان المغاربية تعاني من انتشار البطالة، بينما يعاني بعضها الآخر من نقص الأيدي العاملة. وثالثاً، تقليل المخاطر الناجمة عن التنافس في التجارة الخارجية بين الأقطار المغاربية ذات الإنتاجية المتشابهة، وما يستتبع ذلك من زيادة في قدرة هذه البلدان على المساومة للحصول على أسعار أفضل وشروط أفضل في تسويق حاصلاتها.
ولعل أبرز المهمات العاجلة للبدء بالاصلاح الشامل: احترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان المغاربي، باعتباره حجر الزاوية في بناء الحكم الصالح والقادر على إنجاز التنمية المستدامة، وتمكين المرأة المغاربية من بناء قدراتها الذاتية والمشاركة على قدم المساواة مع الرجل في جميع مجالات العلم والعمل والإبداع، واكتساب المعرفة وتوظيف القدرات البشرية المغاربية بكفاءة في النشاطات الاجتماعية لتحقيق الرفاه الإنساني في المغرب الكبير.
خاتمة
التنمية والحكم الصالح يمكنهما السير معاً إذا توفرت إرادة سياسية، وتشريعات ضامنة ومؤسسات وقضاء مستقل، ومساءلة وشفافية، وتداول سلمي للسلطة، ومجتمع مدني ناشط، ورقابة شعبية وإعلام حر. ولهذا فإنّ التعاطي المجدي مع الإشكاليات والتحديات إنما يستهدف اختيار السبل الصحيحة والمناسبة لإحداث التنمية الإنسانية المنشودة والشاملة، في ظل حكم صالح/راشد ورقابة فعالة للمجتمع المدني.

تونس في 7/4/2016 الدكتور عبدالله تركماني
باحث استشاري في الشؤون الاستراتيجية
(*) – مقاربة قُدمت بدعوة كريمة من الهيئة المديرة لـ " رابطة تونس للثقافة والتعدد " يوم الجمعة 8 أبريل/نيسان 2016.