الكمبيوتر -بَوَظ الصنعة-


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5124 - 2016 / 4 / 5 - 17:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

شهدت المحروسة فى الآونة الأخيرة واقعتان تستحقان منا نظرة فاحصة علنا نستخلص منهما ما يفيدنا في تحسين أوضاعنا الراهنة. الواقعة الاولى كانت عن شبح البطالة الذي يهدد "أويمجية" دمياط، هذه المدينة الساحلية التي تشتهر بصناعة الاثاث ...! والأويمجية هم الحرفيون المتخصصون في الحفر علي الخشب بطريقة يدوية تستخدم 32 نوعا من الأزاميل وتكون نتيجتها وحدات زخرفية، يطلق عليها اسم "الأويما"، تزين الأثاث الدمياطي وتميزه في دنيا الأثُث. وهو الوضع الذي نشأ عن استخدام ماكينات الاويما الحديثة صينية الصنع ورخيصة الثمن والتي تستخدم الكمييوتر ليس فقط في تصميم الوحدات الزخرفية وحفظها بل أيضا في تنفيذها على خشب الأثاث. ويؤدي تشغيل ماكينه واحده من هذه الماكينات الي الاستغناء عن حوالي 50 عامل. وهو الوضع الذي يصفه أحد أصحاب ورش "الأويما" الدمايطة بقوله "الكمبيوتر بوظ الصنعة ... والصيني بيكمل عليها".

أما الواقعة الثانية فكانت تلك الوقفات الاحتجاحية التي نظمها مالكوا وسائقوا التاكسي الأبيض (*) في العديد من ميادين القاهرة. وكانت هذه الوقفات اعتراضاً على قيام شركتي "س" و"ص"، اللتان تقدمان خدمات نقل الركاب، بالعمل في في شوارع المدينة. وتقدم الشركتان لزبائنهما خدمة غير مسبوقة تقوم على دمج تكنولوجيا الهواتف المحمولة الذكية مع تكنولوجيات اخرى. فبداية وبمجرد ان يستخدم طالب الخدمة تليفونه الذكي في ادخال البيانات المتعلقة بالوجهة التي يقصدها يتم تحديد موقعه هو واقرب سيارة متاحة بالقرب منه ويتم توجيه سائقها الى موقع الطالب. ويمكن للراكب متابعة مسار رحلته على شاشة تليفونه. وفي نهاية الرحلة يقوم الراكب بدفع تكلفة الرحلة باستخدام بطاقات الإتمان.

وعلى الرغم من التباين الظاهري بين الواقعتين الا ان كليهما يعتبر مثالا جيد لما يعرف بظاهرة "التلكؤ التكنولوجي" Technological Lag. وتحدث هذه الظاهرة عند ادخال تكنولوجيا حديثة في بيئة غير مهيئة لاستيعابها فيكون مصيرها اما استخدامها بطريقة غير كفئة او محاربتها من قبل المتضررين. ويعتبر "التلكؤ التكنولوجي" حالة خاصة من حالات "التلكؤ الثقافي" الذي يحدث عندما لا تتغير القيم التي يتبناها افراد مجتمع ما بنفس سرعة مستجدات الواقع المتمثلة تكنولوجياته وابتكاراته. فعلى سبيل المثال يتطلب الإسهام المثمر في منظومة الإنتاج العالمي، بكل ما تتضمنه من تكنولوجيات حديثة وابتكارات ادارية و تنظيمية، يتطلب ليس فقط الالمام بالتكنولوجيا المستخدمة بل أيضا بتبني مجموعة من القيم الداعمة. ومن ابرز امثلة هذه القيم "الدقة في تحديد المفاهيم"، "التركيز على المهمة قيد التنفيذ" و"الاحترام الصارم لتوقيتات تنفيذ المهام" و"الالتزام الدقيق بالخطط الموضوعة"، و"الاهتمام الفائق بدقة وجودة المنتج أو الخدمة". وهي القيم التي قد لا تحتل مركز الصدارة في الثقافة السائدة للمجتمع المتلقي. وهنا يبرز التناقض بين ماينبغى على المجتمع تبنيه من سلوكيات أو قيم جديدة وتلك السلوكيات والقيم والمعتقدات السائدة في المجتمع فتتجلى أعراض ظاهرة "التلكؤ التكنولوجي".

وفي الحالة الأولى وبينما يظل الأويمجية متمسكين بأساليبهم اليدوية وأزاميلهم الخشبية والحديدية، يستخدم الآخرون منظومات الـ "كاد/كام" (او منظومات التصميم والتصنيع بمساعدة الكمبيوتر Computer-Aided Design, Computer-Aided Manufacturing, CAD/CAM ). وهي برمجيات تساعد المبدعين في كافة المجالات ليس فقط اثناء عملية ابتكارهم لمنتج جديد بل ايضا اثناء عمليه تصنيعه.

أما في الحالة الثانية فإن سائقوا التاكسي الأبيض يلتقطون زبائنهم، في الغالب، بطريقة عشوائية اثناء تجوالهم غير المخطط في شوارع القاهرة. واستجلاب الزبائن بهذا الأسلوب يعني ان منظومة التاكسي الأبيض منظومة "غير كفئة" لا تستخدم الموارد المتوفرة (الوقود على سبيل المثال) بالشكل الأمثل. هذا بالاضافة الى تعمد بعض سائقوا التاكسي الابيض اختيار مسارات أطول بين مكان التقاط العميل والمكان الذي يقصده بهدف زيادة اجرة الإنتقال وبالطبع لا يملك الراكب وسيلة تمكنه من تصحيح المسار. وفي المقابل تستخدم شركتي "س" و"ص" حزمة من التكنولوجيات الحديثة التي تمكنهما من الاستخدام الأمثل للموارد المتوفرة والمتمثلة في السيارات المتاحة. ويأتي على قمة هذه التكنولوجيات كلا من "نظام تحديد المواقع العالمي" Global Positioning System (GPS) و"خرائط جوجل". و "نظام تحديد المواقع العالمي" هو النظام الذي يستخدم الأقمار الصناعية في تحديد أي جسم ثابت او متحرك على سطح الكرة الأرضية. اما "خرائط جوجل" فهي تطبيق مجاني تقدمة شركة جوجل ويتيح لمستخدمه الاطلاع على خرائط مفصلة لأي مكان على سطح الكرة الارضية. وهكذا يمكن بإستخدام هذين التطبيقين معا تحديد مكان طالب الخدمة والعربات التابعة للشركة الموجودة بالقرب من هذا المكان وتوجيه احدها اليه. وهو الامر الذي يعني رفع كفاءة منظومة النقل الخاص بالمقارنة مع منظومة التاكسي الأبيض.

ان شكوى اويمجية دمياط والوقفات الاحتجاجية لمالكوا وسائقوا التاكسي الأبيض ليستا الا امثلة للاشكال الهينة التي يتبناها المتضررين لمقاومة التغيير الذي تفرضه التكنولوجيا بإيقاعات تغيرها المتسلرع وغير المسبوق. انها "المقاومة السلبية" التي لا تتطلب جهدا ملموس فهي البديل المريح لـ "الاستيعاب الخلاق" الذي يستوعب المستجدات التكنولوجية ويوظفها لصالح العام. الا ان اخطر هذه الاشكال هي ما نشهده اليوم عمليات إرهابية لاقوام تجمدت ثقافتهم في ثلاجة الماضي واستعصت على التغيير، وبدلا من العمل على تغييرها لتتواءم مع مستجدات الواقع رايناهم يعملون جاهدين لتدمير الواقع حتي يتلاءم مع مجمداتهم الثقافية.


(*) التاكسي الابيض هو مشروع تتبناه الحكومة المصرية ويهدف الى احلال سيارات الأجرة المتهالكة في مدينة القاهرة بسيارات حديثة.