كلمة - الرُبع- العربية الأكثر تداولاً في زمن العولمة


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 5121 - 2016 / 4 / 2 - 11:21
المحور: الادب والفن     

"لكنها تدور رغم أنف ملوك الطوائف... "

كلمة " الرُبع" العربية الأكثر تداولاً في زمن العولمة

د.خالد سالم
انتزاع الحق يحتاج إلى حصافة وصبر، ويقال في بر مصر إن أخذ الحق شطارة، صنعة، بينما يقول محي الدين بن عربي في هذا السياق: ::"ولا دواءَ إذا ما استحكم الداءُ/ للحقِّ فينا تصاريفٌ وأشياءُ".
لكن إذا طرق الحق باب صاحبه فحري به أن يفتحه له على مصراعيه. أعني هناك ما أسديناه إلى الحضارة الإنسانية في لحظة تاريخية، لحظة انفتاحنا على الآخر بعيدًا عن الفيافي العربية والتشبث بعقليتنا الرملية، غير الثابتة وغير القادرة على التواؤم والتصالح مع الكون. فما نعرفه عن ما أسديناه إلى البشرية في شرقي آسيا والأندلس ومعها صقلية يشبه رأس جبل الثلج.
فرغم حالة التردي التي نعيشها منذ ثمانية قرون، مع سقوط بغداد وغرناطة لاحقًا، سبق أن رفدنا الإنسانية سواء في فنون العمارة وعلوم الطب والصيدلة والفلك. وعلى من يُؤْثر العيش حبيس عقدة الإستلاب أمام الغرب أن يلقي نظرة على ما تركنا من شواهد تدعم الفكرة خارج سياق الوطن العربي المعاصر والقديم دون تفرقة بين ملله ونحله عندما كان الخلفاء يستوزرون اليهود والمسيحيين ويحكم مصر ومعها الشام والحجاز واليمن، صلاح الدين الأيوبي، الكردي.
من مفارقاتنا المضحكة المبكية أن كلمة قهوة بأشكالها الغربية ودلالاتها الأصلية، بعيدًا عن دلالة الخمر، إحدى دلالات اللفظ، مأخوذة عن العربية، وأجود أنواع القهوة تحتفظ في الغرب بأصلها الذي يعود إلى ميناء المُخاء في اليمن السعيد الذي يخفف إلى مُخا، ، Mocha, Moca, Mocacino ، ومع ذلك فإننا مع انتشار آفة مدارس اللغات بدءًا من ثمانينات القرن العشرين، أصبحنا نطلق على مقاهي أولاد الطبقة الوسطى كافيهات، ومفردها كافيه. إنه الإستلاب المتناهي والتسكع الحضاري، فبدلا من أن نعتز بلغتنا استوردنا بضاعتنا وشوهناها تماشيًا مع انبطاحنا وعقدنا أمام الغرب ّالكافرّ الذي يحلم الجميع بالعيش في كنف حضارته ونجني ثمارها من الرفاه والحرية.
بيد أن الأثر الحي القائم يعود إلى الرياضيات، الجبر والحساب، بدءًا باللوغاريتمات والعلامة ذات الأصل العربي. وهنا أحيل إلى علامتين، لهما وقع السحر في تطور رياضيات الماضي والحاضر وعولمة اليوم، تشكلان عمدين من أعمدة التقدم الإنساني، أعني هنا الصفر وعلامة المضمار @، الآت بالانجليزية أو الأرَّوبة بالإسبانية، ودونهما لما كُتب للعالم ما هو عليه الآن من تقدم.
في هذا السياق أتوقف أمام رمز الشبكة المعلوماتية الأشهر @ ذي الأصل العربي، إذ يعود إلى وحدة الكتلة العربية القديمة "الربع"، التي تحيل إليها أغنية عبد العزيز محمود "حب العزيز، الربع بقرش"، لأبناء جيلي والأجيال السابقة عليه مباشرة. ولا يزال هذا المكيال يُستخدم في مواسم حصاد القمح والبقول في صعيد مصر.
ويحتفظ هذا الرمز الطباعي بأصله العربي في الإسبانية بعد تطويعه تماشيًا مع صوتياتها فأصبح يُكتب arroba ويُلفظ "أرُّبا" ويستخدم في شبكة المعلومات، من بريد إلكتروني وتدوين مصغر إلى إنستغرام. كما أنه يدخل في تعابير لغوية في اللغة الإسبانية وعند الإشارة إلى الجنسين في نهاية كلمات يُعين فيها المذكر والمؤنث بحرفي "A " و"O "، مثل amig@s.
يعود الأصل العربي، في الدلالة والكيل، إلى الأندلس، إذ استخدمه تاجر إيطالي يُدعى فرانشيسكو لابيون كان يعيش في إشبيلية في مطلع القرن السادس عشر، واستخدمه في رسالة تُعد أقدم وثيقة تصور هذا الرمز بشكله الحالي.
كان هذا الأمر موضع نقاش مع زميل مستعربً في جامعة إسبانية، وفي هذا الصدد ستكون لي وقفة في مقال آخر حول حال الدراسات الإسبانية في جامعاتنا وحال الاستعراب في الجامعات الإسبانية. وشتان بين المجالين، ومن يرد التعرف على وضعنا المزري فليطلع على ما ينشره المستعربون الإسبان وما ننشره نحن المشتغلين بالدراسات الإسبانية من دراسات وبحوث وترجمات. أما الولوج في أحاديثهم البينية فيكتشف الغواص أن كل واحد يعتقد أنه ملك ملوك هذا الحقل أو طه حسين أو رشاد رشدي اختصاصهم.
ما بين توبيخ وسخرية يشوبهما حب لنا استعرض معي هذا الصديق الإسباني اهانة أبناء يعرُب لأنفسنا وللغة الضاد على صفحات التواصل الاجتماعي. سألني: كم عربيًا يعرف أن هذا الرمز الطباعي، المعلوماتي، ذو أصل عربي؟ إنه يمثل أكثر الكلمات استخدامًا اليوم في العالم، في دنيا العولمة، صنيعة الرأسمالية. كلام صديقي الذي اعتلته مسحة من السخرية، سخرية ذكرني بتلك التي رأيتها في عين موظف عام جمعنا نقاش حول عدم مناسبة لحظة إعتراف إسبانيا بإسرائيل في منتصف الثمانينات. فرد عليّ بالأسلوب المشوب بالتهكم نفسه: ألم تعترف دول عربية أخرى بهذا "الكيان"؟!
هناك محطات مدهشة في حياة كل إنسان، حسب اهتماماته وتوجهاته وقناعاته، فمن يضع هموه القومية في مستوى همومه الوطنية تصبح معاناته مضاعفة. وفي هذا السياق أتذكر أنني عندما وصلت إلى مدريد للدراسة كنت مثقلاً يوميًا بمقارناتي الوطنية والقومية بيننا وبين الإسبان. لم يكن هناك ما يسر على المستويين، إذا كانت مصر تتلمس طريقها بعد حادث اغتيال السادات، وكانت دماء حرب الخليج العربي الأولى تروي الفيافي العراقية وشوارع عاصمة الخلافة، وشارون يصول ويجول في بيروت، بتواطؤ عربي، مرتكبًا مذابح صابرا وشاتيلا. يضاف إلى كل هذا معاناتي الشخصية وصدامي اليومي في أروقة الدراسة والأمكنة العامة بمحنة تخلفنا على المستويين الوطني والقومي.
وذات مساء بينما كنت أتابع جلسات مجلس النواب الإسباني على شاشة المرناة لمعت عيناي وانفرجت أساريري عندما سمعت رئيس الجلسة يشير على النواب بفتح الوثيقة التي يناقشون محتواها في الصفحة كذا، بالأرقام الرومانية، والفقرة كذا بالأرقام العربية. فجأة اكتشفت أن الأرقام المستخدمة في الغرب هي العربية، وما نستخدمه هي الأرقام الهندية! وبعدها بقليل كان موضوع الأرقام العربية وأصولها، خاصة الصفر، ضمن درس لتأثير العربية على الإسبانية، وكان أستاذ المادة رفائيل لابيسا Rafael Lapesa العلامة المعروف في اللغويات، وبعدها أعاد علينا الدرس نفسه بشكل موسع وأدق أستاذ، شاب سنتئذ، متخصص في المادة، ماركوس مارين Francisco Marcos Marin. والحقيقة أنهما انبريا في الحديث عما أسديناه لهم لغويًا. استرددت شيئًا من احترامي للذات القومية ومعها الذات الوطنية.
بعيدًا عن الوطنيات الرخيصة والمفاهيم الدينية الرثة التي تخيم على المنطقة، أعترف بأن الحزن يغمر أي إنسان يعي ما نحن نسير إليه، بوعي أو دونه، على خطى ملوك طوائف الأندلس التي تتساوى معها في العدد والانحطاط، اثنتا وعشرون دويلة!
وإذا أنعمنا النظر في وضعنا الردئ اليوم نجد أن حالنا تحولت من أمة تسهم في صنع الحضارة البشرية إلى أخرى كلُّ يهرب من مصيره المحتوم كيوم الحشر. انحسرت المصلحة في الخاص دون النظر إلى العام، وانكببنا على الوطني غير آبهين بالقومي.
لقد أسهمنا في العولمة بأكثر الكلمات استخدامًا اليوم، بينما وصل استلابنا إلى النقيض، إذ أهلنا التراب على ما يعترف به الآخر من منجزاتنا، نجد أننا استعرنا كلمة "شيّر" الانجليزية وأصفناها إلى مفردات العولمة الهادفة إلى طمس ثقافات الدول الثالث واحلالها بالثقافات الرأسمالية. هذه الملحوظة تجعلنا نتساءل: هل أصاب اليباب لغة الضاد وأهلها إلى هذا الحد المهين؟ ألا يوجد في العربية أفعال مثل شارك، نشر، تقاسم... لنستخدمها مثل أصحاب اللغات الأخرى بدلاً من هذا الفعل الإنجليزي سالف الذكر؟ لقد أصبحت مسألة وجاهة بين مستخدمي الشبكة العنبكوتية.
لا يزال خطاب الصديق الإسباني عالقًا في مخيلتي كشريط سينمائي ذي وقع عظيم. واليوم أسأل: هل نجرؤ على انتشال هذا الرمز من عجمته ونعيده إلى العربية؟ سيسخر البعض، وسنواصل على طريق " تعهيير" الشبكة العنكبوتية وتعهيير ذواتنا، بدءًا بضرب هويتنا القومية بخلق لغة جديدة، لغة النت، التي يستخدمها الشباب بأحرف لاتينية ورموز تعزل لغة الضاد وترمي بحبل المشنقة حول رقبتها، جراء التمادي في نظام تعليم فاشل قائم على ما يُطلق عليه مدارس اللغات، فلا أبناؤنا تعلموا لغات ولا هم حافظوا على اللغة الأم. لقد أصبحت شبكة المعلومات كالحجاب والنقاب، نختبئ تحتهما لنرتكب الموبيقات كافة، والأمر نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي حيث أن الظاهر غير الباطن، الهدف.
لا حراك قوميًا ولا وطنيًا لإنقاذ اللغة العربية ومعها الهوية بأغلبيتها وأقلياتها، مع غياب المبادرات الاستراتيجية. اكتفينا بمقولة إنها لغة القرآن ولها رب يحميها وكأن الله ليس لديه سوى رعاية مصالحنا، ونسينا أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة. أصابع الاتهام أخذت في ظل العولمة تشير بقوة إلى النص القرآني، حصن العربية، على أنه يحمل بذور العنف والعنصرية، بينما اكتفى رجال الدين بخطاب مكرور، دون الجرأة على غربلة الفقه وازالة التهمة عن القرآن، فهو نص يحتمل التفسير ليتواءم مع العصر، فالرسول قال "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، أي لكل حادث حديث. وزدنا الطين بلة بمحاكمة من يجرؤ على التفكير بصوت عال في أمور لا تتماشى مع عالمنا، وابتدعنا تهمة ازدراء الأديان، لتحل محل الحسبة التي كممت الكثيرين وحملت آخرين على الهجرة، وعلى رأسهم المفكر نصر حامد أبو زيد.
في هذا الصدد ينبه الدكتور عبد السلام المسدّي من التردي الذي لصق باللغة العربية، ولاحظ أنها تخضع للتفكيك التدريجي، ويخشى من تمازج الفصحى بشظايا اللغات الأجنبية ما يؤدي إلى ظهور عاميات هجينة من اللهجات المحلية وقليل من العربية. وعلى من يستهجن هذا الكلام أو يستثقله أن يبحث في لغة الدردشة العربية في الشبكة العنكبوتية أو ما يُطلق عليه "العربيزي" أو "العربتيني" وسيرى أن هناك لغة مشفرة تستخدم أرقاماً ورموزًا وتكتب بأحرف لاتينية.
الحفاظ على الهوية لا يجب أن ينتظر اندثار ملوك الطوائف، فلا يعنيهم من الأمر سوى سدة الحكم وأرقام حساباتهم وممتلكاتهم. لا يجب أن تنتظر الشعوب ومعها النخب الفكرية حلول الديمقراطية رغم أنف النخب السياسية. وهنا ألجأ مرة أخرى إلى العلامة التونسي الدكتور المسدي إذ يدعو إلى صيانة اللغة العربية، ففي ذلك صيانة للهوية العربية وللأمن القومي ومعه الوطني، فالعرب لن يربحوا رهان التاريخ من خلال اللغات الأجنبية أو من خلال اللهجات العامية، بل سيكون متعذرًا عليهم الانخراط في مجتمع المعرف من خارج دائرة العربية.