الاقتصاد المصري في محنة كبيرة

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 5120 - 2016 / 4 / 1 - 00:25
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في ظل شعار المرحلة الراهنة في تاريخ مصر وهو "إما أن تكون معنا أو أن تكون في السجن" تبدو الأمور عصية على الفهم حيث تنشد الأغلبية السلامة ولا تجرؤ على التساؤل عما يحدث في مصر.

وفي هذا فإن البنوك المركزية في معظم دول العالم تتجنب التلاعب في أسعار عملاتها المحلية أمام عملات الدول الأخرى قدر الاستطاعة وتسعى جاهدة للحفاظ على سعر شبه مستقر لها، ولذلك فإنها تتدخل عند الضرورة بما يعرف بسياسات السوق المفتوحة للحد من ارتفاع العملة المحلية أو انخفاضها بشكل مفاجئ نتيجة أي عوامل خارجية أو داخلية مفاجئة والهدف من هذا هو حماية المستهلكين والمنتجين من التأثيرات السلبية التي تنتج عن عدم استقرار سعر العملة المحلية.

كما أن العملات غير المستقرة والتي تتذبذب اسعارها بشكل مستمر وبمعدلات كبيرة لا تشجع على جذب الاستثمارات الأجنبية طويلة الأجل والتي تتنافس كل دول العالم عليها باعتبارها الرهان الرابح لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية تهدف إلى رفع مستوى المعيشة لأغلبية أفراد المجتمع.

اما الدول التي تتلاعب فيها البنوك المركزية بأسعار صرف عملاتها بشكل مستمر ومتكرر وبنسب عالية مثل البنك المركزي المصري فإنها تؤدي إلى إحجام المستثمرين الجادين عن الاقتراب منها، بل إن هذه السياسات بمثابة دعوة مفتوحة إلى المستثمرين لآجال قصيرة للمضاربة في أسواقها المختلفة للاستفادة من عمليات التقلبات الشديدة للعملة لتحقيق مكاسب سريعة والخروج من السوق في أسرع وقت ممكن.

وعادة ما يتفاخر المسئولون في البنك المركزي بأن سياسة تخفيض العملة أدت ‘إلى زيادة الاستثمارات الأجنبية بمئات الملايين من الدولارات بشكل فوري بينما هم يدركون أنها استثمارات قصيرة الأجل غرضها المضاربة وتحقيق أرباح سريعة بنظام Hit and run”" وهي غير مفيدة لأي اقتصاد.

وفي هذا الصدد ومنذ أيام قليلة لجأ البنك المركزي المصري إلى تخفيض قيمة الجنيه المصري للمرة الثالثة على التوالي في خلال أشهر معدودة ولكن المفاجأة هذه المرة كانت في نسبة التخفيض التي وصلت إلى 15 % دفعة واحدة وهذا شئ غير مسبوق في دول العالم التي تعرف ببنوكها المركزية المستقلة وذات الكفاءة في إدارة السياسة النقدية.
وكما قلنا مراراً في العديد من مقالاتنا السابقة فإن أسرع طريقة لإفقار الطبقة المتوسطة في أي بلد هي تخفيض قيمة عملته المحلية بشكل متواصل، وفي هذا الصدد فإننا نشهد للبنك المركزي المصري بالعمل الدؤوب على إفقار الشعب المصري منذ أيام الدكتور فاروق العقدة محافظ المركزي السابق الذي تسبب في ضياع احتياطي مصر من العملات الأجنبية إبان ثورة 25 يناير 2011 وقد سبق لنا أن كتبنا خطابا مفتوحاً له هنا أيامها عن الخراب الذي لحق بمصر اثناء فترة رئاسته للمركزي. وبالرغم من هذا فقد تم تكريم الرجل بشكل مبالغ فيه عند استقالته وقامت جوقة المنافقين والمنتفعين وغير المتخصصين بالتغني بعبقريته في ادارة السياسة النقدية بالرغم من الفشل الواضح الذي خلفته سياساته والتي لا يتطلب أي نوع من الفراسة لإدراك مصائبها.

إن التخفيض الأخير في قيمة الجنيه يعني ببساطة أن العائد الذي وعد الناس به لدى اكتتابهم في مشروع توسعة قناة السويس الأخير وهو 12% قد أكلته عملية التخفيض الأخيرة.
والحجة التي يسوقها البنك المركزي لكل هذه التخفيضات المتتالية للجنيه المصري هي دائماَ أنها تؤدي إلى زيادة الصادرات المصرية للعالم الخارجي والحد من الواردات ومن ثم معالجة العجز المالي في الميزان التجاري والذي بلغ في الربع الأول من العام الجاري ما بين 8.5 ــ 10 مليار دولار مقابل حوالي 8 مليار دولار في نفس الفترة من العام المنصرم.

والحقيقة أن التخفيضات المتتالية في الجنيه طوال السنوات الماضية لم تفلح كثيراَ في تحقيق الهدفين السابقين حيث أن الصادرات المصرية تعتمد في مجملها على نسبة عالية من المكونات الأجنبية المستوردة مثل الآلات والمعدات والمواد الخام، وأسعار هذه المكونات ترتفع على الفور بمجرد تخفيض قيمة الجنيه ومن ثم لم تستفد الصادرات المصرية كثيرا طوال السنوات الماضية من هذا الاجراء.

أما بالنسبة للواردات المصرية فإنها لا تتسم بمرونة كبيرة كما نقول في الاقتصاد لأن معظمها سلع رأسمالية كالآلات والمعدات والتقنيات والخامات الضرورية للقطاع الصناعي كما أسلفنا، وتخفيض هذه النوعية من الواردات يؤثر بشكل سلبي على الهيكل الإنتاجي للاقتصاد المصري. وفي هذا الصدد ورد في آخر نشرة اقتصادية لمجلة الإكونومست الانجليزية أن الإنتاج الصناعي المصري انخفض بنسبة 10.6 % في خلال الأشهر القليلة الماضية بعد التخفيضين الأول والثاني للجنيه وهو ما يرجح صحة تحليلنا. وكل ما نرجوه هو ألا يؤدي التخفيض الأخير الى المزيد من الانخفاض في الانتاج الصناعي.

والسياسة الأفضل في رأينا لتشجيع الصادرات هي تحسين نوعيتها والسعي لفتح أسواق جديدة لها من خلال الاتفاقيات التجارية الدولية والثنائية والدعاية لها بشكل عصري.

الآن، وبالإضافة الى السياسة العشوائية لتخفيض الجنيه المصري فإن هناك سياسة أخرى أكثر خطورة تتبعها الحكومة والبنك المركزي في صمت وهي سياسة التمويل بالعجز والتي تتمثل في قيام الحكومة بالاستدانة من الجهاز المصرفي والأفراد من خلال طرح أذون الخزانة العامة والسندات الحكومية للاكتتاب وطبع النقود لسداد العائد عليها ومقابلة التزامات الحكومة الأخرى.

وللعلم فإن هذه السياسة لا تمثل أي مشكلة إذا ما كانت النقود المطبوعة أو أدوات الدين توجه إلى مشروعات انتاجية وتنموية، أما اذا كان الهدف منها هو زيادة رواتب فئات بعينها في المجتمع دون الأخرى وسداد الفوائد على ديون حكومية قائمة ودفع العائد على سندات لمشروعات تم تنفيذها بالفعل وكان المفترض فيها أن تبدأ في تحمل أعباء الديون التي انفقت عليها. وكذلك إذا ما وجهت هذه النقود الجديدة لشراء العملات الأجنبية من السوق المحلي لتمويل صفقات أسلحة جديدة وخلافه، فإن سياسة التمويل بالعجز عندئذ تكون ذات آثار كارثية على أي اقتصاد حتى ولو كان اقتصادا متقدما فما بالك بالحال عندما تطبق سياسة الإصدار النقدي الجديد (طبع النقود) بشكل عشوائي ودون أي قيود فنية في دولة مثل مصر تعاني الأغلبية فيها من انخفاض القوة الشرائية للعملة المحلية.

ونتيجة لهذا التخبط والسياسات العشوائية أصبحت مصر بلا احتياطي نقدي حقيقي يتناسب مع حجمها واحتياجاتها في ظل أوضاع اقتصادية دولية صعبة بالإضافة إلى خروج معدلات التضخم عن السيطرة حتى أصبحنا أمام حالة من التضخم الجامح الذي يصعب السيطرة على آثارها السيئة على الملايين من الفقراء من أصحاب الدخول الثابتة.

بالإضافة إلى ما سبق فإن الأجواء السياسية المحتقنة في مصر وسياسة إما أن تكون معي أو أن تكون في السجن التي يتبعها الرئيس السيسي وقناعاته من خلال سيطرته التامة على كل السلطات الأخرى بأنه قادر على قيادة مصر وحل مشاكلها بمفرده دون أي مشورة من أطياف المجتمع المدني في مصر.
كل هذه العوامل لا تعطي أي اشارات مطمئنة أو مشجعة لرأسمال الأجنبي الذي باتت مصر بحاجة ماسة له من أجل النهوض من كبوتها الحالية.

ولزيادة الأمور تعقيدا قام الرئيس منذ عدة أيام بإقالة المستشار هشام جنينة من منصبه كرئيس لأعلى جهة رقابية في الدولة لسبب غريب وهو قيام الأخير بالمبالغة في كشف الفساد الذي يمرح في جميع أجهزة الدولة بشكل فاق كل حدود الحياء. وبهذا القرار قام الرئيس بتعطيل واحدة من أهم وظائف الدولة الحديثة وهي الرقابة ومحاربة الفساد. والرئيس بهذا يعطي رسالة ضمنية لمن سيخلف المستشار جنينة بأن يكون لينا ومرنا مع ما سيراه من فساد!

إن تركيز الرئيس على بعض المشروعات المسماة بالكبرى والتسليح على حساب قطاعات اخرى أهم بكثير مثل التعليم والصحة والبنية التحتية والبيئة أدت الى تردي الأوضاع الاقتصادية في مصر ومعاناة الملايين من محدودي ومتوسطي الدخل.
كما أن اقحام القوات المسلحة في كل المجالات الاقتصادية والإنتاجية والإنشائية من شأنه تشتيت انتباه قيادات الجيش عن مهامها الأصلية والدخول في منافسة غير عادلة مع القطاع الخاص وهو ما يؤدي الى سوء إدارة موارد الدولة المحدودة أصلاَ.
ولعلى أضرب مثلاَ صغيراَ من خلال ما سمعته من الرئيس نفسه حين ذكر أن القوات المسلحة تقوم ببناء وحدات سكنية للشباب وأنا أقول له ياسيدي أرجوك أن تتفضل بزيارة هذه الوحدات بعد تسليمها لهؤلاء الشباب بعدة أشهر حتى ترى بنفسك نشع المياه على جوانبها وكيف يقوم هؤلاء الشباب بإعادة بنائها من جديد من الداخل نتيجة سوء التنفيذ في كل شئ من سباكة وكهرباء وبياض وهذا يعني هدراَ للموارد دون داعي. والسؤال لماذا لا تترك هذه المشاريع للقطاع الخاص القادر على تنفيذها بشكل أفضل وبيعها للشباب بنفس الأسعار التي يفرضها الجيش.

إن مهمة الدولة الأساسية في أي نظام سياسي هي الحفاظ على الأمن وتهيئة المناخ المناسب للداخل والخارج للاستثمار في الموارد والطاقات المتاحة لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية مع وضع الضوابط الرقابية المختلفة لضمان حسن التنفيذ ومنع الاستغلال.

والخلاصة أن الاقتصاد المصري في محنة شديدة بسبب تركز كل السلطات في يد الرئيس وسيطرة أجهزته الأمنية على كل مفاصل الدولة المصرية بما فيها البنك المركزي والسياسة النقدية والمالية مما أصابها بالشلل والتخبط. وهذا يثبت قضية فلسفية ذكرناها من قبل وهي أن مخاطر الديكتاتورية أكبر بكثير من مخاطر الديموقراطية.

إن ما نلاحظه هو أن الرئيس لا يثق إلا في العسكريين والأجهزة الأمنية وهو يرى أن كل المعلومات المتاحة أمامه حتى دخل قناة السويس تمثل قضية أمن قومي ولا يصح أن تتاح للمدنيين. والحقيقة أن أحوال مصر لن تنصلح إلا عندما يمنح سيادته بعض الثقة لشعبه وللمدنيين خاصة وأن بمصر مواهب في كل المجالات لا حصر لها كما أنه مطلوب من سيادته أن يوجه بعض الاهتمام لقطاعات هامة جدا مثل التعليم والصحة والمرافق العامة بدلا من التركيز بشدة على الاعلام وبناء عاصمة جديدة للقادرين والمسؤولين وترك القديمة بأحوالها المتردية للفقراء وقليلي الحيلة ناهيك عن الأوضاع المأساوية لقرى الوجهين البحري والقبلي التي كانت أولى بالاهتمام من العاصمة الجديدة.

مطلوب أيضا أن نرسل إشارات إيجابية للعالم الخارجي من خلال وقف العمل بسياسة "إما أن تكون معي أو أن تكون بالسجن" وأن يسمح بقدر معقول بالاختلاف وحرية التعبير وأن نبدأ في بناء دولة القانون والمسألة بدءا بالرئيس نفسه وأن نحرر السلطات المختلفة من قبضة السلطة التنفيذية.
كل هذا من شأنه أن يبعث مصر من جديد وأن يعيد ثقة العالم والسياحة والاستثمارات الأجنبية إليها. أما سياسة رفع الشعارات والعواطف والأمنيات والتخطيط لعام 2030 بدلا من التخطيط للحاضر فإن هذا لن يؤدي
إلا إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية وأخطرها مشكلة انعدام فرص العمل للملايين من شباب مصر العاطلين والصابرين حتى الآن.

يا سيادة الرئيس لا تلتفت إلى إعلام الجدل والتملق والنفاق ودعك من العاصمة الجديدة والسجاد الأحمر وانزل إلى شوارع وقرى ونجوع مصر التي تعاني في صمت وتكاد أن تنفجر.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري