الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 48


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5108 - 2016 / 3 / 19 - 18:07
المحور: الادب والفن     

.
3 – التقييم الجمالي للبطل الثوري

لا تسعى عناصر الأسلوب في الأدب العربي التقليدي إلى شن معركة فنية ومعركة إيديولوجية لصالح التمثيل الفني للواقع بكل تناقضاته، فالبطل لا يقاتل من أجل التقدم، ولا يتحدد باشتراكه في فَلَك فعله، البطل شيء من الأسطورة، يتجاوز الواقع، ويبقى غريبًا عن البشر.
كذلك لا تسمح أشكال التعبير المستعملة، "المتحررة" منها أو البلاغية، بوصف البطل ضمن واقعه، فهو ليس خصائص الوعي الكلي للكاتب جل جلاله، وليس قائمة من الصفات مثلما هو عليه لدى فتحية محمود الباتع: "رأيته مديد القامة، قوي البنيان، يرتدي الكوفية والعقال، في عينه دمعة غضب، وفي جبينه صيحة ثأر وانتقام، وقد أخذ يسرع الخطى، ثم وثب من فوق سور الحديقة في ذلك القصر، وثبة الثور المهاج." (28)
التقنية هنا عالية جدًا، إلا أنها عقيمة، قلا تنقل الكاتبة غير وصف مفصل ذي عناية مطلقة بسمات البطل العضلية، وعلى العكس، البطل عند غسان كنفاني يعي أكثر فأكثر قيمته كإنسان، ولم يعد المجتمع بالنسبة إليه، كما يقول لوكاتش، يمثل "عالمًا منجزًا من أشياء جامدة" (29)، بعبارة أخرى، لم يعد البطل يرى المجتمع من زاوية السكون الزماني والسكون المكاني، ولكن عَبر عملية تأنيس تتطور نشاطاته معها ضد كل أشكال الاستغلال، وعَبر عملية توليد لا يتماثل فيها الكاتب وإياه على الرغم من أنه يعرف كل شيء عنه، فتكون للتقييم الجمالي لهذا البطل مهمة الكشف عن الإنسان الجديد في واقعه المشخص، الفردي والاجتماعي في وقت واحد. كيف ذلك؟
بما أن البطل الثوري يقاتل ضد الظلم، فهو يقاتل في الوقت نفسه ضد الآفات الاجتماعية التي تكبل وسطه، القضاء على الظلم يقابل القضاء على الصعوبات الاجتماعية، وبالتالي هدفه نبيل، لصالح الجميع. هذا لا يعني تحديد البطل بمستواه المرجعي، الثوري، فالتصور الواقعي حسب لوكاتش يرى أن هذا التفاعل بين الثوري وطبقته يسمح "بذوبان الفردي في الجمعي، والخاص في النوعي" (30)، بينما البطل الثوري يبقى كائنًا من صنع الكلمات لا من صنع الثورة، كائنًا ورقيًا، كما يقول رولان بارت، ومن هذه الناحية يجيب على الهدف الذي رسمه الجمال لنفسه، أي حالة محددة لتغيير العالم في الحكاية، قصة أو رواية، ليس بعصا الكاتب السحرية وإنما بمشاركة من البطل/الفاعل، وبتحريك الراوي، فالراوي غير الكاتب، الراوي ابن الحكاية والكاتب ابن الواقع وكلاهما ابن المرحلة، ونحن نستعمل هنا "ثوري" و "تغيير" و "طبقي" اعتمادًا منا على مفردات المرحلة التي كانت تمثلها هذه التعبيرات مع احترام كبير من طرفنا.
شيئًا فشيئًا يصبح البطل الثوري ممثلاً لطبقته الاجتماعية، من خلال إشارات الراوي، هذه الإشارات التي تسمح للتحليل الأعراضي بإقامة العلاقة بين البطل ولغته، وعن طريق هذه اللغة الإشارية نستدل على الفلاح والمثقف والعامل الذين ينتمون إلى طبقة المسحوقين في أعمال كنفاني. بلغتنا اليوم نسمي كل واحد منهم الموديل البِنيوي، وأهميته ليست في شكله وإنما في التحولات التي يقوم بإنجازها، فيجعل من الحكاية، القصة أو الرواية، التعبير عن هذا الإنجاز. هذا لا يمنع من أن ينطبق على الشخصيات "الثورية" قول مؤسس النظرية العلمية: "تثبت نفسها وإرادتها بفضل أحاسيسها والتي هي القوى الأساسية للإنسان." (31) وهذا لا يحول دون أن يعمل كل موديل بِنيوي بشكل مختلف فيما يخص نفس المشكل وحسب الأهمية التي يعطيها كل واحد من الأبطال "الثوريين" تبعًا للفائدة التي تعود عليه، وهكذا نجد أن تحرير التراب الوطني في المنفى يسير معًا وتحرير الذات، كذلك القضاء على التصورات والمفاهيم المتخلفة يعني خطوة نحو التقدم الاجتماعي وفي الوقت ذاته نحو الانتصار الوطني.
في قصة "حامد يكف عن سماع قصص الأعمام"، من مجموعة "عن الرجال والبنادق"، يقول العم للفدائيين:
"- أنا أريد مصلحتكم، وهذه القضابا تحتاج إلى حكمة... أ،تم ما زلتم صغارًا لا تعرفون كيف يجب أن تتصرفوا، ولو كنت مكانكم لمشيت.
- مشيت إلى أين؟
- إلى أي مكان خارج هذا الجحيم.
- هذا موضوع آخر.
- لا، هذا هو الموضوع، وأعتقد أن السيد حامد يوافقني...
- أتعرف؟ إنه الآن لا يسمع ما تقول، ولا يسمع ما يقولون، إنه يسمع فقط لنفسه (كان حامد قد أصيب بالطرش إثر انفجار أثناء إحدى العمليات في الأراضي المحتلة)، ولذلك فمن المستحيل بعد، أن يضيع وقته...
- لا أفهم شيئًا. هل شربتم؟ إن هذا الذي تقولونه حزازير." (32)
يبرز هنا تصوران، يتشبث التصور الأول بمعايير عالم انتهى (التواطؤ البطريركي: مصلحتكم، لا تعرفون، كيف يجب)، ويفيد التصور الثاني (التمرد المتحدي: لا يسمع، يسمع فقط لنفسه، من المستحيل أن يضيع وقته) كوسيلة للولوج في عالم في حركة دائمة. مع ذلك، البطل الثوري عبارة عن نتاج للعالم الأول، تتشكل تصوراته الجديدة ابتداء من الكفاح ضد القديم، ويختلف الإحساس الذي يعمر قلب الفدائي تجاه الاحتلال عن إحساس العم، فهذا الأخير يريد، مهما كلف الثمن، الهرب من "الجحيم"، دون أن يسيطر على سبب خوفه، وعلى العكس، يضع الفدائي الكفاح في مركز اهتماماته، الذي سيصبح مفتاح التحرر القادم، كما نقرأ:
"كان في ذلك المكان المملوء بالذل والخيبة والسقوط مجرد أُذن تستمع وتستمع إلى أطنان من الكلمات والقصص والعويل لم يكن بوسعها أ، تقتل ذبابة واحدة، لم يعد بوسعها أن تطمر حقيقة واحدة... أما الآن، فقد قرر حامد أن يكف عن الاستماع." (33)
هنا يتبنى البطل الثوري أكثر فأكثر، بصفته نقطة اتصال بين عصرين، سلوكًا واعيًا، فهو يملك إحساسًا بالممارسة يكمن في إرادة التغيير: "قرر حامد أن يكف عن الاستماع". مع هذا الشكل من الكفاح، يصبح بطلاً إيجابيًا متعدد الجوانب لا أحادي الجانب جامد، وبالكلام اللغوي يشغل مجازًا عدة شخصيات مختلفة ككل موديل بِنيوي. هذه الخصائص النوعية هي أساس كل جمال جديد، أن يعبر الجمال عن مطامح الناس، ويخلِّف لديهم فهمًا للفن، وَلَذة به، وبجماله. كل هذا جميل يرقى بنا إلى حد الديماغوجية، لأن نظام الإشارات هو كل شيء، وكود الراوي هو مفتاحنا إلى فهم الفن، فكيف نفكه؟ عندئذ، تكون الصدمة، لأن مشاركات البطل/الفاعل في تعددها تصاغ بشكل إنشائي عندما يراد عرضها بأوصاف "ثورية"، وبدلاً من أن تصبح الفلاحة أم سعد موضوعًا فنيًا، إذا بها نظامًا من الشخصيات "المقطعة":
"وقامت، ففاض في الغرفة مناخ من البساطة. بدت الأشياء أكثر ألفة، ورأيت فيها بيوت الغبسية... وأخبرتني: - قلت للمرأة التي جلست إلى جانبي في الباص إن ولدي أضحى مقاتلاً." (34)
لدينا هنا تقاطيع من وجه أم سعد: البساطة، الألفة، الرؤية، القول، وكأن كنفاني يقطعها إياها، يقطع كالإقطاعي، لهذا تبقى القرية في ثوبها مغتصبة (هو يريدها عذراء) والماضي ملطخًا (هو يريده ناصع البياض)، لأن الميكانيكية التي ترمي إلى إزالة لطخات الماضي عن طريق إرسال "ولدي" إلى المقاومة لا تتناسب ومقولة الجمال في "مخطوطات 1844" التي ترى الجمال على أساس أنه القياس الملازم للأشياء، وهذا ما احتفظ به رولان بارت من الماركسية في بنيويته، ونضيف من عندنا القياس الملازم للأشياء تحت شرط الكيفية، هذه الكيفية التي لا نجدها في رواية "أم سعد". وشرط الكيفية يوجد مع جمال الفقير ليس في كفاحه ضد البؤس، ولكن في كيفية كفاحه ضد البؤس، في تناسق هذا الكفاح فنيًا ليكون القياس التاريخي لطريق الإنسان نحو التحرر، فالماضي البائس ليس استعادة مختصرة كما هو عليه في كل ما قيل عنه في الرواية المذكورة (35)، ليس "تزويرًا" للخطاب كعنصر من عناصر الفاعل قبل-الثوري وتطوره بتسلسل غير منطقي. إنه طبقة من الممثلين، وليس ممثلاً واحدًا وأبدًا كما هو الحال مع أم سعد، فالتركيز الفردي عليها كبطل إيجابي يجعل منها بطلاً سَلبيًا.
في "أم سعد" يتجاوز الجمال جمال كنفاني، هناك العديد من الكُتَّاب الذين "لا يرون في البؤس إلا البؤس" (36) وهو لا يرى في البؤس إلا الجانب الثوري فيه (37)، وكأني به يسير في الدرب التوليتاري كما يرسمه عالِم الجمال الروسي عندما يقول: "تصبح مشاعر الآخرين وملذاتهم بالنسبة للإنسان الاشتراكي ملكًا خاصًا به..." (38)
رأينا إذن المراحل التي مر بها البطل عند غسان كنفاني إلى أن أصبح ممثلاً لانحرافه كفاعل ثوري، فعبَّر هذا الانحراف جماليًا عن لطمة على وجه الواقعية "الثورية" في الأدب، وهذه البيّنة حول شكل هذا الجمال الجديد الذي أُدخل في أشكال المنفى القديمة، ستغالط ما يقوله لينين: "إن التاريخ، وقد عجلته الحرب، قد تقدم إلى حد أن الصيغ القديمة قد امتلأت بمضمون جديد." (39)


المراجع
(28) فتحية محمود الباتع: وداع مع الأصيل، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1970، ص 219.
(29) جورج لوكاتش: كتابات من موسكو، منشورات سوسيال، باريس 1974، ص 134.
(30) جورج لوكاتش، المرجع السابق، ص 138.
(31) كارل ماركس: مخطوطات 1844، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 93.
(32) غسان كنفاني: عن الرجال والبنادق، المجلد الثاني، ص ص 760-761.
(33) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 762.
(34) غسان كنفاني: أم سعد، المجلد الأول، ص 264.
(35) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 270.
(36) كارل ماركس: بؤس الفلسفة، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 133.
(37) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 295.
(38) أ. ن. بيزوتيوف: الجمال في تفسيره الماركسي، وزارة الثقافة، دمشق 1968، ص 136.
(39) لينين: مسألة الأرض والنضال في سبيل الحرية، دار التقدم، موسكو 1969، ص 180.



يتبع

4 – بِنية الإخفاق وبِنية النجاح

أ – بِنية الإخفاق: