الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 47


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5107 - 2016 / 3 / 18 - 13:42
المحور: الادب والفن     

2 – التقييم الجمالي للبطل المنفي

لا يسعى البطل المنفي في الأدب الفلسطيني –في مرحلته الأولى- إلى تغيير حاله، فهو يدور في حلقة مفرغة، لا يبقى منه سوى صورة الماضي لتبرير الحاضر، وكما يقول مؤرخ الفن اليوناني نيكوس هاجينيكولاو: " إنه لا يرى بعد الفرق بين المستوى السياسي والمستوى الإيديولوجي، وبمعنى آخر نوعية المستوى الإيديولوجي" (11) إذ يضع في مقدمة اهتماماته تفسير الماضي.
فوق ذلك، هو كائن قابل للعطب، وحيد، أجبر على أن يعيش وضعًا ماديًا جديدًا: المنفى. تتحدد علاقاته بوسطه حسب موازين القوى التي تميل بوضوح إلى صالح العنصر الثاني الذي هو وسطه، ويصعب علينا أن نرى في عالم يكون البطل فيه مقتلعًا كيف باستطاعته التحكم بوضعه، فلن تكون ردود فعله إلا بمقدار ما يؤثر الوسط من نفوذ عليه، وستكون استجابة البطل حسب شعوره بالضعف أو بالقوة، وهذا يفترض أن تطوره مرهون بوسطه.
إذا حاولنا العودة بالبطل إلى المرحلة التي تلت منفاه مباشرة، وجدناه يعيش فترة مضطربة من تاريخه، فالحقيقة المتجسدة بصورة البومة تستعر لدى البطل استعارًا يزيد من حدة الشعور بالذنب عندما يقول: "ها أنذا ألتقي بالبومة الغاضبة بعد غيبة طويلة! وأين؟ في غرفة منعزلة مترامية تتنفس بوحدة مقيتة، بعيدًا عن قريتي التي كانت تعبق برائحة البطولة والموت، وكانت البومة ما تزال ملصوقة على الحائط تحدق فيّ، عَبر زمن متباعد، وينحدر من منقارها المعقوف صرير حاد:
- إيه أيها المسكين... هل تذكرني الآن؟" (12)
يجري التعبير هنا عن مفهومين للزمن: زمن حقيقي تاريخي قائم في الماضي/الحاضر، فالبومة عبارة عن الطبيعة الثابتة التي لا تتغير، امتداد الإطار الطبيعي حيث كان البطل يعيش، غير أن هذا الإطار يصبح في الوقت الحاضر مفجعًا ومنعزلاً: "في غرفة منعزلة". الماضي هو القرية البطلة، وبمعنى آخر، الفلاح الذي قاتل الغاصب، ولكن، الذي كان مجبرًا على ترك أرضه. أما التعبير عن الحاضر، فكان في اسم الظرف "الآن" مشيرًا إلى الزمن النفسي الذي يعيشه البطل، والذي أصبح بالنسبة له الزمن الوحيد الحقيقي. ينصَبُّ هذان العاملان الزمنيان، التاريخي والنفسي، في قالب واحد: هل سيختار البطل الموت (زمن نفسي) أم الكفاح (زمن تاريخي حقيقي)؟
لنؤكد بشكل خاص على حقيقة أن البطل المنفي إنسان بسيط، بأهداف متواضعة، وهو في آن واحد الفلاح، العامل، المعلم، بالإجمال الشعب الفلسطيني بأسره. وحين يستدير كليًا إلى الماضي يتصرف سَلبيًا في الحاضر: "هنا انتهى الزمن... –مثلما يقول الفيلسوف الماركسي الفرنسي أوغست كورنو- كان هو الذي يتحرك أمام لوحة الزمن، أما اللوحة فقد كانت جامدة كجبل من بازلت، لقد انتهى دوره كإنسان ممارِس، وجاء دوره كمتفرج فقط." (13)
ليس من قبيل الصدفة أن تبدو الطبيعة من جديد"لوحة جامدة كجبل من بازلت"، فالجبل هذا عبارة عن تحدٍ جديدٍ للمضمون الاجتماعي، وهو كذلك عقبة كأداء يُخشى أمرها عند كل حرية يتضمنها الفعل الإنساني، وفوق ذلك، وجود الجبل يدعم جمود الزمن. هنا أيضًا لا يوجد انفتاح على المستقبل، فالبطل مأخوذ بين تشابك الماضي/الحاضر ليغدو هذا المتفرج السَّلبي الذي لا يرى فيما بعد كيف يمكنه أن يؤثر في العالم.
ويأسن البطل المنفي لأنه يحس بكونه لا يستطيع التحكم بالأحداث التي تدور من حوله، وحسب أوغست كورنو، "ينظر إلى الموجودات والأشياء في ضوء الأبدية والسكونية..." (14) دون أن يمكنها، أي الأشياء والموجودات، التعرض إلى انقلاب: "ونمتُ في تلك الليلة في زورق جموح يناضل ضد دوامة بلا قرار... وكل شيء في ماضيّ وحاضري ومستقبلي تغلف بميوعة ذات رائحة عفنة، وبدت لي كل القيم التي وضعها الإنسان المغرور لحياته ليست سوى هذيان سكران يريد أن ينسى." (15)
تترجم جيدًا هذه اللوحات لا إنتاجية البطل ولا فعاليته أمام هيجان الوسط: الزورق الجموح الذي لا يحاول البطل كبحه واقتياده، بل ينام تاركه يدور في دوامة بلا قرار. ثم، تلك الاستعارة المعبرة التي تعطي شرحًا لميوعة حياة بطل يذبل ويتعفن بلا أمل. وفي الأخير، التخلي عن القيم التي تعطي للمجتمع الإنساني نظامًا منطقيًا، والتي اتضحت غير حاسمة عندما قورنت بهذيان سكران لا معنى له. فللمخيم، هذا الواقع المر، نفوذه النفسي على المنفي عندما نقرأ: "وكانوا يعودون إذ يهبط الليل إلى خيامهم أو إلى بيوت الطين حيث تتكدس العائلة صامتة طوال الليل إلا من أصوات السعال المخنوقة... وكانت عيونهم جميعهم تنوس... كنوافذ صغيرة لعوالم مجهولة، ملونة بألوان قاتمة." (16)
هذا الوضع الموحي بالاختناق هو من صُنع المخيم، وقبل كل شيء، يعبر المكان حيث يعيش المنفي: الخيام، بيوت الطين، عوالم مجهولة، عن الاقتلاع ووَحدة الإنسان المحروم من كيانه متَجَاهلاً ومجهولاً من الجميع. كما أن المرض المتمثل بالسعال والعيون القاتمة هو أيضًا نتيجة اضطهاد مظلم لا يمكن المنفي أن يعمل ضده طالما أنه يبقى ليس حرًا، فالحرية مثلما يقول عالِم الجمال الروسي بيزوتيوف: "هي الشرط الأهم في الجمال، وهي مصدره وجوهره: جميل حقًا كل ما هو حر، وقبيح كل ما ليس حرًا، كل ما يكون مشوهًا، ممسوخًا، مهانًا." (17)
تجريد البطل من الحرية كنظام حر، والإبقاء على الحرية كنظام منهزم، ليس فيه ما يدفع البطل إلى امتلاك النقائض في غير عالمه، فلا روابط للنسق هناك إلا بين الخيام وبيوت الطين، إنها الروابط الوحيدة المتماثلة فيما بينها.

ماذا سنقرأ في غياب الحرية؟

"أمي تحب الكلاب، لقد تزوجت كلبًا ذات يوم، ثم طلقها لأنه ذهب مع كلبة أخرى. كلهم كانوا كلابًا، كلابًا ذات شعور سوداء، وعيون واسعة، وأنا –أيضًا- كنت كلبًا صغيرًا، قبل أن تنبت لحيتي." (18)
والحال هذه، أليس المخيم موضوع خزي للمنفي؟ هذا الخزي الذي عبرت عنه صورة الدودة:
"كالدودة... يأكل رملاً ويتنفس رملاً ويشرب عصير الرمل... وكان يحس فيما هو يشق طريقه المظلم أقدام الناس فوق رأسه تروح وتجيء..." (19)
الخزي هنا مرادف لوجود فارغ، إن لم يكن صحراويًا، ويصل هذا الخزي أقصاه عند مقارنة المنفي بالدودة التي تسحقها القدم. سبب هذا القبح الذي ما بعده قبح استلاب المضمون الاجتماعي من إنسانيته، هذا الاستلاب الإنساني هو أساس كل الآفات الاجتماعية التي يُخشى أمرها، وهو يزيد من حدة الرتابة لدى المنفي، رتابة خطرة لأن بإمكانها أن تخلق عند المنفي قابلية التكيف السَّلبي مع البؤس، وفي النتيجة غيابًا دائمًا للإرادة:
"كانت حياتي دبقة، فارغة، كمحارة صغيرة: ضياع في الوحدة الثقيلة، وتنازع بطيء مع مستقبل غامض كأول الليل، وروتين عفن، ونضال ممجوج مع الزمن..." (20)
فقط المحارة الفارغة عينية، أما باقي التعابير، فهي مجردة لا تترجم الروتين اليومي فحسب، بل وتزيد من حدته باختيار الصفات: روتين عفن، تنازع بطيء، نضال ممجوج. ومن ناحية أخرى، المنفي ضائع، يشن حربًا عمياء ضد الزمن، وهو فوق ذلك، مقطوع من كل العَلاقات الإنسانية التي بإمكانها أن تخفف من عدم استقراره، إنها بِنية دلالة الحرية كنظام منهزم.
انطلاقًا من هذا، يبحث المنفي عن إيجاد منفذ للتخلص من حالة البؤس كنظام منهزم للحرية بواسطة كثير من المخارج الواهمة، نميز من بينها البحث عن الثروة. لكن البحث الشره عن النقود يفاقم من حالة عدم الاستقرار الدائم بين عَلاقات المنفي بالآخرين حتى فقدان الشخصية عندما نقرأ:
"أقول لك الحقيقية؟ إنني أريد مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود، مزيدًا من النقود، ولقد اكتشفت أن من الصعب تجميع ثروة عن طريق التهذيب." (21)
"جر الجثث واحدة واحدة من أقدامها، وألقاها على رأس الطريق... أخرج النقود من جيوبها، وانتزع ساعة مروان..." (22)
تكرار كلمة النقود في هذين الاستشهادين (أربع مرات) يفسر ما يرمي المنفي إليه، مهما كلف الثمن، من أجل تحسين عيشه. لهذا، حتى أبشع الأفعال (جر الجثث) يمكن تجاوزها بالنقود... "ألا تُحَوِّل النقود كل الضعفاء إلى نقائضهم؟" (23)
بما أن الحرية كنظام منهزم تم استغلالها دلاليًا في الواقع، يتحاشى المنفي بسبب اغترابه الاجتماعي على التحديد أن يواجه هذا الواقع، علمًا بأن لاغترابه أصولاً أخرى ناتجة عن الاضطهاد المكرس ضده من طرف أعدائه، فنقرأ: "لي أم ماتت تحت أنقاض بيت بناه لها أبي في صفد، أبي يقيم في قطر آخر، وليس بوسعي الالتحاق به، ولا رؤيته، ولا زيارته، لي أخ، يا سيدي، يتعلم الذل في مدارس الوكالة، لي أخت تزوجت في قطر ثالث، وليس بوسعها أ، تراني أو ترى والدي، لي أخ آخر، يا سيدي، في مكان ما، لم يتيسر لي أن أهتدي إليه... أنا لست صوتًا انتخابيًا، وأنا لست مواطنًا، بأي شكل من الأشكال، وأنا لست منحدرًا من صلب دولة تسأل بين الفينة والأخرى عن رعاياها، وأنا ممنوع من حق الاحتجاج ومن حق الصراخ..." (24)
يبدو واضحًا أن اغتراب الفلسطيني –نكرر- يكمن في وضعه المادي كمغترب عن أرضه وحقوقه، ليس ذلك الاغتراب الوجودي في النقد السلطوي، ولا يمكن البطل المغترب أن يستعيد قيمه كإنسان حر من أجل ذوبان اجتماعي داخل بِنيان دولة متين الأساس، بل على العكس، إنه موضوع ظلم اجتماعي، لا يستطيع، في هذه الحال، السيطرة عليه، ويحول هذا الظلم بين المنفى وبين التطابق مع موضوعه، أي مع المجتمع، فالمجتمع والمنفى محتويان الأول نموذجي والثاني غير نموذجي، تحت معنى أن المنفى صورة مشوهة للمجتمع، لا يمكنهما والحال هذه أن يرتبا الوضع بينهما (القضاء على ظاهرة الاغتراب) في الواقع وفي الواقع الحكائي.
حسب أرنست فيشر: "لا يمكن القضاء على ظاهرة الاغتراب بضربة واحدة، وبعمل ثوري منفرد، لأن ذلك يتطلب تطورًا طويل الأمد لرفع العالم في كافة المجالات إلى مستوى الإنسان." (25)
ولنؤكد تحديدنا للجمال نقول إن هدفه النهائي هو خدمة مصالح الإنسان، وبصفة خاصة علاقاته بالمجتمع، وعلى الجمال أن يكافح من أجل الحياة وضد الموت، كذلك على الإنسان أن يتخذ موقفًا مضادًا لعالم يسيطر عليه اغتراب لا إنساني. إضافة إلى ذلك، على الجمال الجديد أن يدين تحت أشكال تعبيرية دالة التأسن والسكونية من موقع التغير التاريخي للأشياء، والتي وصلت إلى حد التفاقم الأخير، وكما يقول بريشت: "ما دامت الأحوال قد بلغ بها الأمر حتى هذا الحد فلن تبقى على ما هي عليه طويلاً." (26)
لقد وصل البطل المنفي، على طريق نفيه الأقصى، إلى مرحلة هامة جدًا عندما أصبح واعيًا لاغترابه قبل أن يصبح بالطبع واعيًا لأدواته وإمكانياته. نحن ندعو هذا "بالتصدع" في طبيعته، عندئذ يصبح الشعور بالوعي عنصرًا إيجابيًا، فيتجاوز المنفي المعتقدات الغيبية، وتتساقط العقبات الإيديولوجية قليلاً قليلاً، بينما ينداح ظلام المعركة التي أُجبر المنفي على الدخول فيها –وبقي طرفًا مشلولاً- في البداية:
"لنسخر معًا من ذل هذا العالم المنكفئ على نفسه، العاجز، المكبل، المبصوق على وجهه. أخاطبك (قبر الوالي) وحدي، وجهًا لوجه، من أعماق هذه البرية المتوحشة المهجورة، وأتحداك أن تجترح معجزتك، أن تقول لي بأن كوم الطين القديم يستطيع أن يكون أكثر جدوى من الحياة النابضة داخل صدري... أيها الشيء الخرافي الذي يتدلى من السماء كخطاف!" (27)
بالسخرية، بالتحدي، بالحياة النابضة، سيقود البطل المنفي الدفة بيده، وهو يعرف أن طريق اللا اغتراب طويل، وأن الانتصار لن يتحقق إلا عَبر معركة عينية وممارسة مضنية يومية تؤلفان بين جحافل الناس، وتعملان على خلق فعل ثوري حركي متعدد الحركة. هذا التعدد الحركي سرديًا يقوم على متتاليات (سلسلة من اللقطات تمثل جانبًا من جوانب القصة) لا تنتهي إلا وتبدأ على طريقة الطباق.


المراجع
(11) نيكوس هاجينيكولاو: تاريخ الفن والصراع الطبقي، منشورات ماسبيرو، باريس 1973، ص 78.
(12) غسان كنفاني: موت سرير رقم 12، المجلد الثاني، قصة البومة في غرفة بعيدة، دار الطليعة، بيروت 1973، ص 53.
(13) أوغست كورنو: أصول الفكر الماركسي، دار الآداب، بيروت 1968، ص 42.
(14) أوغست كورنو: المرجع نفسه، ص 42.
(15) غسان كنفاني: المرجع نفسه، قصة في جنازتي، ص 107.
(16) غسان كنفاني، المرجع نفسه، قصة كعك على الرصيف، ص 86.
(17) أ. ن. بيزوتيوف: الجمال في تفسيره الماركسي، وزارة الثقافة، دمشق 1968، ص 147.
(18) غسان كنفاني: المرجع نفسه، قصة الأحمر والأخضر، ص 358.
(19) غسان كنفاني: المرجع نفسه، قصة المجنون، ص 190.
(20) غسان كنفاني: المرجع نفسه، قصة ورقة من غزة، ص 343.
(21) غسان كنفاني: رجال في الشمس، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 114.
(22) غسان كنفاني: المرجع السابق، ص 151.
(23) كارل ماركس: مخطوطات 1844، منشورات سوسيال، باريس 1972، ص 121.
(24) غسان كنفاني: قصة أبعد من الحدود، المجلد الثاني، ص ص 279 280 281.
(25) أرنست فيشر: مشكلة الواقع في الفن الحديث، مجلة الآداب، بيروت 1971، ص 51.
(26) أرنست فيشر: المرجع نفسه، ص 53.
(27) غسان كنفاني: الأعمى والأطرش، المجلد الأول، ص 486.


يتبع 3 – التقييم الجمالي للبطل الثوري