حوار حول الشورى والديمقراطية


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 5090 - 2016 / 3 / 1 - 23:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


أجرى الحوار الأستاذ يوسف هريمة.
1- في سياق كلامه عن الديمقراطية يؤكد روبرت ماكيفر في كتابه تكوين الدولة أن الديمقراطية هي شكل من الأشكال الحكومية التي يتعذر بلوغها بلوغا كاملا. ولذلك يصعب تعريفها وتقييمها تقييما صائبا(ص:219). كيف تقومون هذا الطرح الفكري؟ وهل بالفعل هناك صعوبة كبيرة في تحديد هذا المفهوم؟.
الديمقراطية الآن مصطلح رائج والمصطلحات الرائجة غالبا ما تعاني من الالتباس والغموض ويطغى عليها التمويه وهي تستعمل في معظم الأحيان لصالح ترسيخ سطوة قوى مهيمنة ، مما قد يقود إلى تحقيرها وتتفيهها ، ومن هنا تكرار المحاولات على صعيد الفلسفة بوجه خاص ، الرامية ليس فقط إلى الظفر بتحديد دقيق لهذا المصطلح وإنما أيضا إلى مفهمته .
غير أن الصعوبة رغم ذلك تظل قائمة ، و من ثمة فإنه غالبا ما يتم اللجوء إلى التنسيب ، بما من شانه المساعدة على رسم الحدود والتخوم بين مجالات وسياقات مختلفة تحف باستعماله ، فالديمقراطية ديمقراطيات ، بمعنى أنه يمكننا مثلا الحديث عن الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية البرجوازية و الديمقراطية العمالية والديمقراطية الشعبية الخ ... لأجل ذلك يحيلنا روبرت ماكيفر إلى هذه الصعوبة وإن كان لا يتحدث عن الديمقراطية كمفهوم فلسفي وإنما عنها كشكل من أشكال أنظمة الحكم .

2- الديمقراطية وسيلة أم نتيجة؟، يحلينا السؤال مباشرة إلى فشل هذا المفهوم في سياقنا العربي، وهو ما أشار إليه جورج طرابيشي في كتابه هرطقات. ما هي أسباب هذا الفشل الذريع في مجتمعاتنا العربية الإسلامية؟.
ربما يحسن القول إن الديمقراطية سيرورة تتشابك في اكتناه معانيها مداخل متعددة ، لذلك يمكننا الحديث عنها كوسيلة وكغاية أيضا، وفق السياقات المختلفة التي ألمحت إليها قبل حين ، وهى منظورا إليها باعتبارها نظام حكم سيرورة لا تنتهي عند حد معين فالآفاق التي ترتسم أمامها رحبة حدا ، ولا أرى أن الفشل الذي واجه الديمقراطية عربيا هو فشل المفهوم وإنما فشل أنظمة حكم تختبئ وراء الديمقراطية وتستعملها خلال مراسم احتفالية تنكرية غالبا ، بهدف مخاتلة ضحاياها لتيسير التحكم بهم ، بمعنى أن الأمر يتعلق بزعم لا بوقائع ، فالديمقراطية كنظام حكم لا يمكنها أن تتأسس دون أن تكون ثمرة لثورة في السياسة والاقتصاد والثقافة الخ.. فالعرب ما زالوا لم يظفروا بعد بالدولة الأمة فضلا عن كونهم لم يلجوا بعد الحداثة الفعلية و إغراقهم في الفتنة و الحداثة الهجينة هو في وجه من وجوهه سعى لعرقلة سيرهم في هذا الاتجاه .
وطالما هناك اضطهاد واستـــــعباد واستعمار واستغلال فإن "الديمقراطية "السائدة مخاتلة وليست غير قناع للديكتاتورية كما ذكرت، فالديمقراطية لدى العرب لم تنشأ بعد وعندما تحل تلك المعضلات تكون تلك الديمقراطية قد ولدت .
و من حيث هي مفهوم فإن الديمقراطية تشق طريقها رغم المصاعب إلى أذهان العرب اليوم و يا للمفارقة ، فهم في معمعان المعارك المحتدمة يدركون شيئا فشيئا لا معانيها المحجوبة عنهم فقط وإنما جدواها أيضا باعتبارها أفقا لخروجهم من هوة الفتنة المتدثرة بالطائفة و المذهب و العشيرة ، وما نشهده الآن عربيا من صراعات دامية و يجرى داخل صفوف الشعب نفسه ليس إرهابا كما يروج و إنما فتنة معممة ينخرط فيها الجميع تقريبا بأشكال مختلفة ،وكل حسب طاقته ، وهو يقترب من حالة الحرب الأهلية الشاملة . وفي تاريخ العرب الراهن دروس وعبر تعزز الاتجاه نحو ذلك الأفق ، وغنى عن البيان أن تلك الدروس ممهورة الآن بالدم وأمام العرب الكثير مما يتوجب القيام به للانتقال من الفتنة إلى الثورة التي ستكون الديمقراطية منجزا من منجزاتها وهم غير مجبرين أثناء ذلك على إتباع الديمقراطية في دلالتها الليبرالية بل ربما يحسن بهم القطع معها.

3- يصر الكثير من الإسلاميين على اعتبار أن الديمقراطية هي شكل أصيل من أشكال الحكم في الإسلام، ويشبهونها بنظام الشورى الإسلامي. ما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بين المفهومين؟ وإلى متى سنصر على أسلمة كل شيء بما في ذلك المفاهيم؟.
الديمقراطية مفهوم فلسفي والشورى مصطلح إسلامي، ومن حيث أشكال الحكم هناك اختلاف كبير بين الديمقراطية والشورى فالديمقراطية تحيل على حل معضلات الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، فضلا عن كونها تعنى مشاركة الشعب كله في اتخاذ القرار عبر آليات مختلفة مثل الانتخاب الحر، إذ تُستمد فيها السلطة من الشعب وبالتالي فإنها لا تعترف بمصدر آخر للقرار غير الشعب نفسه ، أي إنها مدنية و بشرية ، لا لاهوتية و ميتافيزيقية ، أما في الشورى فإن القرار السياسي يخضع لحاكمية الله ولسلطة النص الديني ، وما يراه أهل الحل والعقد ،أي الخاصة آو الارستقراطية الدينية التي تزعم أنها تتمتع بالرأي و الخبرة ، وهكذا يُستثنى أغلبية الناس أو من يوصفون بالدهماء والعامة من اتخاذ القرار، ويكمن الخطر كما تفضلت بالتلميح إليه في أسلمة المفاهيم من حهة و ادعاء أن الحلول موجودة كلها في النصوص المقدسة من جهة ثانية ، مما يجعل الأعين متجهة لا إلى المستقبل وإنما إلى الماضي السحيق للبحث فيه عن حلول لمشكلات لم يكن لها وجود خلاله . و من هنا أهمية اشتغال الفلسفة النقدية على نزع الحجب عن الخطابات المخاتلة التي تتوسل المقدس لترسيخ سلطة قهرية يفزعها كسر الأغلال التي تشد المستقبل إلى الماضي لتجعله متماهيا معه ، فما تبتغيه هو إعادة إنتاج الاضطهاد وقطع السبل أمام وعيه ، لما لهذا الوعي من خطورة على صعيد سير جموع المقهورين في دروب الحرية وهذا كله يستدعي الذهاب إلى الشعب و الإصغاء إليه والتعلم منه والحذر من نزعة التعالي عنه و تجريمه في علاقة بموروثه ، دون قدرة على فهم ذلك الموروث و حسن تدبير التعامل معه وتركة ساحة مباحة للعابثين . ومن هنا أيضا أهمية الاشتغال فلسفيا على إشكاليات نابعة من رحم الواقع العربي نفسه والتنبيه إلى مخاطر التضحية بالخصوصية والقفز نحو كوسموبوليتية هي في جوهرها إيديولوجيا ميتة فالعرب لن يتمكنوا من الإسهام في التاريخ العالمي قبل حل تلك المشكلات المخصوصة التي لا تشاركهم فيها أي أمة أخرى ولن ينوبهم أي شعب آخر في اجترح حلول لها .

4- لنعد إلى تجربة الإسلام الأولى، خاصة حادثة السقيفة التي اعتبرها البعض بأنها أول من وطدت للشورى كشكل من أشكال اختيار الخليفة. كيف تقرؤون قول عمر في ما رواه البخاري بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة؟ هل يعني هذا أن الخليفة الأول لم تتوفر في حكمه معايير اختيار الخليفة بواسطة الشورى؟
تقول المصادر الإخبارية الإسلامية أن ما حدث في السقيفة كان جدلا ومفاوضة حول من له أحقية الخلافة وأن الخلاف احتدم بين الأنصار والمهاجرين وأن عليا لم يحضر تلك المفاوضة ووصل الصراع بين الطرفين إلى حافة الانفجار في شكل فتنة وأن عمرا حسم الأمر بمناصرته لآبي بكر وحث الجمع على تعيينه خليفة للمسلمين وأن أصحاب النفوذ من بين الصحابة تبعوه ، بينما هناك قلة عارضته من بينهم أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر والمقداد بن عمرو وأســـــــــــامة بن زيد ، والحديث المنسوب إلى عمر بن الخطاب مختلف في تأويله فهناك من يرى أن فلتة تعنى فجأة وبالتالي فإن الشورى لم يؤخذ بها وهناك من يرى أنها طبقت وأن فلتة تعني انتهاء فترة وبداية أخرى .
و ما يهمنا هنا هو أن المعايير الديمقراطية لم تتوفر في اختيار الخليفة الأول ولا في الخلفاء الذين جاؤوا من بعده ، وهذا يُفهم في صلة بمعنى الشورى ومقتضياتها وقد أكد الغزالي بعد ذلك بسنوات طويلة في معرض دفاعه عن سلطة الخليفة العباسي الذي عاش في كنفه ضد خصومه من الباطنية أن الشورى لا تعنى الذهاب إلى الناس كل الناس واستفتائهم حول من سيتولى أمرهم ، مبررا ذلك بأنه لو حصل خلافه فقد يتطلب الحال وقتا طويلا يكون فيه الأمير المفترض قد توفي قبل أن يبوح ذلك التشاور بسره.

5- الشورى آلية من آليات المشاركة في إنضاج الرأي وصنع القرار على حد قول محمد عماره. وهي تتميز عن آليات المشاركة في النظم الأخرى خاصة الديمقراطية بكونها تنبع من مكانة المسلم الذي يمثل خليفة لله في الأرض. كيف يستقيم التشاور وصنع القرار والحاكم في هذه المنظومة خليفة لله؟. ألا يبدو هذا تناقضا محضا؟.
سبق وقلت أن الديمقراطية ليست آلية فقط من آليات الحكم وهو ما يصح أيضا على الشورى فالأمر يتعلق هنا بنظام حكم يجب النظر فيما إذا كان قد حل معضلات الحرية في أبعادها المتعددة التي ألمحت إليها سابقا أم لا ؟، وهذا هو الجوهري في الديمقراطية ، لذلك ذكرت أن الديمقراطية ترتبط فيها الغاية بالوسيلة ارتباطا ديالكتيكيا على نحو يكون فيه التأثير و التأثر الحي والمتجدد بينهما ، ومن ثمة يمكننا التساؤل عن وضع الحرية في نظام الشورى الإسلامي لنعرف كنهها أي كيف كان مثلا وضع العبد والمرأة والذمي والأسير والأجير وكيف كانت العلاقة بين الحاكم والمحكوم ؟ لذلك فإن هناك مشكلة حقيقية في نظام الشورى فالخليفة يضفي على نفسه شكلا من أشكال القدسية فهو يحكم بأمر الله وهو حارس الدين الخ... وهذا يتناقض مع الديمقراطية وأحيانا فإن الفقهاء في هذا النظام يتحولون هم أنفسهم إلى المالكين الحقيقيين للسلطة فهم حكام على الحكام وعلى الرعية باسم الله، وهو ما نجده في نظام ولاية الفقيه على سبيل الذكر وقد عبر عن ذلك بوضوح آية الله الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية مثلا و كان ابن رشد قد حاول كشف الغطاء عنه قبل ذلك بقرون .

6- في النظم الديمقراطية، سلطة التشريع والمحاسبة تنبع من إرادة الشعب، في حين أن النظام الإسلامي لو افترضنا أن هناك شكل واحد من النظم الإسلامية، الحاكمية فيه للشريعة. كيف تنظرون بصفتكم متتبعين للشأن الثقافي والديني إلى نظرية الحاكمية، خاصة مع المودودي وسيد قطب؟
نظريا الحاكمية لله ولكنها عمليا للحكام من بين البشر فالخليفة يمارس سلطته بتوسل المقدس ومن حوله حاشية تزعم لنفسها تنفيذ ما يأمرها الله به، وتتسلسل المراتب وصولا إلى أبسط الحراس و الموظفين وغيرهم، الذين يتجلببون بدورهم بالدين ، وفي هذا مخاتلة غير خافية ، غير أنها تنطلي على أغلب المؤمنين الذين يسلمون بقدرهم لهؤلاء الحكام ، معتقدين أنهم ظل الله في الأرض وقد يستمر ذلك وقتا طويلا جراء امتلاك الحكام أدوات السيطرة والعنف قبل أن تنفجر تلك المخاتلة فتنكشف حقيقتها أمام أعين المضطهدين فيكون الانتفاض والتمرد والثورة .
و نشأ مصطلح الحاكمية مع المودودى وعنه أخذ سيد قطب وقد ترتب عن ذلك تكفير الناس والدول والمؤسسات المختلفة باعتبارهم لا يحكمون شرع الله، و أُستثمر هذا المصطلح للسيطرة السياسية و يا للمفارقة في العقود الأخيرة رئيسيا لا من قبل الدول بل من قبل أحزاب سياسية دينية في سعيها للإطاحة بها ، فهو نتاج للصراع السياسي ، فكان زعم أصحابه امتلاك الشرعية الدينية وبالتالي أحقيتهم في الحكم ، مما يعنى أن مطلب الحاكمية يوظف في اتجاهات مختلفة والدولة التي استعملت الدين لتبرير سلطتها تكتوي الآن بنار خصم يرفع هو أيضا لواء الدين و يلجأ هؤلاء وأولئك حاليا إلى إغراق الجميع في بحر الفتنة و يدفع المضطهدون قبل غيرهم ثمن ذلك دما ودموعا فهم أبرز ضحايا المجازر المروعة المتنقلة من بلد عربي إلى آخر و من مدينة إلى أخرى .

7ـ يؤكد تاريخ الديمقراطية بأن الانفراد بالسلطة هو المؤشر الوحيد على مدى ديكتاتورية الدولة من عدمها. هل نظرية الخلافة الإسلامية شكل من أشكال الدولة الثيوقراطية الديكتاتورية؟ أم شكل من أشكال الدولة المدنية كما يصر على ذلك بعض الباحثين كسعيد عشماوي الذي اعتبر الدولة في الإسلام دولة مدنية؟.
تتعين السلطة في مجالات مختلفة والمجال السياسي واحد منها،غير أن الديكتاتورية كثيرا ما تختزل في هذا الجانب دون غيره ويتم إغماض العين عن تمظهراتها في المجالات الأخرى ، وبالنسبة إلى الخلافة الإسلامية فإنها تفتقر إلى تحديد مفهومي دقيق ، لذلك نجد اختلافا كبيرا حول ماهيتها، وهناك من ينفى أصلا قول الإسلام بها مثل أحد شيوخ الأزهر المرموقين ونعنى على عبد الرازق و كتابه الإسلام وأصول الحكم ، فالإسلام ينص على طقوس وعبادات وعقائد معلومة وهى موسومة بالثبات والديمومة أما في باب المعاملات فإنه يترك الأمور للبشر لتبدر أمورهم وفق ما يحصل من تطورات تاريخية، وهذا ما أطنب في شرحه محمود محمد طه مثلا ، و عندما يتمسك بعضهم بشكل معين من أشكال الحكم مثل الخلافة الإسلامية فإن الغاية السياسية من وراء ذلك هي الحكم باسم الدين ، أي الثيوقراطية بالزعم أن الخلافة أصل من أصول الإسلام ، وما نلاحظه في السنوات الأخيرة وخاصة على اثر الانتفاضات العربية واستثمار اليمين الديني لها هو محاولة تغطية تلك الثيوقراطية بلحاف المدنية فتم استعمال مصطلح الدولة المدنية لتجنب مصطلح الدولة العلمانية الذي أثارت حوله الجماعات الدينية الكثير من الضجيج والغبار، غير أن المشكلة ستظل قائمة طالما لم يتم الفصل بين السياسة والدين ، و مع احتدام الفتنة ستنبري مرجعيات دينية مطالبة هي نفسها بهذا الحل .
8 ـ يقول بعض المنظرين لفلسفة الشورى في الإسلام بأن الشورى هي شورى الجماعة، في حين أن التاريخ الإسلامي يؤكد بأن من يقوم بهذا الدور هي فئة قليل ممن سموا بأهل الحل والعقد الذين لا يتم اختيارهم من طرف الشعب، بل من طرف الحاكم أو الخليفة. فهل هذا نوع من الحكومات الأوليغارشية، الذي تعتمد على حكم الأقلية؟ وأين يلتقي هذا الأمر مع فلسفة الديمقراطية التي تعتمد على التمثيل النيابي؟.
نعم هناك بون شاسع بين النظرية والتطبيق بخصوص الشورى، هذا إن جاز لنا الحديث عن نظرية فقد سبق وذكرنا أن الأمر يتعلق بآراء متضاربة . والوقائع كما تفضلت بذكره تبين أن من يتشاورون هم قلة يخضعون في اختيارهم إلى رغبة الحاكم نفسه ، ويتعلق الأمر بنمط حكم مركب تختلط فيه الارستقراطية الدينية و الاوليغارشية وطالما أن الأمر على هذا النحو فإن ركنا أساسيا من أركان الديمقراطية غائب ، مما يفرض البحث عن حل للتدبير السياسي داخل الفلسفة و العلوم الإنسانية لا خارجها .