مواطنين لا رعايا


السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن - العدد: 5089 - 2016 / 2 / 29 - 07:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

انشغل الرأي العام المصري في الآونة الأخيرة بحادثة قتل شرطي لمواطن مستخدما في ذلك سلاحه الميري. وعدها الجميع تجاوزا من تجاوزات الشرطة التي لايمكن تجاهلها، ودعوا لسن قوانين رادعة لكل من تسول له نفسه التجاوز في حق المواطنين. الا انهم في غمرة انفعالهم وتأثرهم بالواقعة فاتهم أن جهاز الشرطة الذي يسعون لتقويم سلوكه الذي يتبعه مع عموم المصريين ليس الا احد مكونات منظومة اكبر هي "منظومة البيروقراطية المصرية"، وأن اصلاح الجزء غير ممكن دون اصلاح الكل الذي يحتويه. والفارق الوحيد بين هذا الجهاز وبقية مكونات منظومة البيروقراطية المصرية هو انه الوحيد المصرح له بإستخدام العنف لتحقيق اهدافه.

والبيروقراطية، كما يعرفها لنا علماء الادارة، هى كافة الكيانات الحكومية التي تعمل على تنظيم وادارة الشئون اليومية للمواطنين. فهى الكيانات المسئولة عن تنفيذ سياسات الحكومة فى كافة المجالات وعلى كافة المستويات بدءا من تقديم الخدمات وتحصيل رسومها وانتهاءا بتحصيل الضرائب المستحقة ومرورا بانفاذ القانون وتوفير الأمن. اي انها بإحتصار الأذرع التنفيذية للحكومة المركزية فيما يتعلق بتنفيذ السياسات العامة للدولة.

وتتكون "منظومة البيروقراطية المصرية" المعاصرة (جهاز الخدمة المدنية) من ثلاث مكونات رئيسية هي: الإدارة العامة، وتشمل دواوين الوزارات والجهات والمصالح المركزية الأخرى، ومؤسسات القطاع العام والإدارة المحلية. وهي منظومة بالغة القدم عمرها من عمر الدولة االدولة المصرية وقدرتها على البقاء تتوفق على قدرة اهرامات الجيزة التي تعتبر من انجاراتها. فلقد تعايشت هذه المنظومة مع كل من حكم مصر سواء كان من أبناءها أو من الغرباء. ولقد أثر هذا التاريخ الطويل على الثقافة التى تحكم آداءها. وهو الأداء الذي تصفه العبارة التالية التي وردت في رسالة الدكتوراه المقدمة من الباحثة المصرية ندا أحمد لجامعة سترلنج الاستكلندية: "ومن نتائج الدراسة يتضح ان "منظومة البيروقراطية المصرية" كمقدم للخدمات تتعمد تعذيب طالبوا الخدمة من المواطنين بدلا من ان تقدمها لهم بسهولة. وهو الأمر الذي يسفر عن احساس متلقوا الخدمة بعدم الثقة وعدم احترام تجاه تلك المنظومة" [1].

والنتيجة التي توصلت اليها الباحثة هي نتيجة منطقية للظروف التى صاحبت نشأة منظومة البيروقراطية المصرية المعاصرة على أيدي محمد على في أوائل القرن التاسع عشر. فوظائف الادارة العليا في تلك المنظومة كانت من نصيب الاتراك والجراكسة والارمن والاكراد الذين كانت تحكمهم نظرة استعلاء تجاه مرؤسيهم من المصريين من شاغلي وظائف الكتبة في الدواوين وجباة الأموال بصفة خاصة وعموم المصريين بصفة عام. وهي نظرة غير مستغربة ممن يعتبرون أنفسهم من "رعية" السلطان ومن ثم فهم أيضا عبيده. ولعل ما جاء فى خطاب السلطان العثماني لواليه على مصر محمد على توضح "ثقافة الرعية" التى كانت تحكم سلوكيات قوم هذا الزمان "رأينا بسرور ما عرضتموه من البراهين على خضوعكمـ، وتأكيدات امانتكم، وصدق عبوديتكم، لذاتنا الشاهانية"[2]. ومن غرائب الأمور أن ترث البيروقراطية المصرية "ثقافة الاستعلاء (او ثقافة الرعية)" هذه وتنظر لعموم المصريين بوصفهم "عبيد إحساناتنا" (على رأي الخديوي توفيق في حواره مع احمد عرابي)!

ان القضية أكبر من ان تكون مجرد تجاوزات لأفراد من جهاز الشرطة انها قضية تغيير ثقافة كافة مكونات منظومة البيروقراطية المصرية من "ثقافة الرعية" الى "ثقافة المواطنة". وهو تغيير يتطلب العمل المتزامن على محورين. الاول هو محور من ينظر لهم بوصفهم "الرعية" ويعنى بتحريرهم من الشعور بالعجز وقلة الحيلة وتخليصهم من الانقياد دون تفكير، والانصياع دون مناقشة،، والاتباع دون تروي، والطاعة العمياء لفئة متسلطة أيا كانت اسباب هذا التسلط دينية كانت أو دنيوية. أما المحور الثاني فهو المحور الذي يتعامل مع من يحاول لعب دور "الراعي"، ايا كان موقعه وأيا كان مستواه امين شرطة فى كمين مروري أو مسئول وحدة محلية في قرية نائية أو مسئول رفيع المستوى فى أحد الدواوين. وهم جميعا في حاجة ماسة لإعادة تأهيل يتعرفون فيها على بعدي المواطنة القانوني والسياسي. والبعد الاول هو "المساواة" وهى "وضع قانونى" يتمتع به "المواطن" وتحدده مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية. وتتضمن الحقوق المدنية حرية التعبير عن الرأى، الحق فى المحاكمة العادلة وفى حماية القانون له. أما الحقوق السياسية فتتضمن الحق فى التصويت فى الإنتخابات وتولى المناصب التنفيذية. وتتضمن الحقوق الإجتماعية حقوق الضمان الإجتماعى للإنسان حالة تعرضه لظروف صعبة مثل البطالة أو المرض. وأخيرا تتضمن الحقوق الإقتصادية حقوق التملك والتوظف وممارسة كافة الأنشطة الإقتصادية. أو بعبارة أخرى يعنى هذا الوضع تمتع كافة المواطنين بكافة الحقوق والواجبات ومساواتهم أمام القانون بدون الأخذ بعين الإعتبار الوضع الاجتماعى أو المركز الإقتصادى أو العقيدة السياسية أو العرق أو الدين أو الجنس أو غيرها من الإعتبارات. وبتعلق البعد الثاني للمواطنة بالمنظور السياسي لها وهو "المشاركة". فالمواطن من هذا المنظور هو ناشط سياسى يشارك بفعالية، و أيا كان موقعه، فى صناعة القرارات التى تؤثر فى أحواله كفرد وأحوال وطنه ككل وذلك عبر التنظيمات السياسية بشتى أشكالها.
إن "منظومة البيروقراطية المصرية" بوضعها الحالي تشكل عقبة لأي جهد تنموي يستهدف رفاه المواطنين. لذا يصبح تغيير الثقافة التي تحكم سلوك هذه المنظومة من الضرورات. ولنا في تجربة كوريا الجنوبية أسوة حسنة [3].

المراجع
1. Abdel-Basset, N.A., Developing Commitment towards Change in Bureaucracies: The Case Study of the Egyptian Civil Service Sector, in Stirling Management School Division of Management. 2009, University of Stirling Stirling, Scotland, UK.
2. شلبي, ح.ا., الموظفون في مصر في عصر مجمد علي. 1989, القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
3. فرحات, م.ف., كيف فعلها الجنرال بارك؟. جريدة الاهرام, 2016. السبت 27 فبراير(47199): p. 6.