الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 28


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5088 - 2016 / 2 / 28 - 13:52
المحور: الادب والفن     

5 – أبعاد الموضوعة الأساسية للطريق كعنصر بِنيوي

إن الموضوعة الأساسية لتحليلنا هي إخفاق الحلول الزائفة المتمثلة ب: الهرب من بؤس المنفى، وسنرى أن الصور الفنية كلها ترجع إلى السراب، الأوهام، الأحلام، التي ترافق الطريق، وأن للشخصيات الروائية كلها مطامعها وأوهامها الفردية، فاختيار هذه الشخصية أو تلك لإظهار التركيب الكودي لا يتوقف على البِنية الشكلية –حسب اللساني جريماس- إنه يشكل حقيقة دامغة يكون معناها الخفي كما يكون معناها الجلي لدى جماعة ثقافية معينة.
من الملاحظ أن الفصل السادس، "الشمس والظل"، يعيد من جديد كل ما سبق وقيل عن أحلام كل شخصية، ليحصل الانجلاء لحظات قبل الاختفاء المتمثل بالموت، فالقاموس اللغوي يُستخدم كتركيب مغلق، بينما الكود يُستخدم كتركيب مفتوح. لهذا ارتكزت التقنية الأدبية على تعاقب ماضي كل فرد مع "لايتموتيف" الحاضر، عبرت عنه السيارة التي تواصل عبور الطريق.
إن لتماثل الكود في هدفهم، أن يصنعوا ثروة، دوافع مختلفة تعبر عن عوالم مختلفة: أبو قيس يريد أن يشتري بعض شجيرات زيتون، ويبني حجرة، ويعلم ابنه. أسعد يريد نقودًا ليثأر من عمه الذي يرمي إلى إجباره على الزواج من ابنته. مروان يريد إعانة عائلته. أبو الخيزران لا يبحث إلا عن المزيد من النقود ليرتاح في وقت لاحق.
من الملاحظ أن هذه الدوافع قد تولدت من البؤس، وفوق ذلك تمايزت فيما بينها: من جشع أبي الخيزران الذليل إلى إخلاص مروان النبيل. لكن ليس هذا ما أرمي إليه، ما أرمي إليه انجلاء البؤس بشكل مغاير، ليشكل موديلاً عامًا يؤسس للمقارنة الروائية نفسها، صديقنا جريماس يقول للمقارنة الأسطورية. لهذا ارتبط تحقيق الدوافع ارتباطًا وثيقًا بتحقيق الرحلة، بتحقيق الرواية، فالرحلة هي الرواية، وبناء على ذلك، سنرى على ماذا يقوم الحقل الدلالي للطريق.
لقد كان لعناصر خارجية عديدة فعلها على الطريق: مناخ العراق الحارق، الصحراء وشمسها الرصاصية التي تؤدي إلى الموت. وبالمقابل: شط العرب الذي يرمز إلى الماء، وبالتالي إلى الحياة. المياه والرمال، هذان الحقلان الدلاليان متعارضان، ليتولد من تعارضهما التحدي للطريق كما يشير إليه التعاقب التالي:
"الشمس في وسط السماء ترسم فوق الصحراء قُبة عريضة من لهب أبيض، وشريط الغبار يعكس وهجًا يكاد يعمي العيون، كانوا يقولون لهم إن فلانًا لم يعد من الكويت لأنه مات، قتلته ضربة شمس. كان يغرس معوله في الأرض، سقط فوقه وفوقها، وماذا؟ ضربة شمس قتلته، تريدون أن تدفنوه هنا أم هناك؟ هذا كل شيء، ضربة شمس! هذا صحيح، من الذي سماها ضربة؟ ألم يكن عبقريًا؟ كان هذا الخلاء عملاقًا خفيًا يجلد رؤوسهم بسياط من نار وقار مغلي. أيمكن للشمس أن تقتلهم وتقتل كل الزخم المطوي في صدورهم؟" (ص 131-ص 132)
يرسم هذا الوصف لوحة الرحلة، ونرى أن الدعائم الثلاث بالطبع هي: الشمس، الصحراء، الموت. يكفي الجو الخانق وحده كي يكون أحد العوامل التي أدت إلى النهاية التراجيدية، ففي لحظة ما يصبح هذا الجو هو الكود وهو البناء وهو الموديل السردي وهو الموديل الصِّنافي، فيوضح الرسالة التي يريد النص إيصالها.
إنه عبارة عن تهديد يمكنه تعريض الحالة للخطر، يحلق فوق رؤوس الركاب كالشؤم. وفوق ذلك، إن كل ما كان يقال لهم من حكايات تدور حول هذا الجو الخانق عبارة عن إنذار آخر: قتلته ضربة شمس! كذلك إن فكرة الموت موجودة بحضورها الكلي في هذه الاستعارة عن الصحراء: عملاق خفي يجلد رؤوسهم، الرامزة إلى تحدي الطبيعة الشرسة، الطبيعة التي تلتهم الإنسان بالتدريج، هذا من ناحية، وإلى قلق الركاب المستفحل في وحدتهم مع أنفسهم، من ناحية أخرى.
لكن وجود شط العرب يلطف من جو اللوحة:
"نحن في آب! إذن لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟ إنه الشط! ألست تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك؟" (ص 38) "في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقًا قاسيًا إلى النور..." (ص 37)
الرطوبة، حضور الماء، خفقان الأرض، كل هذا يتعارض مع اللوحة الأولى، إضافة إلى أن الابتهال إلى فلسطين الماضي منذ أن استلقى هناك أول مرة، يوازن "الديكور" الحقيقي، ويخفف من وطأة الجو الحالي. لكن هذا المناخ اصطناعي، ليس له أثر المناخ الحاضر، لأنه مؤقت، بينما ترافق الصحراء القاحلة الركاب على الدوام.
إذا كان هذا هو الجو العام للرحلة، فكيف لا نتوقع تدهورًا تراجيديًا للأحداث؟ ما الذي لم يكن مُرْصيًا منذ بداية الرحيل؟ سبق لنا القول إن الاختيار لم يكن حرًا: لقد دفعت ظروف الوسط الركاب إلى الهرب من شبح البؤس. ولكن إلى أية وسائل كان لجوؤهم لتحقيق هدفهم؟ هنا يكمن المشكل كله: لقد اختاروا تعريض أنفسهم للخطر، بينما كل استعدادات السفر، وكل شروط الصفقة، تُظهر بوضوح أنهم تورطوا في طريق زائف:
"كل تلك الطريق المنسابة في الخلاء كأنها الأبد الأسود، أنسيتها؟" (ص 38)
لنلاحظ أن هذا الاستشهاد ظهر في بداية الرواية: على المستوى البِنيوي، يأخذ الطريق أبعادًا جديدة، فالسارد يطرحه على بساط البحث كرهان حقيقي لدرجة أن قصة الرحلة كلها تصبح معه عبارة عن عِبرة لطريق خادع، وهكذا تذوب أوهام الركاب كلها في سراب طريق يقودهم إلى الإخفاق.

إلى أي حد كان الطريق رمزيًا؟ (51)

لقد أطلق أبو الخيزران، عند نهاية الرواية، صرخة على شكل سؤال، هذا السؤال الأخير هو ما أعطى الرواية كل المغزى الرمزي الذي أراده كنفاني:
"لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟"
فكيف نفسره؟
1 – يجري طرح هذا السؤال على النفس، مما يعبر، بالتالي، عن الإحساس بالخطأ، وبداية الشعور بالوعي.
2 – في السؤال أيضًا محاولة لتبرئة الذات، وإلقاء التَّبِعة على الغير.
3 – يفسر هذا السؤال، من ناحية أخرى، أن أبطال الرواية كانوا سَلبيين فعلاً، وذلك عندما لم يروا كم كان الطريق وهميًا، فلم يكن السبب الأساسي لموتهم هو الاختناق بين جدران الخزان، إذ لم يحصل ذلك إلا بعد فوات الأوان، ولكن لأنهم وقعوا في فخ الثروة السهلة.
4 – يلخص هذا السؤال مفهوم التطبيق العملي، "البراكسس" في الفلسفة الماركسية، محاولات تغيير العالم، وبخاصة وسائل الإنتاج التي تقوم عليها البِنى الاجتماعية، وفي الفلسفة الوجودية، ما به ينكشف الوجود في التاريخ.
5 – يدوم هذا السؤال في أصدائه دوام عدم وجود حل للقضية الفلسطينية، هذا من السهل قوله، لكن من الصعب قوله شيئًا آخر: المعرفة التي يعمل على إبرازها سؤال كهذا في شروط تاريخية معينة –حسب جريماس- ما هي سوى جزئية، فيبدو الوصف الروائي "كبراكسيس" يعمل معًا والرسالة- الحالة وموديلات البناء والكودات، ليصل إلى زيادة فهمنا للرسالة وفهمنا للموديلات التي هي ماثلة فيه.

ختامًا لتحليلنا، نستخلص ميزات الرواية الرئيسية التالية:
1 – تصور هذه الرواية قسوة المنفى تحت كافة أشكاله، وهي تمثل نقدًا ذاتيًا للفلسطينيين يكشف عن عدم القدرة على حل بؤس المنفى.
2 – لا تزود هذه الرواية بعد بحل إيجابي، ولا تخلق بطلاً ثوريًا، ليس لأسباب الشتات الذاتية، ولكن لأسباب موضوعية ترجع إلى عدم كفاية تطور حل تاريخي.
3 – توضح هذه الرواية وهم "الفارويست" الذي كان أصل الانقضاض على الذهب اعتقادًا بأن الثروة توجد بعيدًا في "أرض النعيم". لقد كلف هذا الوهم تاريخيًا حياة آلاف البشر الراحلة صوب كاليفورنيا على العربات، لتكتشف في طريقها كل البؤس (هنود مسافات بعيدة صحراء). كذلك، تتطابق أسطورة الولايات المتحدة الأمريكية، "البلد ذات الفرص اللامحدودة"، على أسطورة الكويت، حيث كل الإمكانيات متوفرة –كما يدَّعون- لصنع ثروة.
4 – من وجهة نظر إيديولوجية، يثبت كنفاني أن هذه الرواية تمثل فهمًا عميقًا لحقيقة المنفى، ومن وجهة نظر بِنيوية، أن هذه الرواية تشير إلى دراية كبيرة بعالم المنفى، بالمبادئ التي ينتظم بها هذا العالم، وبالتعبير عنها تحت شروط تاريخية معينة.
5 – من وجهة نظر نقدية، تذهب هذه الرواية ذهاب الخطة التي اتبعناها في التحليل اعتمادًا منا على نظائرها المختلفة –كما يرى جريماس- باحثين في الوقت نفسه عن الوصول إلى النظير البِنيوي الأوحد للرسالة التي تحملها، وإلى تحديد، بالقدر المستطاع، الإجراءات التي تسمح بذلك.


مراجع
(51) أورد الدكتور إحسان عباس، في مقدمة المجلد الأول من الأعمال الكاملة، أنه قابل غسان كنفاني برأي معارض مفاده أن رجال في الشمس لم تنجح جيدًا في إيصال البعد الرمزي الذي أراده الكاتب، وقد دحض كنفاني اعتراضه مؤكدًا أن روايته قد عبرت على نحو رائع عن كل الرمزية المبتغاة، ولنذكُر أن عباس قد انحاز إلى كنفاني بعد قراءة ثانية للرواية.


يتبع 3 – ما تبقى لكم: مواجهة الحقيقة