الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 25


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5085 - 2016 / 2 / 25 - 12:08
المحور: الادب والفن     

2 – رجال في الشمس: الفهم العميق لحقيقة المنفى

1 – مقدمة حول الرواية وموضوعها

تعتبر رواية "رجال في الشمس" نقطة تقاطع بين سنوات الخمسين وسنوات الستين، نقطة تقاطع بالنسبة إلى حياة الشعب الفلسطيني وإلى تطور غسان كنفاني. لأول مرة يكتب كنفاني رواية، ولأول مرة ينجح في إعطاء صورة للمنفى عارضًا في الوقت نفسه كل بؤس الإنسان المنفي ومحاولاته الواهمة للهرب منه. هذه الرواية في زمنها، بقدر ما هي أمنية غالية من الأماني يتلهف الكُتَّاب إلى تحقيقها هي معرفة عميقة للوصف تسمح بتحديد حدود النص الذي هو بلا حدود، وبقدر ما هي حصيلة قاسية من التجارب تجرد البشر من إنسانيتهم هي معرفة واضحة للنفس تتيح انطلاقًا جديدًا في الحياة.
مع "رجال في الشمس"، لا نزال بعد في الفترة الانتقالية للمنفى الممتدة من "جحيم الحقيقة" إلى "نعيم الوهم"، ويعتبر مضمون هذه الرواية "ثوريًا" بالمعنى التاريخي للكلمة، لأنه يكشف عن الهرب حلاً خاطئًا يؤدي إلى الطريق المسدود، ولأنه يحدد بالنفي إشارة "العودة" بالمعنيين الطوبوغرافي والمجازي.
تناول النقاد هذه الرواية بالتحليل، وأجمعوا على أهميتها وقيمتها. كتب ف. المنصور، الباحث السابق في مركز الأبحاث الفلسطينية، غداة مصرع غسان عام 1972:
"لا شك أن رجال في الشمس هي أفضل ما كتب غسان كنفاني، فهي من ناحية المضمون أول محاولة جدية ناضجة لإبراز مأساة اللاجئين..." (46)
تجد هذه الرواية أصالتها في مضمون واقعي جدًا عرفه معظم الفلسطينيين بكل حقيقته المؤلمة، وكل وجوهه المؤثرة، فأوضح إحسان عباس، أستاذ اللغة العربية السابق في الجامعة الأمريكية، والباحث اليوم في الجامعة الأردنية، أوضح في مقدمة المجلد الأول من آثار غسان كنفاني الكاملة، أثر هذا المضمون الواقعي المباشر على القارئ الفلسطيني، والذي يدفع إلى نسيان البُعدين الرمزي والحِكَمِي للرواية بالنسبة إلى الأهمية المعطاة لمشاكل الشعب الفلسطيني عندما قال:
"وبالجملة، فإنها تشدنا إلى واقعيتها الدقيقة شدًا مأساويًا متوترًا، بحيث ننسى أن نتساءل عن أي مدلول أو عمق رمزي وراء ذلك." (47)
سنعود إلى مسألة البُعد الرمزي هذا عند نهاية تحليلنا، ولنتابع في الوقت الحاضر عرض الأهمية الكبرى التي نسبها النقاد إلى هذه الرواية، هذه الأهمية –نسمح لنفسنا بأن نكرر- التي تأتي من حقيقة أن "رجال في الشمس" تحكي قصة تراجيدية تمثل لكثير من الفلسطينيين خيبة أملهم بالحلول الواهمة لسنوات الخمسين.
سنقدم الآن استشهادًا آخر حول شهرة الرواية وأثرها على الضمير الفلسطيني فيما كتب فضل النقيب، الباحث السابق في الشئون الفلسطينية:
"فجأة تظهر رجال في الشمس، وتُستقبل بشكل غير عادي، يكتب عنها النقاد، يتحدث عنها القراء بإعجاب متزايد. الكل يؤكد أنها عمل أدبي ممتاز، ما أن تبدأ بقراءة كلماتها الأولى حتى تملك عليك نفسك وأحاسيسك ولا تتركك إلا مع كلمتها الأخيرة." (48)
لهذا الأثر الأدبي دلالته العميقة التي تدفعنا إلى اقتراح فرضية عمل تقود تحليلنا على شكل الأطروحة التالية:
تُظهر هذه الرواية إخفاق الحلول الزائفة المتمثلة بالهرب من بؤس المنفى.
سيُبرز تحليلنا القادم الوسائل الفنية التي تعبر عن بِنية هذا الإخفاق ابتداء من منطلق خاطئ حتى المأساة النهائية. (49)

2 – بِنية التواقت والتتابع

لنعرض أولاً الِبنية العامة: تشمل الرواية سبعة فصول، تتوزع بشكل واضح في قسمين كبيرين، يحوي القسم الأول الفصول الثلاثة الأولى، والتي عناوينها أسماء أعلام:
أبو قيس
أسعد
مروان
ويحوي القسم الثاني الفصول الثلاثة الأخيرة بعناوين تشير إلى أسماء جمادات، ينعكس عنها بشكل مباشر عمق الرواية كطريق مأساوي:
الطريق
الشمس والظل
القبر
ويشكل الفصل الرابع نقطة تقاطع بين القسمين، يعبر عُنوانه، تحديدًا، عن فعل إنساني:
الصفقة
يجري التعبير عن هذا التقسيم بين الشخصيات (القسم الأول) وبين الأحداث (القسم الثاني) بشكل أوضح في المضمون والبِنية.
يمثل القسم الأول لوحة متواقتة في آنٍ واحد وحياة كل شخصية من الشخصيات الثلاث، والتي لا توجد بينها أية علاقة مباشرة، ما عدا المشروع الواحد الذي لديها: قطع الحدود الموصلة إلى الكويت بالخفاء. (50)
يحكي كل فصل من الفصول الثلاثة للقسم الأول عن الحياة السابقة لكل فاعل، لشرح الدوافع المتبادلة التي حثت أبطال الرواية الثلاثة على السفر حتى البصرة في العراق، فالبصرة هي المكان الذي يوجدون فيه جميعًا عند أول الرواية، وقد تكررت الرواية ثلاث مرات على التوالي، لأن الكاتب يتناول بالعرض حياة كل واحد من جديد دون أن يبدي أية إشارة للثلاثة معًا.
يظهر أبو قيس مضنى من التعب، بعد سفره الطويل حتى البصرة، مستلقيًا قرب شط العرب، فيصفه النص كالتالي:
"أراح صدره فوق التراب النديّ، فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل: مرتجة، ثم تعبر إلى خلاياه..." (ص 32)
أما أسعد، فهو يظهر على هذا الشكل: في مكتب المهرب وهو يساوم على ثمن نقله اللاشرعي:
"وقف أسعد أمام الرجل السمين صاحب المكتب الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، ثم انفجر:
- خمسة عشر دينارًا سأدفعها لك، لا بأس! ولكن بعد أن أصل، وليس قبل ذلك قط." (ص 53)
أبو قيس وأسعد لا يعرف أحدهما الآخر، غير أن القارئ يربط مصيرهما عَبر حقيقة أنهما يتوجهان هما الاثنان إلى نفس المهرب.
يبدأ الفصل المعنون "مروان" بما يلي:
"خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائحة التمر وسلال القش الكبيرة..." (ص 71)
من الملاحظ هنا تقنية التواقت التي تقدم للقارئ حياة كل شخصية من الشخصيات الثلاث واحدة تلو الأخرى، ولكن في وقت واحد، ضمن لوحة تجميع، هذا من جانب. ومن جانب آخر، تتطور الرواية في الوقت نفسه داخل التتابع، أي بشكل متتابع. كان تقديم الاتصال القاسي بشكل متواقت في مكتب المهرب: مع أبي قيس، مباشرة مع أسعد، ومع مروان، لتبدأ الرواية بعد ذلك.
تعبِّر هذه التقنية التواقتية التي تقع تحتها التقنية التعاقبية فنيًا عن وجود الأفعال/الأبطال الثلاثة عند بداية الرواية في نفس الوقت في البصرة، وخلال العرض يُدخل الراوي الفلاش باك الذي يمثل دورة الأحداث المتتابعة السابقة لوجودهم في البصرة، مبديًا بهذه الصيغة السردية حالتهم في الماضي إلى جانب حالتهم في الحاضر.

ماذا يمكننا أن نستنتج؟

على المستوى الأدبي، يمثل هذا تراكبًا في الأشكال السردية يروي المراحل الهامة للطريق الذي شقه أبو قيس والشعب الفلسطيني.
على المستوى الدلالي، يمثل هذا اعتبار أن مرحلة الانطلاق الحالية هي في الوقت نفسه وصول، وأنه لا يوجد على الإطلاق نقطة صفر، ولكن فقط نقطة واقعة في الوسط. وتنطلق العلاقة التبادلية بين الحاضر والمستقبل من الماضي، بينما يجد هذا القانون تعبيره الأدبي هنا بإدخال التتابع في التواقت. هذه التقنية، تقترن بمنظور كل فرد لا يستطيع أن يعيش حقيقةً إلا في الحاضر، ولكنه مرتبط دومًا بماضيه وبمشاريع المستقبل.
هذا البعد الأكثر تغلغلاً في الماضي عند أبي قيس هو أقل عمقًا عند أسعد، فهو من نمط البطل قصير النظر، الذي يسعى إلى منفعة اللحظة، والذي يتصف بأنانية كاملة، بينما يمثل أبو قيس نمط البطل بعيد النظر. هذا التحديد للعنصرين المتمثلين بأبي قيس وأسعد، في هذه المرحلة من التحليل، لا يعود إلى السياق، وإنما إلى المنهج، لصالح الموديل السردي الذي نحن في صدد الكشف عنه، كما يرى اللساني الفرنسي جريماس، أي لصالح البِنية.
ما يدهش في قصة أسعد أن ماضيه "حالي"، فهو قريب جدًا: يروي القسم الأول من هروبه، بين عمان والبصرة، قصة إخفاقه الأول، فبعد أن خدعه السائق تاركًا إياه وحيدًا في الصحراء، التقطه بعض السياح، بمعنى أن ماضيه هو الرغبة المشخصة جدًا في الهرب بأسرع ما يمكن من أجل كسب النقود.
أخيرًا، تتبع قصة مروان، قبل أن تلتقي حياة كل شخصية من الشخصيات الثلاث في الفصل الرابع على طريق مشترك. لحاضر مروان بِنية من يكابر في المحسوس، ولماضيه بُعد شاب مراهق، الماضي الذي عرفه في وسط عائلته. هناك إذن تحديد زمني وآخر نفسي لمروان يسمحان بتحديد التراكيب التعبيرية التي يحتوي عليها هذا الفصل الخاص به، لكنها في تجليها تتوقف عن كونها متواقتة، بالنسبة للنص نعم، بالنسبة للفصل لا، على اعتبار أن الفصل قائم بذاته، وكذلك الحال بالنسبة للفصلين السابقين الخاصين بأبي قيس وأسعد.
من ناحية التقنية الأدبية، يصب الفصل الثالث مباشرة في أحداث الفصل الرابع، الذي يُعتبر نقطة التقاء الرجال الثلاثة وأبي الخيزران: من يأخذ على عاتقه مهمة تهريبهم، والذي يُعتبر كذلك نقطة التقاء الأقدار الأربعة.
يقع الفصل الرابع في موقع وسط بين القسمين الكبيرين اللذين سبق لنا الإشارة إليهما، ولن تبدأ القصة الحقيقية للسفر المشترك إلى الكويت إلا الآن، فيقترن منظور الراوي الآن كذلك بتتابع مراحل الطريق. وهكذا تكون وظيفة القسم الأول عبارة عن عرض درامي للفواعل قبل ابتداء الرواية (ما عدا أبي الخيزران الذي سيجري إدخاله خلال الرحلة المشتركة)، هذا العرض الضروري لفهم ما سيتبع.
لقد أفادت التقنية التواقتية هذا العرض السابق لما سيقع، وستفيد التقنية التعاقبية التطور الدرامي لإخفاقهم التراجيدي.
فلندرس الآن لماذا عرض الراوي لحياة الشخصيات الثلاث ثم أتبعها بحياة المهرب؟ ما الفرق بينها؟ وماذا تمثل بصفتها أنماطًا للشعب الفلسطيني؟


المراجع
(46) ف. المنصور: غسان كنفاني في كتبه الأحد عشر، مجلة شئون فلسطينية عدد 13، ص 212.
(47) إحسان عباس: المجلد الأول من آثار غسان كنفاني الكاملة، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 16.
(48) فضل النقيب: عالم غسان كنفاني، مجلة شئون فلسطينية العدد 13، ص 198.
(49) سيعتمد تحليلنا على رواية رجال في الشمس، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، من صفحة 37 إلى صفحة 152.
(50) بعد احتلال فلسطين عام 1948، أخذ الفلسطينيون يبحثون عن مكان يقيمون فيه، ويعيدون حياتهم من جديد، وفي الفترة نفسها حازت الكويت على استقلالها، وأكثر من هذا جذبت مواردها البترولية الضخمة الفلسطينيين الذين جاءوا جماعات للإقامة فيها، مما دفع الحكومة الكويتية إلى الحد من الهجرة، وربط وجود الفلسطينيين على الخصوص بفيزا لا تسمح بإعطائها بسهولة. لهذا السبب، حصل دخول الكثيرين بالخفاء.


يتبع 3 – أربعة أنماط للبطل المنفي: قرار الهرب من البؤس