الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 24


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5084 - 2016 / 2 / 24 - 14:23
المحور: الادب والفن     

6 – الأسلوب

أ – المفردات

يسمح لنا الحقل الدلالي للعمل الأدبي بالتمييز بين حقلين آخرين: أحدهما تصوراتي والآخر مفرداتي. سنجمع داخل الحقل التصوراتي المفردات النمطية الخاصة بكل من البطل المستسلم والبطل المتمرد، أما الحقل المفرداتي، فسيحوي طبيعة المفردات المستعملة سواء أكانت مجردة أم مشخصة، قديمة أم حديثة.
نلاحظ في مفردات البطل المستسلم تكاملية دلالية تعبر عنها على المستوى التصوراتي فكرة مُرَّة (التصور عملية عقلية يقوم بها الفَهْم لإدراك المعاني المجردة أو تكوينها): مثال ذلك قصة "قتيل في الموصل" حيث يتطور البطل المستسلم إلى بطل متمرد. في المرحلة الأولى، تتفاوت أفكاره في درجتها بين الاستسلام الكلي والاستسلام السَّلبي، فهو "يتمتع بروح فكهة تخفي في أعماقه قلقًا له جذور سوداء..." "ولكن هل سمع أحد في يوم ما أن معروفًا يريد شيئًا من هذه الحياة؟ يهمه أمر ما؟ يطمح إلى مستقبل ما؟ يناضل من أجل هدف؟ يعيش لغاية؟ كلا." (ص 280-ص 291)
الكلمات الغالبة هي "القلق"، "الجذور السوداء"، "انعدام المستقبل"، "انعدام الهدف"، "انعدام الغاية"... غياب النضال هنا يشكل قلق البطل، وتدل الجذور السوداء التي تنتسب إلى المفردات المجردة على العقم التصوري لدى الفاعل. يجدر الإشارة إلى أن مفردات البطل المستسلم تنطبق عادة على بطل متمرد، وحتى على بطل ثوري: "الطُّموح"، "المستقبل"، "النضال"، "الهدف"، "الغاية". وبالمقابل، حالته موصوفة بمفردات مشخصة ومجردة في وقت واحد: "قلق له جذور سوداء". الجذور مصطلح مشخص يمكن استخدامه كاستعارة لمصطلح مجرد: "قلق".
عندما يتداخل الحقلان المفرداتي والتصوراتي يُبَيِّنَان نفسية البطل المستسلم: مقتلَع الجذور منذ البداية، يترك لغيره مسئولية الكفاح من أجل مثل أعلى، فها هو يقول: "حينما تعبرون الحدود إلى فلسطين سوف أكون خلفكم. أنا صرصار صغير. سأحتمي بظلال فيلة هنيبال." (ص 382)
وعلى العكس، عندما ينقلب الوضع، ويأخذ البطل المستسلم بالتساؤل حول سَلبيته، تصبح مفرداته حارة وفاعلة: "يجب على بعض الرجال أن يقودوا الأفيال" (ص 383)، "إنه يريد أن يخطو نحو اللد" (ص 387)، "الحياة هناك تقوم على خطأ أنه يحسه إحساسًا صلبًا، ويحاول أن يقتلعه من شروشه" (ص 397)، "لقد رفض معروف أن يهرب" (ص 389).
يُختصر التقارب الدلالي بين المفردات في أفعال تدل على الحركة: "يقود، يخطون، يحس، يحاول، يريد"، تدل جميعها على المسئولية الملقاة على عاتق البطل المتمرد: "يَقتلع، يرفض" فعلان آخران يُبرزان الانتقال من الاستسلام إلى التمرد.
تعود مفردة "الجذور" المشخصة مرة أخرى لتتعاقب ومفردة مجردة: "جذور الخطأ"، نفس الصورة الفنية السابقة. جذور هنا شيء سَلبي، والمقصود هنا الخطأ الذي يقودنا الاستسلام إليه.
انتقى غسان كنفاني للتعبير عن كل هذا كلمات سهلة، لكنها ممتنعة، بأسلوب حديث غير تقليدي، أحيانًا شعبي كاستعمال "شروش" مثلاً، وخففت كثرة الحِوار من ثقل الشكل بصورة ملحوظة، وذلك بفضل الأسلوب المباشر والجمل القصيرة، لنصل إلى ثلاثة أنواع في التراكيب التعبيرية تتعلق بالخصائص (مستسلم/متمرد)، بالبِنيات (استسلام/تمرد)، بالانفكاكات (فصل بين استسلام وتمرد).
أضف إلى ذلك أن الاختلاف بين المفردات "السالبة" و "الفاعلة" عبارة عن وسيلة فنية لإبراز المعنى: الأولى مثلت لغة عاجزة لبطل عاجز تجاه قضيته، قاعدته الاستسلام لأخف المتاعب، الثانية عكست اللغة الحازمة لبطل حازم وعازم على التخلص من الاستسلام.

ب – الصور

تدعم الصور بساطة الأسلوب، فهي في أكثر الأحيان عبارة عن استعارات مستمدة مباشرة من الطبيعة. كان غسان واحدًا من أولئك الذين لم يستسلموا لضياع الوطن، فامتد ذكره عنده في مجمل أعماله عَبر صور فنية بسيطة: "وجدتُ غزة كما تعهدها تمامًا، قوقعة صدئة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ." (ص 344)
لا تحتوي الأوصاف هنا إلا على صور عينية مشخصة: "قوقعة صدئة" تشبه على المستوى المفرداتي وجه المدينة الحزين، وعلى المستوى التصوراتي حالة الفاعل.
بالمقابل، نجد أوصافًا مختلفة لمدينة غزة: "كانت الشمس الساطعة تملأ الشوارع بلون الدم." (ص 349) تشير الشمس الساطعة إلى نهاية وجود مظلم تزيدها كلمة الدم تأكيدًا، وتحرض هذه الصورة المحركة على فكرة انبعاث البطل المتمرد على المستوى التصوراتي. بالشكل نفسه، يشبّه كنفاني شقائق النعمان الحمر الآتية من فلسطين بفلسطين نفسها، ثم بجرح المقاتل الفلسطيني:
"- هذا الحَنُّون من هناك.
وأمسك إبراهيم الزهر، وضمه بعنف إلى صدره، ثم ابتسم، وهو يقول:
- أيها الجرح!
ومات، وهو يشد على الزهر الذي دفن معه." (ص 332)
إن العلاقة-القاعدة الموجودة بين الصور بصفة دائمة هي بلا شك أرض الوطن فلسطين، وهي في وقت واحد الشقائق والجروح، فالصورة مرتبطة بسياق تاريخي مُشَعَّر (من شِعر): الجروح جميلة لأنها انسكبت من أجل قضية نبيلة، ونتيجة لذلك، يصبح الموت عظيمًا، إنه يعلن عن انبعاث الفلسطيني.
حتى الآن جميع الصور مستمدة من الوسط الفيزيائي، فهي ترمز إلى الالتحام بين الإنسان والطبيعة بصفة عامة، وبين الفلسطيني ووطنه بصفة خاصة.
ويلجأ كنفاني أحيانًا إلى صور مجردة للتعبير عن رسالة فلسفية: "لفظته العينان مثلما يلفظ الرحم المترع الوليد، وإن في عين كل رجل يُقتل ظلمًا يوجد طفل يولد في نفس لحظة الموت." (ص 356)
يُثري التجريد رغبة الكاتب، فالمقارنة جِد رمزية: "العينان اللتان تلفظان الطفل" تشيران إلى الشخص الذي لا يمكننا أن نحتمل رؤيته بعد أن يتخلى عن الدفاع عن قضيته، ويبلغنا غسان رسالته في الاستعارة الثانية الواضحة في الصورة السابقة، الموت لا يلد العدم، بل على العكس، إنه يخلق حياة جديدة يرمز إليها الرحم المترع والوليد.
لقد استطاع التجريد وحده أن يعطي للصورة بُعدًا فنيًا وأثرًا دراميًا بواسطة مفردات جِد بسيطة ومختصرة: طفل، وليد، رحم.
وتصف الصورة المجردة أحيانًا عالم الإنسان الداخلي: إنها تجسد المشاعر الإنسانية على المستوى الأدبي عندما نقرأ: "عندها اكتشف أنه وحيد تائه... وكان يحس فيما هو يشق طريقه المظلم أقدام الناس فوق رأسه تروح وتجيء... أصوات أقدام، هدير أنهار، هرج أمواج، كل ساعة، كل لحظة، كل يوم، ووراءه كان يجري جدول الدم كأنه يلاحقه، كأنه قدره." (ص 358)
بسبب التجريد، هذه الصورة رمزية جدًا، وهي مستوحاة من الطبيعة كالصور السابقة. كذلك لدينا عدة أفعال مثل: يهرج ويهدر ويروح ويجيء ويجري ويلاحق، تأتي هذه الأفعال لتصف شعور العنف إلى جانب حالة الطبيعة، حالة الشخص. من ناحية أخرى، تَعَاقُب مصطلح الدم ومصطلح القدر يدل على الشعور باللعنة التي تصيب العنصرين السابقين (الإنسان والطبيعة)، وهناك مفردات، مثل "يحس" و "يلاحق"، تدل على نفسية الشخصية القصصية.
ما ينجم عن ذلك كله أن للتشخيص والتجريد عند كنفاني وظيفة محددة، إنهما ينيران ويدعمان الفكرة المعبر عنها، وهما العنصران الجماليان الوحيدان للديكور، وليس هناك سوى البساطة والمتانة المستمدتين من الواقع، واللتين تُبرزان ما هو ضروري فقط، فما يزودنا السياق الكنفاني من معلومات يتم تحديد موقعه على خارطة العناصر السردية التي تتجلى في الخطاب، كما أن الخصائص السردية تحتوي على خصائصها الضرورية التي تتلاءم معها.

ختامًا نقترح باختصار الخطوط العريضة لتحليلنا السابق:

1 – تمثل هذه المجموعة القصصية فترة المنفى بعد تهجير 1948، وهي عبارة عن وثيقة تاريخية كبرى على المستوى الأدبي.
2 – تعطي هذه المجموعة القصصية ميلادًا لنموذجين "نمطيين" للبطل: البطل المستسلم في بداية الخمسينات والبطل المتمرد في أواخر الفترة نفسها.
3 – تقترح هذه المجموعة القصصية تطورًا في تصور الفلسطيني الذي سيرى فيما بعد العلاقات الاجتماعية كعلاقات تضم المضطهَدين من ناحية والمضطهِدين من ناحية.
4 – تميز هذه المجموعة القصصية بين نمطيها وتطوراتهما، هذه التطورات التي هي انقلابات في المضامين تتوافق مع متطلبات الموديل الكنفاني.
5 – تثير هذه المجموعة القصصية مسألة أساسية في اللعبة السردية بوجود طريقتين أساسيتين، وذلك على كافة مستويات التعبير، واحدتهما حقيقية وثانيتهما وهمية، تتجليان في الخطاب على شكل أشخاص قصصية أو أشياء قصصية، ليكون التمييز بين استثمار السياق واستثمار المعارف السياقية.


يتبع 2 – رجال في الشمس: الفهم العميق لحقيقة المنفى