الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 19


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5079 - 2016 / 2 / 19 - 16:23
المحور: الادب والفن     

القسم الثاني

أعمال غسان كنفاني

التمثيل الأدبي من المنفى إلى الثورة

أ – القصة والرواية

1 – أرض البرتقال الحزين: البحث عن هوية

1 – مقدمة حول المجموعة وموضوعاتها

وضعنا في القسم الأول من تحليلنا أعمال غسان كنفاني الكاملة في سياقها التاريخي، ولاحظنا التوازي القائم بين مراحل الشعب الفلسطيني التاريخية وتطور وعي الكاتب البطيء الذي أدرك أن مكانه لن يكون إلا وسط شعبه، فكان التصور السردي الخاص "بالتقليد" الكنفاني، وكان المفهوم القِداسي في أدب يُعنى بالسِّيَر المعظِّمة لبسطاء الناس.
أما قسمنا الثاني، فسيختص بتحليل مفصّل للبناء الأدبي والتمثيل الجمالي "للمسألية" الفلسطينية كما استنتجناها عبر الهزيمة، ثم استسلام المنفي، فانطلاقة المقاومة. سنختار عملاً أدبيًا تمثيليًا لكل مرحلة من المراحل الأربع لتطور غسان كنفاني الأدبي، كي نُبرز التحول الطارئ على تقنية الكاتب الروائي، وسيعتمد هذا التمرحل الذي نقترحه، حسب الخطة الفنية، على منهجية مفصلة.
إن المرحلة الكبيرة الأولى هي "عدم استقرار الحياة – البحث عن تحديد إيديولوجي"، وتغطي هذه المرحلة سنوات الخمسين حين كان الكاتب يقيم في دمشق والكويت. إنها أيضًا المرحلة الأكثر مرارة للمنفى، التي عبرت عنها الخطابية السردية، والتي بدأت مباشرة بعد نكبة 48، حيث تواصل الذكريات المؤلمة إثارة المرارة العميقة.
لقد جمع غسان كنفاني قصص هذه المرحلة في مجموعتين: الأولى "موت سرير رقم 12"، وتحتوي على 17 قصة، 15 صفحة الواحدة تقريبًا، يسيطر عليها التشاؤم العام. سبق لنا أن أظهرنا شعور المنفي المعذب الذي يلتفت إلى الوراء، عَبر صور فنية، أكثرها إثارة صورة اللؤلؤة في المحارة الأخيرة: لؤلؤة في متناول يد الإنسان لكنها تقلت منه دون أن يفلت من الموت.
يذهب هذا التشاؤم العام واستسلام مُشِلّ، لنذكّر بصورة البومة المعلقة على جدار عتيق لحجرة في المنفى، التي تقوم مقام العنصر المرجعي لباقي العناصر، والتي تشكل سدًا حاجزًا دون انفتاح ممكن على المستقبل.
أما المجموعة القصصية الثانية "أرض البرتقال الحزين" التي سنحللها بالتفصيل، فقد أظهرت حالة المنفي ذاتها، مع إدخال بعض العناصر الجديدة التي تدل على تطور أولي. لذلك، تعبر هذه المجموعة عن بداية الانتقال من حالة البطل المستسلم إلى حالة البطل المتمرد. (1)

2 – الانتقال من حالة البطل المستسلم إلى حالة البطل المتمرد

يوجد في هذا العمل الأدبي اقتصاد في الشخصيات، وبناء على ذلك، بإمكاننا أن نميز نموذجي البطلين المذكورين سابقًا بلا أقل تعب وبكل بساطة، فكل القصص تقريبًا تحاول إبرازهما. لا يعني ذلك أن هذين البطلين متشاكلان، بل على العكس، هما يختلفان في شكلهما، ويشكلان القطبين الأبعدين للبنية السردية، وحولهما يحاول كنفاني أن يدخل نصوصًا مختلفة.
أول ما نلاحظه أن الشخصية الرئيسية لنصف القصص هي شخصية "البطل المتمرد"، ولاثنتين منها شخصية "البطل المستسلم"، وللثلاث الباقية أشكال مزدوجة من هذه وتلك.
تتضمن قصة "ورقة من غزة" نوعي البطلين اللذين هما صديقان في الواقع: أحدهما يقيم في كاليفورنيا، والثاني في غزة. أما قصة "الأفق وراء البوابة"، فهي تقدم "البطل المستسلم" الذي عاش طويلاً في/مع الكذب، والذي يدرك ذلك فجأة، دون أن يسعى رغم ذلك لتحقيق التمرد. تقع هذه القصة إذن في منتصف طريق التمرد المفتوح على المبالاة في قصة "قتيل من الموصل"، حيث يهزأ البطل المستسلم من "المناضلين" أولاً، ثم لا يلبث أن يتبدل تدريجيًا، وفي إهاب البطل المتمرد، ينتقل إلى العمل في العراق، ليشارك في القتال ضد الثورة المضادة التي أعقبت ثورة تموز.
هذه هي سمات نموذجي البطل المستسلم والبطل المتمرد:
يسافر البطل المستسلم في قصة "ورقة من غزة" إلى الكويت، ولديه قناعة راسخة بالحصول على ثروة عندما يؤكد: "سنصير أغنياء." (2) في بداية إقامته، يرسل مبالغ صغيرة إلى عائلته، لكنه لا يلبث أن ينقطع عن الإرسال ليكون باستطاعته دفع تكاليف سفره إلى أمريكا، مما يدل على أن البطل المستسلم يهرب من صعوبات الحياة والواجبات العائلية بحثًا عن السعادة في مكان آخر بعيد أكثر ما يكون بعدًا "كاليفورنيا"عندما يقول: "سأمضي إلى كاليفورنيا، أعيش لذاتي التي تعذبت طويلاً، إنني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في البلد المقطوع يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض." (3)
في قصة "أرض البرتقال الحزين" هناك سمة أخرى لهذا البطل المستسلم: بعد أن استقبل الأب بحماسٍ الجيوش العربية القادمة إلى فلسطين، يجد نفسه مرغمًا على الاعتراف بالهزيمة: "لقد خدعتنا البلاغات، ثم خدعتنا الحقيقة بكل مرارتها." (4) أُرغم الأب وعائلته على الفرار، وَتَرْك كل ما لهم صوب مستقبل مجهول يفضل عليه الموت: "أريد أن أقتلهم (الأطفال)، وأريد أن أقتل نفسي، أريد أن أنتهي... إن الأمور قد وصلت إلى حد لم تعد تجدي في حلها إلا رصاصة في رأس كل واحد منا." (5) وبسبب العجز النفسي، يلازم الأب الفراش، وإلى جانبه "برتقالة جافة" رمزًا للأرض الضائعة التي كانت تستمد الفاكهة منها الحياة.
سنتناول بالعرض من جديد قصة "ورقة من غزة" لتحديد نموذج "البطل المتمرد": يغادر صديق "البطل المستسلم" الكويت إلى غزة، ليساند عائلته في صراعها ضد الفقر، وفي اللحظة التي يرى فيها ساق ابنة أخته التي فقدتها إثر انفجار عام 56، كعنصر محرك للوعي، يكتشف عند ذلك أن غزة "جديدة كل الجدة، أبدًا لم نرها هكذا أنا وأنت... كنت أتخيل أن الشارع الرئيسي، وأنا أسير فيه عائدًا إلى داري، لم يكن إلا بداية صغيرة لشارع طويل يصل إلى صفد." (6)
الدور الحقيقي للبطل: أن يكون مكانه بين أهله وليس في كاليفورنيا، فيقوم بمبادرة، وذلك بالكتابة إلى صديقه (القصة هي هذه الرسالة)، ليذكّره بواجبه، وليدفعه إلى ترك سعادته الأنانية (نحن نقرأ بحيادية ما يرمي إليه الكاتب ولا نحلل بنيته الأخلاقية)، وبهذه الكلمات ينهي رسالته: لا يا صديقي! لن آتي إلى سكرامينتو... لن آتي إليك، بل عد أنت إلينا، عد لتتعلم من ساق ناديا المبتورة من أعلى الفخذ ما هي الحياة وما قيمة الوجود، عد يا صديقي، فكلنا ننتظرك." (7)
تتمثل السمة الثانية للبطل المتمرد في قصة "أبعد من الحدود"، حيث يُلقى القبض على شاب لأنه أفرغ وعاء الحليب على رأس أحد موظفي الأنروا، فيحاولون إرغامه على الاعتراف بجنونه، لكنه يحتج: "تيقنت أكثر من أية لحظة مضت بأنها كانت لحظة العقل الوحيدة في حياتي كلها." (8)
ينتج فعل التمرد خلال لحظة من اللاوعي، ومع ذلك، فهو نفس الفعل الذي يصفه الفاعل بالعقلاني، والذي يعبر عن تمرده على حياة المخيم البائسة: "أنا إذن حقير... لست صوتًا انتخابيًا، وأنا لست مواطنًا بأي شكل من الأشكال... وأنا ممنوع من حق الاجتماع، ومن حق الصراخ..." (9)
وكأن البطل يرمي إلى تنظيم ما يفعل ليبني كود التمرد، فيهرب من مكان التحقيق لِيَظهر بشكل مفاجئ في بيت "رجل هام". هنا يتجلى التنظيم النموذجي للتمرد، عندما يقص قصة حياته متحديًا السلطة مستمدًا من كرامته الجريحة –ينعتونه بالخنزير وغيره من النعوت- الحافز على التمرد: "أنتم الآن أمام حالة، فإذا خطر لكم أن تسموها لصوصية، فإنهم لصوص... خيانة؟ كلهم إذن خونة!" (10)
لنر كيف ينهي كلمات التحدي أمام "الرجل الهام": "والصراخ يا سيدي عدوى، فإذا الجميع يصرخ دفعة واحدة: "أية حياة هذه، الموت أفضل منها! ولأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيرًا، فلا بد أن يفكروا في أمر آخر." (11)
تدل الفقرة الأخيرة هذه على أن هناك وظيفة للبطل المتمرد وحاجاته، مما يرسم حدود دائرة "الفعل الثوري". لقد أثبت الاستسلام أن من الممكن إزالة المشاكل على المستوى الفردي دون التوصل إلى حل المسألة العصيبة للمنفى. أما التمرد، فقد أثبت أكثر فأكثر أن العلاقات القائمة يجب أن تتغير، وبالتالي، أن من الضروري البحث عما هو أبعد من ذلك، بمعنى آخر، خلق "روح ثورية".
ختامًا لهذا الفصل، نود الإشارة إلى أننا نعالج، إلى حد الآن، "البطل المتمرد" كمرحلة أولى، أما "البطل الثوري"، فسيظهر في وقت لاحق.


المراجع
(1) غسان كنفاني: أرض البرتقال الحزين، المجلد الثاني، دار الطليعة، بيروت 1973، من ص 277 إلى ص 402.
(2) ص 342.
(3) ص 343-344.
(4) ص 373.
(5) ص 374.
(6) ص 349.
(7) ص 350.
(8) ص 280.
(9) ص 281.
(10) ص 285.
(11) ص 288.


يتبع 3 – بنية الشخصيات
أ – الراوي وموقفه الروائي