البتي برجوازية١-;-


حسقيل قوجمان
الحوار المتمدن - العدد: 5074 - 2016 / 2 / 14 - 12:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في التحية التي قدمتها لقراء الحوار المتمدن لدى انتهاء اسبوعي الحوار ذكرت ان الموضوع كان يصبح اكثر جاذبية واشد نقاشا لو كنت اخترت موضوع البرجوازية الوضيعة. وقد تلقيت طلبات من عدد من القراء بان ابدي رايي حول البرجوازية الوضيعة لان الموضوع اصبح كثير النقاش ويريدون ان يعرفوا رايي فيه. وهذا طلب لا استطيع تجاهله.
في الاونة الاخيرة كانت كتاباتي مقتصرة تقريبا على اقتباساتي من كتب الاستاذ غروفر فر. فاقتبست عددا من كذبات خروشوف الواحدة والستين في كتاب "كذب خروشوف" وما زلت اقتبس منه كذبات اخرى. واقتبست مقالا او مقالين من كتاب "اكاذيب الدم" وما زلت ابحث عن مقالات يمكن اقتباسها فيه. وفي الكتاب الجديد "تروتسكي" الذي صدر في الايام الاخيرة من السنة الماضية واستلمت نسخة منه قبل ايام سابدا في قراءته واحاول ان اقتبس منه بعض المقالات عن تروتسكي. ولكني في هذه الفترة لم اكتب مقالات ابدي فيها رايي في مواضيع اخرى. وجاء طلب هؤلاء القراء ليحفزني على تناول موضوع بعنوان "البتي برجوازية".
ثمة مشكلة في اللغة العربية حول ترجمة عبارة البتي برجوا العالمية. ففي كتابات كثيرة كتبتها سابقا عن الموضوع استعملت العبارة بتعريب صياغتها الغربية الى بتي برجوازية وكذلك استعمل اخرون نفس العبارة وكانت الترجمة العربية المستعملة كثيرا "البرجوازية الصغيرة" وهي الترجمة العربية القاموسية للبتي برجوا. وفي عدد من مقالاتي القديمة بحثت هذا الموضوع وبينت رايي بان الترجمة المناسبة الصحيحة للبتي برجوا هي المراتب الوسطى وهي ترجمة تستند الى طبيعة البتي برجوازية وليس الى اسمها العالمي بتي برجوا. ولكن الكتابة الشائعة عنها حاليا هي البرجوازية الوضيعة وهي ترجمة يقصد منها اطلاق صفة الوضاعة عليهم احتقارا. ولكن موضوع الترجمة هو مشكلة مقتصرة على اللغة العربية ولا توجد ثمة مشكلة كهذه في لغات العالم الاخرى. وسواء اترجمناها البرجوازية الوضيعة او البرجوازية الفظيعة او البرجوازية المريعة او البرجوازية الصغيرة او البرجوازية الفقيرة او البرجوازية الحقيرة او كل الترجمات التي تخطر على بال انسان فلا يغير هذا من كونهم بتي برجوازية. وموضوع هذا المقال هو البتي برجوازية.
في كافة مراحل تطور البشرية كانت هناك فئات اجتماعية بينية بين الطبقة الحاكمة والطبقة الكادحة المستغلة. لم تكن هذه الفئات البينية تسمى بتي برجوازية لان المجتمع لم يكن برجوازيا. الا ان هذه الفئات البينية الشبيهة بطبيعتها بالبتي برجوازية كانت موجودة في كافة مراحل تطور المجتمع الطبقي. اذكر منها على سبيل المثال فقط المهندسين العظام الذين هندسوا في المرحلة العبودية بناء عجائب الدنيا السبع ونرى انتاجهم في الاهرام المصرية على سبيل المثال، وعلماء الطب الذين لم يكونوا يسمون علماء او اطباء بل ربما سحرة او كهنة او غير ذلك الذين توصلوا في تطورهم وتطور صناعة العقاقير الى عملية التحنيط العجيبة. لكن هذه الفئات البينية لم تكن تسمى بتي برجوازية لان كلمة برجوازية لم تكن موجودة في اللغة اصلا قبل نشوء النظام الراسمالي. والكلمة في اصلها كانت اسم عائلة ايطالية.
هذه الفئات الاجتماعية البينية سميت في النظام الراسمالي بتي برجوا. البتي برجوازية في النظام الراسمالي فئات اجتماعية كثيرة جدا واهم صفاتها هي انها ليست برجوازية وليست طبقة عاملة. ولكي نعرف ما هي البتي برجوازية علينا ان نشرح طبيعتها الاقتصادية.
تشكل البتي برجوازية في المجتمع الراسمالي اغلبية السكان في اغلب بقاع العالم. فتاريخيا كان القادة المتحدثون عنها يعتبرون ان بريطانيا وحدها ليست البتي برجوازية فيها اغلبية السكان وذلك لان الزراعة في بريطانيا اصبحت زراعة راسمالية خالصة واصبح العمال الزراعيون فيها عمالا زراعيين او بروليتاريا ريفية.
البتي برجوازية تتالف من فئات اجتماعية عديدة لا علاقة بين احداها والاخرى سوى كونها بتي برجوازية. وقد يمكن تصنيف البتي برجوازية في اي مجتمع راسمالي الى ثلاثة قطاعات، قطاع ثقافي وقطاع حرفي صناعي وقطاع غذائي.
يتالف القطاع الغذائي من متوسطي الفلاحين وغيرهم من منتجي مواد الطعام كالسماكين ومربي الطيور والدواجن وغيرهم. هؤلاء يقومون مع الفلاحين الفقراء او العمال الزراعيين او بروليتاريا الريف بانتاج الطعام لكل المجتمع. فبدون انتاجهم وعملهم لا تستطيع الشعوب ان تعيش. القليل منهم يبيعون منتجاتهم مباشرة في السوق. ولكن بيع انتاجهم الواسع لا يمكن تحقيقه بالبيع الفردي المباشر. يجب ان يجدوا من يشتري انتاجهم الواسع بكميات كببيرة. وفي المجتمع الراسمالي يوجد هؤلاء الذين يشترون البضاعة بكميات كبيرة، انهم الرسماليين.
في حالة البيع المباشر ينزل الفلاح او السماك السوق مع الفواكه التي ينتجها او الاسماك التي يصيدها او الطيور التي يربيها كسلعة ويبيعها لقاء نقود وبالنقود يشتري الحاجيات المدنية التي يحتاجها وبهذا تنتهي عملية التبادل. الا ان هذا التبادل الفردي لا يمكن ان يحقق بيع الكميات الهائلة الكبيرة التي ينتجونها.
في المجتمع الراسمالي يوجد الرسماليون. والراسمالي يمتلك النقود بكميات كبيرة لا يستطيع الاستفادة منها الا بان يشتري مواد يستطيع بيعها باغلى من ثمنها الذي دفعه في شرائها. ينزل الى السوق، المجتمع، وجيوبه منتفخة بالنقود. يجد المواد التي يرغب في شرائها لانها تحقق له ربحا عند بيعها فيشتريها حين يكون المزارع او العامل باشد الحاجة الى النقود.
في حالة الزراعة مثلا يجد الفلاحين البتي برجوازيين الذين زرعوا اراضيهم وينتظرون نضوج ما زرعوه بحاجة الى النقود من اجل شراء حاجاتهم فيشتري ما زرعوه حتى قبل نضوجه ويدفع لهم النقود التي هم باشد الحاجة اليها. يشتري مثلا منتجات مزرعة للقطن او للقمح او للرز او غير ذلك حتى قبل نضوج الزرع فيها. وهو لا يشتري القطن لكي يصنع به فراشه بل يشتريه لكي يبيعه ويحصل على الربح منه. عند شراء ما زرعوه يصبح الراسمالي المالك الشرعي والقانوني والعملي لانتاجهم الزراعي عند نضوجه.
ان التفسير الاقتصادي لعملية التبادل يختلف في هذه العملية بين البتي برجوازي الذي باع انتاجه وبين الراسمالي الذي اشترى انتاجه.
بالنسبة للبتي برجوازي تبدأ العملية بما يزرعه، بالنبات الذي سيجنيه عند نضوجه. وهذا يعني ان العملية عنده تبدأ بالسلعة التي ينتجها س. والعملية الثانية، عملية بيعها تتحقق بان يحصل على النقود ن عند شرائها. وتنتهي العملية حين يشتري حاجياته بالنقود ن ثمن النبات الذي باعه. فتنتهي عملية التبادل بالنسبة له. ومختصر العملية هو س ن س. وفي كتاب الراسمال جاء ماركس على مثل لطيف هو ان الكاهن يبيع الكتاب المقدس للفلاح لقاء النقود ويشتري بهذه النقود مشروبا كحوليا ليسكر به.
اما بالنسبة للراسمالي الذي اشترى المنتجات فتبدأ العملية بالنقود التي يملكها ن. فيشتري المنتجات بتحويل النقود الى منتجات، سلعة، س. وهو لا يشتري السلعة من اجل اكلها او استعمالها شخصيا بل من اجل بيعها باعلى من السعر الذي اشتراها به فيستعيد النقود التي انفقها مع اضافة ربح نقودي ن+ر. فمختصر العملية بالنسبة له هو ن س ن+ر. وهذه العملية هي العملية الراسمالية ولا يمكن ان تجري الا في مجتمع راسمالي. وليس لها مثيل واسع النطاق في اي مجتمع غير المجتمع الرسمالي.
المجتمع الذي تجري فيه مثل عمليات التبادل هذه هو مجتمع راسمالي ولا يمكن ان يكون الا مجتمعا راسماليا. اما كيف يستطيع الراسمالي بيع السلعة التي اشتراها باعلى من القيمة التي دفعها في شرائها فهذا موضوع اخر لا نناقشه في هذا المقال.
. وهذه العملية هي عملية نقود سلعة نقود عملية التبادل الراسمالية الحقيقية. وبدون هذه العملية لا يمكن ان توجد طبقة راسمالية ولا نظام راسمالي. وان زوال النظام الراسمالي يتطلب زوال مثل هذه العمليات. وما دامت توجد عمليات كهذه، عمليات ن س ن فهذا معناه وجود انتاج راسمالي. ونحن نعيش الان في مجتمع راسمالي في جميع انحاء العالم تقريبا. ففي بعض البلدان مازال النظام سابقا للنظام الراسمالي، وثمة محاولات قليلة لانشاء انظمة لا راسمالية.
لكي نفهم النظام الفكري للبتي برجوازية علينا اولا ان نفهم طبيعتهم الاقتصادية. الاساس الاقتصادي للبتي برجوازية هو انهم ليسوا برجوازية وليسوا بروليتاريا. والماركسية علمتنا ان النظام الفكري لاية طبقة او مرتبة هو نتاج للاساس الاقتصادي لتلك الطبقة او المرتبة. وكون البتي برجوازية ليست طبقة عاملة وليست طبقة برجوازية وانما هي فئات بينية هو الذي يحدد النظام الفكري للبتي برجوازية. وقد نبحث هذا الموضوع بحثا مفصلا عند بحثنا النظام الفكري للمراتب البتي برجوازية عموما. ولكن بعبارة واحدة نقول ان طبيعتهم الفكرية هي الحلم بان يصبحوا اغنياء من جهة وتاثير التطور الاقتصادي والتكنولوجي يدفعهم رغم ارادتهم الى الهبوط نحو الطبقة العاملة من الجهة الثانية. ولذلك يمكن وصف نظامهم الفكري بالانتهازية. الحلم بالارتفاع والاضطرار الى الهبوط.
هذا القطاع اذن كما راينا لا يضم فئات طفيلية تعيش على استغلال الطبقة العاملة او المجتمع كله. فهم منتجو اطعمة المجتمع الذي لا يمكن ان يعيش بدونها ويحصلون مقابلها على اثمانها لكي يحصلوا على حاجياتهم المنتجة من قبل سائر فئات المجتمع. الطفيلي الوحيد في المجتمع الراسمالي هو البرجوازي او الراسمالي الذي لا يعمل ولا ينتج ولكنه يستولي على كافة انتاج المجتمع ويمتلكه بنقوده فقط؟