مآلات الدولة والمجتمع في سورية


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 5069 - 2016 / 2 / 8 - 09:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

مآلات الدولة والمجتمع في سورية
بفعل سياسات سلطة آل الأسد وممارساتها الدموية والتدميرية تحولت أغلبية السوريين إلى قتلى وجرحى وسجناء رأي وضمير ومهجَّرين، سواء داخل سورية أو بلدان اللجوء، وجرى تدمير مدن وقرى في مختلف الأنحاء، كما جرى تدمير وتعطيل غالبية القطاعات والمؤسسات الاقتصادية والخدمية والمرافق العامة، وكلها أدت إلى خروج السوريين من دوائر الفعل الاقتصادي والاجتماعي، بحيث لم يبقَ من الدولة والمجتمع، في دائرة الفعل، سوى بقايا المؤسسة العسكرية - الأمنية وبعض المؤسسات المساعدة في تشغيلها ودعم أجهزتها.
فما هي مآلات الجمهورية السورية على صعيد الدولة والمجتمع، وعلى صعيد الجغرافيا والديموغرافيا ؟ وما هي الإجماعات الجديدة التي ستتشكل عند السوريين ؟
إذ أنّ كل يوم إضافي، في هذا الخراب، يعني مزيداً من الأسوار بين مكوِّنات مجتمع السوريين، ومزيداً من الفجوات بينهم. فمفهوم الشعب، الذي بدا لنا بسيطاً وواضحاً إلى حد البداهة، ليس في حقيقة الأمر كذلك، وبخاصة في مجتمع معقَّد التكوين مثل المجتمع السوري. فمع انفجار الحراك الشعبي في آذار 2011 نشَّط النظام الاستبدادي أدوات دعايته لتوتير المناخ الاجتماعي، وتحفيز الهواجس والمخاوف الطائفية، وخطط، في إطار الدفاع عن سلطته، لدفع الأوضاع إلى مسارات حرب أهلية، لاعتبارات عديدة، أهمها: تحشيد المكوِّنات الأقلوية حوله، وربط مصيرها بمصيره، وتخويف المجتمع السوري من الثورة، وتخويف المجتمع الدولي من نتائج انتصار الثورة، وأثر ذلك على السوريين من أبناء المكونات الأقلوية.
وقد أضاف ظهور الحركات الإسلامية المتطرفة بُعداً متفجِّراً على تمزُّق مجتمع السوريين، حيث أثارت البرامج والمشاريع السياسية لهذه الحركات، من " الولاء والبراء " إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية، وسياستها المحكومة بمعايير متشددة، بما في ذلك قتل المرتد ورجم الزاني وقطع يد السارق ... إلخ، أثارت هواجس ومخاوف الكثيرين.
ويضاف إلى ذلك سعي سلطة آل الأسد إلى الضغط على جميع سكان المناطق المناهضة لها في دمشق وريفها بشتى الوسائل، من الترهيب إلى التجويع (مضايا ومعضمية الشام مثالاً)، دافعة بهم إلى مغادرة مناطقهم، بهدف إخلاء المنطقة التي تصرُّ على الاحتفاظ بها من ضمن ما يسمى " سورية المفيدة " من أية مجموعات معارضة لها، على غرار ما حاولت ولا تزال تفعله في تفريغ غلاف دمشق من سكانه السوريين، كما حصل في جنوب المدينة وريفها الغربي، وإحلال أهالي المرتزقة القادمين من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان مكانهم، ومنع سكانها السوريين والفلسطينيين من العودة إليها، مما يعكس أهدافها في تغيير خرائط ديمغرافية في عدد من المناطق السورية.
إنّ التحركات السكانية واسعة النطاق لم تكن مجرد نتيجة ثانوية أسفرت عنها الثورة، بل هي استراتيجية تطهير عرقي واعية تنفذها أطراف عديدة. فقد تقاطعت وتضاربت مصالح دول إقليمية وقوى دولية، وتعارضت والتقت. فإيران تسعى إلى الحفاظ على النظام، بهدف الحفاظ على مناطق نفوذها وامتداده إلى البحر المتوسط، عبر حزب الله، أداتها في لبنان الذي تدعمه لوجستياً عن طريق الأراضي السورية، وأي سقوط للنظام هو سقوط للمصالح الإيرانية هناك.
ومن جهة أخرى، لم يُبتذَلْ مفهوم سيادة الدولة بقدر ابتذاله، أو استخدامه، في القضية السورية، في بلاد ابتُذِل فيها كل شيء، فالدولة قُضِمت، وأضحت مجرد نظام أو سلطة. إذ أنّ فكرة السيادة هنا تفتقر إلى الركنين اللازمين، من زاوية القانون الدولي: أولهما، التزام الحاكم بالدستور، أي بالعقد الاجتماعي. وثانيهما، وجود مواطنين بمعنى الكلمة يتمتعون بالحقوق والواجبات المتساوية. الأمر الذي يطرح التساؤل حول مضمون كلمة وطنية هنا، المقترنة بالسيادة، إلا إذا كان القصد منها الدلالة على الحاكم، الذي اختزل المواطنين والوطن بشخصه، بل استدعى التدخل الخارجي الإيراني والروسي لحمايته.
ويأتي ضمن المخاطر، ضربٌ من اللاعقلانية، أصاب ممثلي الثورة، أو لعله غلب على جزء غير يسير منهم، تجلى في الرغبوية والإرادوية والنزعات التبريرية، طبقاً لما كتبه ماجد كيالي. أدى ذلك إلى انتشار واسع لتحليلات تبسيطية سطحية، ورواج الكثير من المعطيات الكاذبة، التي تقود الناس إلى استنتاجات مزيفة لا تعِد إلا بالأوهام.
ولكن ثمة عدة متغيرات حصلت في المشهد السوري وجعلته أكثر استعداداً للتسويات السياسية عما كان عليه عشية انعقاد مؤتمر " جنيف 2 " في أوائل عام 2014: أولها، الانخراط الروسي المباشر في الصراع السوري. وثانيها، تنامي الحاجة لدى حلفاء النظام لتمرير حل سياسي يخرجهم من حالة الاستنزاف المنهكة. فموسكو التي تتحمل المسؤولية الأكبر في إدارة الملف السوري، تبدو اليوم أقل قدرة على تحمُّل مزيد من أعباء استمرار الصراع وأكثر ميلاً لمعالجته سياسياً. في حين تزداد معاناة طهران الاقتصادية مع تراجع عائداتها المالية، جراء الانخفاض المتواتر في أسعار النفط، ومع استنزافها المتعدد الوجوه في العراق وسورية واليمن. وثالثها، تزايد الضغط الإقليمي لإطفاء بؤرة التوتر السورية، بعد أن أضحى التخوُّف على أشده مما تخلِّفه هذه البؤرة من استقطابات حادة واحتقانات مذهبية وطائفية، ومن أخطار اجتماعية واقتصادية على بلدان الجوار نتيجة الازدياد المتواتر لأعداد اللاجئين السوريين على أراضيها. ورابعها، موجة اللجوء السوري نحو أوروبا. وخامسها، تدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية وشيوع رغبة عارمة وضاغطة لدى السوريين بضرورة الخلاص من هذا التردي المريع في شروط حياتهم وعيشهم وأمنهم، ربطاً بتنامي استعداد المعارضة للتوصل إلى حلول تخفف من دوامة العنف وتحفظ وحدة البلاد ومؤسسات الدولة.
ويبدو أنّ المسار العام لتطور الموقف الروسي من الأزمة السورية، والتقارب المتنامي بين واشنطن وموسكو، يؤشران إلى متغيرات كبيرة مقبلة في الأزمة السورية، وتعزيز قوة الدفع الدولية للبدء بمرحلة انتقالية جدية. ولكن ثمة عقبات تعترض انطلاق الحل، بينها استمرار الخلافات على آليات التغيير والفترة الانتقالية ودور رأس النظام، وسبل الحفاظ على هياكل الدولة ومؤسساتها بما فيها الجيش والأجهزة الأمنية، وتوفير الحقوق والحماية لجميع المكوِّنات.
وقد لا تحصل الأمور وفق سياق خطة طريق فيينا، ولا تجري وفق الأزمنة والتواريخ التي حددها قرار مجلس الأمن 2254، لكن بكل تأكيد أُوقف صعود الخط البياني لمسار الأزمة ولُوي مساره نزولاً.
وبين كل الاحتمالات يبدو أنّ مآل الحل الواقعي والمنطقي، الذي يتفق مع مصلحة السوريين، السعي لإنهاء الوضع الكارثي السوري بحل سياسي تفاوضي يقيم حكماً انتقالياً بكامل الصلاحيات، بالتشارك بين من لم تتلطخ أياديهم بدماء السوريين من أهل النظام وممثلي المعارضة السورية، يوقف إطلاق النار ويقود عملية انتقالية تمر بدستور جديد وانتخابات تشريعية ورئاسية وعودة المهجَّرين وإعادة الإعمار ومواجهة المنظمات الإرهابية، وكل من لا يقبل بوقف القتال والاحتكام لعملية سياسية ديمقراطية.
وبناء على ما تقدم، يبقى العامل الذاتي الوطني حجر الأساس في أيِّ تعامل مع المبادرات والجهود التي تقارب المسألة السورية. فمن دون قيادة سياسية متماسكة للمعارضة تمتلك رؤية سياسية واضحة ومطمئنة لسائر المكوِّنات السورية، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، وتكون بعيدة كل البعد من التعصب والتطرف، وتأخذ في اعتبارها المعادلات الإقليمية والدولية، وتؤكد للجميع أنّ سورية المستقبل ستكون عامل استقرار وانسجام لمصلحة الجميع، ستبقى الأمور عائمة، مفتوحة على غير ما هو منشود.
ويستدعي هذا، قبل أي شيء آخر، العودة إلى ذاتنا، واستعادة روح الثورة والمبادئ التي كانت تمثلها، في الحرية والكرامة وحق الشعب في تقرير مصيره، ورفض المساومة على القضية التي ضحَّى من أجلها ملايين السوريين، بعضهم بأرواحه وبعضهم بمستقبله وكل ما يملك، فمن دون إحياء روح الثورة من جديد، وتعميم إشعاعها في قلوب أغلب السوريين، لن يبقى هناك أيُّ معنى، وسيتحول الكفاح البطولي المرير للشعب السوري، منذ خمس سنوات، إلى اقتتال مجاني، عبثي.

تونس في 6/2/2016 الدكتور عبدالله تركماني
باحث استشاري في الشؤون الاستراتيجية