الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 7


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5068 - 2016 / 2 / 7 - 12:23
المحور: الادب والفن     

ج) ميلاد أدب فلسطيني جديد
في الفترة الواقعة بين ثورة 36-1939 ونكبة 1948، استولت الإقطاعية بالتحالف مع الاستعمار على الفن (الأدب على الخصوص)، واستخدمته للتعبير عن قيمها ومصالحها، فبقي الأدب عاجزًا تحت سيطرتها –إلا من بعض الأمثلة القليلة كإبراهيم طوقان وخليل السكاكيني وعبد الرحيم محمود- إلى أن أعلن احتلال فلسطين جهرًا الإخفاق التاريخي لهذه الطبقة وميلاد أدب فلسطيني جديد، وذلك عند ربطنا الظروف الخارجية للأدب بأدبيته، ونحن بهذا نفعل ما فعله رولان بارت لما لم يعتمد المضمون السردي في تسلسله التاريخي، وجعل من مهمته التوصل إلى إعطاء وصف بنيوي لوهم التسلسل التاريخي، إذ على المنطق السردي أن يعرض للزمن السردي.
بعد 1948، صدرت مجموعات قصصية عديدة، كُتب بعضها عن الهزيمة، نلمس من خلالها تأثير الأحداث التاريخية على الواقع الاجتماعي، والانتقال الملموس من رؤية عامة وغيبية إلى رؤية واقعية وتقدمية، ونلمس كذلك إبراز بعض الملامح الأدبية الإبداعية، فالزمنية كما نرى رؤية رولان بارت ليست سوى طبقة بنيوية للقصة (للخطاب)، والزمن لا يوجد إلا تحت شكل نظام، تمامًا كما هو عليه في اللغة، وهو هنا كمرجع عند اختيارنا للثلاثة نماذج الأدبية التالية.

1 – نجاتي صدقي: الثقافة الوطنية

شُحنت الثقافة الوطنية بمعايير إبداعية جديدة، وهي وإن ظلت عاجزة عن رؤية عينية للصراع مع قوى الاستعمار، وبقيت مشدودة إلى كل ما هو نظري، إلا أنها ساهمت في تحديد دور الأديب "الصحيح –مثلما يرى الدكتور عبد الرحمن ياغي- ... الذي يضرب مساوئ الحاضر بحسنات الماضي، ويصور مستقبلاً جميلاً... وأن الأدب هو علم الإنسان... يرمي إلى إدراك كنه حقيقة الإنسان." (26)
بالأحرى نحن نضرب محاسن الحاضر بمساوئ الماضي، وعند هذا المستوى من التحليل، المعايير الإبداعية هي أحداث قصصية، نراها رؤية عالم اللسانيات تزفيتان تودوروف بحد ذاتها، دون الأخذ بعين الاعتبار ما تقيمه من علاقات بالعناصر الأخرى. لهذا قلنا ساهمت المعايير الإبداعية الجديدة في تحديد دور الأديب، المعيار إبداعي، والدور الذي هو الحدث أدبي، وكلاهما، أي المعيار والحدث، في السياق النقدي الذي نحن بصدده، واحد. وتجاوزت المعايير الإبداعية الجديدة كذلك المعايير القديمة التي تستند إلى العادات والتقاليد البائدة وكل ما هو متخلف من أجل ثقافة أوسع كما يواصل الدكتور ياغي: "والإنسان لا يكون مثقفًا إلا إذا تحلى بثلاث سجايا: التحرر من الخرافات، والتفكير في غده وغد غيره من أبناء قومه، والقدرة على تخطي الحدود الضيقة في تفكيره." (27)
المعايير هنا هي في الوقت ذاته أحداث: التحرر، التفكير، القدرة، وهي بعض المعايير الرئيسية لقصة "جثة حية" من مجموعة نجاتي صدقي "الأخوات الحزينات" المكتوبة بين 1939 و 1948. ورغم ما يؤكده أحد أبطالها بأن "الأدب الواقعي إنما هو تصوير الحياة بدقة وصدق، ومن مميزاته انتقاء الحقائق المحيطة به" (28)، إلا أن ذلك يبقى عند حدود النظرية في جميع قصص المجموعة، فالنظرية هي المعايير، وهي الأحداث، إنها التقنية، فيما يخص المعايير، فيما يخص الأحداث. حتى أن الرمز في "الأخوات الحزينات" الذي يستعمله الكاتب لم يكن باستطاعته عكس الواقع بوضوح، بما في ذلك الكفاح ضد الاستعمار والصهيونية، فيما يخص التعابير.
يتميز هذا الكفاح في بعض أشكاله الاستعارية بموضوعة محو واقتلاع الشخصية الفلسطينية التي أعطت موضوعة التعلق بالأرض، فللتعلق بالأرض صفة الأولوية في الأدب الفلسطيني خصوصًا والأدب العربي عمومًا، ولنذكر مثلاً على ذلك توفيق الحكيم في علاقته المتينة بالأرض بالمفهوم العام وأرضه بالمفهوم الخاص، كما يقول المستعرب الكبير أندريه ميكيل في كتابه "الأدب العربي"، بغض النظر عن موقفنا المعارض لموقف الحكيم من مسألة الفلاح المِصري الذي يعتبره سعيدًا بتعاساته.
هاتان الموضوعتان إذن (موضوعة محو واقتلاع الشخصية الفلسطينية وموضوعة التعلق بالأرض) مرتبطتان سيميائيًا، ولا يمكن تفسير إحداهما إلا بعلاقتها بالأخرى، بمعنى أن كل واحدة منهما تقترح تحت شكل قصصي ما يماثلها في الثانية.
وتتطور موضوعة التعلق بالأرض لتأخذ سمة اجتماعية أكثر عمقًا وأخرى لغوية أكثر جذرية عندما يقدم الأدب الفلسطيني الجديد صورة واقعية عن الأرض مع صاحبها الفلاح كممثل للفئات المسحوقة، وعندما يدلل سيميائيًا على ألا معنى لكل منهما إلا بعلاقتهما الوثيقة المتبادلة (سيصل التحليل البنيوي إلى استخلاص بعض الصور الجمالية المفروضة فرضًا على هذه العلاقة).

2 – أسمى طوبي: الأرض

في قصة "أمنا الأرض" من مجموعة أسمى طوبي "أحاديث من القلب" لدينا صورة "للعم مصطفى، وهو يزيل عرقه من جديد عن جبينه، ويقلب أرض حديقتنا. كانت القطرات المبلورة تنحدر لتمتزج بالتراب، وسمعته يهمس: ما أصدق هذا! إن عرق جبيني وقوة عضلاتي في الأرض، دم قلبي أيضًا هناك. لقد حرثها آبائي وأجدادي لعشرات السنين، فلن أكون الرجل الذي يضيعها." (29)
يبدو التماثل هنا بين الموضوعتين (موضوعة محو واقتلاع الشخصية الفلسطينية وموضوعة التعلق بالأرض) في التتالي، فالمفردات "الأرضية" مفردات القاصة وبطل القص، التي هي واحدة، كما لو كانت لشخص واحد، وبالتالي لم يكن هناك تعارض في المضمون، ولا في النبرة. العلاقة بين القاصة وبطل القص علاقة متماثلة دافعها الصدق، صدق الشعور، صدق التعبير، صدق الصورة. لكن الحديث عن صدق الصورة لا يعني جمالها، وفي الوقت ذاته لا يعني استقلال الوظيفة الجمالية (كدت أقول الشعورية) التي هي جنينية هنا، بالمقارنة مع مولد الأدب الفلسطيني الجديد، والتي نرى من خلالها أن للتأكيد على موضوعة الأرض في الأدب الفلسطيني دلالات عديدة منها: امتزاج الإنسان الفلسطيني بالأرض الفلسطينية، وتعلقه بها، وفي سبيلها يقف ليواجه التحديات (امتزاج قطرات العرق بذرات التراب، وكذلك القوة والدم، وفي الأخير صرخة التحدي: لن أكون الرجل الذي يضيعها!)
هذا التعلق بالأرض الذي نجده يعود دومًا ليطبع الأدب الفلسطيني، فهو الشكل الأكثر انتشارًا لمبدأ التماثل، كما يرى تودوروف في سياق آخر، وكما يعبر عنه بمصطلح "التوازي"، فكل توازٍ يتكون من متتاليتين على الأقل تحتويان على عناصر متماثلة ومتخالفة. بفضل المتماثلة تزداد المتخالفة بروزًا، واللغة، كما يرى عالم اللسانيات، تعمل قبل كل شيء عَبر الاختلافات. بناء على ذلك، سنرى لاحقًا كيف تعددت دوافع التعلق بالأرض عند غسان كنفاني، وتنوعت أشكاله التعبيرية بعد أن غدا محور الكفاح الفلسطيني غداة نكبة 48.

3 – سميرة عزام: الالتزام الاجتماعي

جاءت قصة "في الطريق إلى سليمان" من مجموعة "أشياء صغيرة" لسميرة عزام، لتصور دفاع الإنسان الفلسطيني عن الأرض أمام هجمات الصهاينة عام 1948، فأخذ هذا الدفاع شكل التوازي القصصي، وطغى على كل العناصر الأخرى في النص. فالصراع من أجل الأرض يأخذ مداه في قصة "خبز الفداء"، حيث تعيد الكاتبة صياغة الواقع الذي عاشته قبل احتلال عكا، وذلك عندما يتحدى البطل العدو، ويسيل دمه فداء للأرض.
التوازي هنا بين قطبي الصراع السياسي، الفلسطيني والإسرائيلي، وعلى مستوى القص بين خيوط الحَبكة، كما يرى تودوروف، يتعلق بالوحدات الكبرى للقصة، محو واقتلاع الشخصية الفلسطينية والتعلق بالأرض، وهناك توازٍ بين الصيغ اللغوية، الذي سنتركه جانبًا، عند هذا المستوى من التحليل.
اعتمادًا منا على التوازي بين قطبي الصراع السياسي، نجد أن عنصر تحدي العدو يرافق عنصر تحدي القيم التقليدية في المجتمع، فقد تميزت قصة "أشياء صغيرة" بموقف جديد يرفض كل ما هو "خالد ومقدس وأصيل" في العائلة، تحت معنى سلبي للخالد والمقدس والأصيل، عبّر عنه مستوى العلاقات السائدة. إذ تدور القصة حول فتاة كانت تظن نفسها من سلالة متميزة عن سائر البشر، لما كرسه والداها في عقلها من أفكار محافظة. لكنها اليوم أصبحت شخصًا جديدًا متفتحًا استرد ثقته بنفسه، وامتلأ حسه بالوجود في اللحظة التي اكتشفت فيها زيف وضعها الاجتماعي السابق، بعد أن أحبت رجلاً فتح عينيها على أمور كثيرة غابت عنها في الماضي.
كذلك، تتطرق الكاتبة إلى التوازي بين قطبي الصراع الاجتماعي، الفلسطيني والفلسطيني، فتطرح "قصة في رسالة" موضوع سقوط المرأة المسحوقة، و "على الدرب" كيف يتخلى الخطيب عن فتاته الفقيرة بعد أن أصبح سائقًا خاصًا لصاحب المصنع (دون أن نربط –عند هذا المستوى من التحليل- هذه العناصر بمستوياتها الدلالية).
ترمي الكاتبة من طرح مشاكل المرأة إلى البحث عن عالم أفضل ينتهي فيه اضطهادها، فهي ترى أن ليس هناك فصل بين التصدي للاحتلال ومواجهة العدو وبين التصدي لآفات المجتمع ومواجهة الفكر المتخلف. وترى الناقدة نادرة جميل السراج أن القاصة قد حاولت: "في قصتي "إلى حين" و "زواج العمة" أن تصور صورتين من صور الانتهازيين من الأقارب، فالعمتان في القصة الأولى تريدان اقتناص شاب غني لابنة أخيهما... أما في القصة الثانية، فهي تصور طمع الأخ وزوجته في مال شقيقته الأرملة..." (30)، مع ملاحظة أن النقد الوصفي هنا لا يتناول عمليات التركيب النصي، ويكتفي بتلخيص الواقعة، فالتركيز على الواقعة، والاكتفاء بهذا التركيز، لا يخدم النص في تركيبه، ولا الشخصيات في علاقاتها.
أخيرًا نقول إن في باقي قصص المجموعة موقفًا اجتماعيًا واضحًا يرفع مطلب "التحول" الذي رسمته علاقات الشخصيات المتبادلة بشكل غير مباشر من خلال التأكيد على ظاهرة الفقر والبحث عن القوت اليومي، وقد عبرت سميرة عزام بهذا عن بعض سمات الحياة الفلسطينية التي شكلت البنية الاجتماعية والاقتصادية العريضة لعدم استقرار الإنسان الفلسطيني وشعوره المعذب في المنفى.


المراجع
(17) إميل توما: المرجع السابق، ص ص 216-217
(18) إميل توما: المرجع السابق، ص 217.
(19) إميل توما: المرجع السابق، ص 218.
(20) عباس محمود العقاد: عبقرية عمر، المكتبة التجارية، القاهرة 1948، ص 11.
(21) عباس محمود العقاد: المرجع السابق، عناوين بعض الفصول التي تركز على الأنا الأرستقراطية.
(22) جلال فاروق الشريف: الشعر العربي الحديث والتحديات الجديدة، مجلة الموقف الأدبي رقم 6، دمشق 1974، ص 7.
(23) جمال عبد الناصر: خطاب 9 آذار 1958 في دمشق، مجموع الخطب والتصريحات والبيانات، الجزء الثاني، القاهرة، ص 1957.
(24) إحدى التركات المفجعة للاستعمار ما يطلق عليه فرانز فانون "تجهيل" Déculturation الشعب المسحوق، ويجري التعبير عن ذلك التجهيل بواسطة "تلقين" Acculturation اللغة الفرنسية في الجزائر، والذي لا يمكن استبداله بعملية تعريب بسهولة، وهكذا فقد كتب محمد ديب روايته "صيف أفريقي" بالفرنسية، وقام بترجمتها إلى العربية جورج سليم في دمشق عام 1964.
(25) أحمد إبراهيم الفقيه: الجراد، مجلة المعرفة عدد 64، دمشق 1967، ص ص 99-116.
(26-27) عبد الرحمن ياغي: حياة الأدب الفلسطيني، المكتب التجاري، بيروت 1969، ص ص 503-504.
(28) عبد الرحمن ياغي: المرجع السابق، نفس الصفحات.
(29) عبد الرحمن ياغي: المرجع السابق، ص 514.
(20) نادرة جميل السراج: سميرة عزام في ذكراها الخامسة، مجلة شئون فلسطينية، أكتوبر، بيروت 1972، ص ص 74-75. حول "أشياء صغيرة" لسميرة عزام، دار العلم للملايين، بيروت 1954.


يتبع 3 – غسان كنفاني: طريق الكاتب الفلسطيني