الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 3


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5064 - 2016 / 2 / 3 - 12:40
المحور: الادب والفن     

ب) فترة سنوات الخمسين (الفترة الانتقالية)

1 – دياسبورا الشعب الفلسطيني وشباب غسان كنفاني
تندرج حياة غسان كنفاني في السياق التاريخي الذي حددناه: ولد يوم 9 نيسان 1936، سنة أول ثورة كبرى ضد الاستعمار، في عكا، المدينة الحصينة الواقعة في شمال فلسطين، حيث كان أبوه يمارس مهنة محام، أي أنه أمضى شبابه المبكر في فلسطين، في جو من الكفاح المتصف بحالة عدم الأمن، والذي أدى إلى غزو القوات الصهيونية لعكا.
طُردت عائلة كنفاني من بيتها وأرضها، ومثلت سنوات الخمسين في حياتها عدم الاستقرار الدائم، إذ أقامت العائلة أولاً في الغازية، قرية من جنوب لبنان، وبعد ذلك في زبداني السورية، وأخيرًا في دمشق.
أما بالنسبة للشعب الفلسطيني، فقد كانت هذه حالة الآلاف المؤلفة من العائلات، ونحن نصف هذه الفترة بالتشتت الأولي، ثم، بالتجمع التالي.
لقد تبدل الوضع جذريًا: بلا بلد، بلا تنظيم دُوَلي (من دول)، بلا تنظيم سياسي، الإحساس بالعار نفسيًا، الحرمان من كل شيء ماديًا، ومثلما يقول هاني مندس: "لقد عمق الإحساس بوجود مؤامرة مستمرة طرح مشاريع التوطين والتهجير التي حاولت الوكالة القيام بها في الخمسينات بغية محو الهوية السياسية للشعب الفلسطيني عن طريق التعامل معه بتحويله من شعب له حقوقه التاريخية القومية في فلسطين إلى شعب من اللاجئين." (11)
كيف يمكن البدء من جديد في وضع كهذا؟
على الشعب الفلسطيني أن يعيد تجمعه بشكل آخر يتفق والوضع التاريخي الجديد، وعليه أن يثبت نجاح هذه المهمة الصعبة دون الانهيار في عملية دمج في الجنسيات الأخرى، بخلاف الأردن، فالشعب واحد والأرض واحدة، والدمج الدستوري جرى على الفلسطينيين، وهم فوق أرضهم (الضفة الغربية)، والذي عن طريقه يمكنهم اليوم (طبعة 1993) تحقيق كيانهم المستقل الوحدوي (مع الضفة الشرقية لا مع إسرائيل). هذا ولم يكن يرتكز الوضع التاريخي الجديد على طاقة وقدرات القوى الوطنية للشعب الفلسطيني فحسب، بل وعلى ما كان يسمى بالإرادة الدولية لقوى التحرر في العالم، فقد أبدت سنوات الخمسين في العالم قاطبة تيارًا واسعًا لحركات التحرر الوطني، وعملت القوى الوطنية على إدراج كفاح الشعب الفلسطيني لإعادة بناء كيانه القومي في هذا السياق.
لِنُشِرْ إلى هذه الحركة الدولية المناهضة للاستعمار ببعض التواريخ: 1947 استقلال الهند، 1952 فشل البريطانيين في استيطان كينيا، فكانت المقاومة المسلحة التي عجلت فهم أن عصر الاستعمار قد انتهى، ثم الانتصار الساحق لكفاح الشعب الفيتنامي في ديان بيان فو سنة 1953، مما أدى إلى مغادرة الفرنسيين للهند الصينية. وفي الأخير، نعطي مثلاً عظيمًا لشعب عربي بربري شقيق: انفجار الثورة الجزائرية عام 1954 لطرد الفرنسيين (اليوم يأكل الجزائريون أصابعهم ندمًا على ذلك، فالأسباب معروفة للقاصي والداني!)، الثورة الجزائرية هذه التي رافقت تغيير أنظمة الحكم في العراق ومصر خاصة (اليوم نرى هذا التغيير بعين أخرى!).

2 – طريق الثورة الصعب
تبدل الوضع بشكل جذري بعد الحرب العالمية الثانية، بينما كان المناخ السياسي قبل هذه الحرب غير مؤاتٍ لكل كفاح من أجل الاستقلال، فساعد الوضع الجديد الشعب الفلسطيني على الخروج من شدته ويأسه، ليعيد ولادته على الرغم من الهزيمة الماحقة. ردت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر على هذا التحول في علاقات القوى بعدوانية مزدوجة: داخلية ضد قوى العمل في بلدها، وخارجية ضد القوى نفسها فيما كان يسمى "الاتحاد السوفياتي"، فقامت "الحرب الباردة" على ساقها. وفيما يخص الصراع بين حركات الاستقلال الوطني وحركات الاستعمار القومي، سجلت سنوات الخمسين كذلك تأميم شركة قناة السويس الأجنبية عام 1956، وعلى الرغم من التدخل الفرنسي-البريطاني-الإسرائيلي والنجاح العسكري الذي حققه هذا التدخل إلا أن هيئة الأمم المتحدة قد أدانته، وكان الثقل السياسي لما كان يسمى "المعسكر الاشتراكي" أحد العوامل الهامة التي أجبرت البلدان المعتدية على الانسحاب. في جانبها الحقيقي، اعتمدت إدانة المنظمة الدولية على إدانة أمريكا لعدوان الدول الثلاث، بعد أن رأت فيها هذه الأخيرة منافسًا لتوسعها وغطاء للجيش الأحمر الذي أحال بودبست إلى رماد.
والحال هذه، فإن المناخ السياسي لسنوات الخمسين يمثل انطلاقًا كبيرًا (يبدو ظاهريًا اليوم) للبلدان التي قامت بواجباتها الأولى نحو ما كان يسمى "الثورة الوطنية"، على نقيض الشعب الفلسطيني الذي لا بلد له ولا دولة ليقوم بهذه الواجبات، وكما ينقل معين محمود: "أقام الفلسطينيون منذ عامي 47/48 في البلاد العربية على طول الحدود المجاورة للمنطقة المحتلة من فلسطين، سواء في الخيام التي أقامتها وكالة الغوث الدولية، أو في الكهوف، ولا يزالون يقيمون فيها منذ ذلك التاريخ حتى الآن عرضةً لحر الصيف القاتل، ولبرد الشتاء القارس، وللأمراض الفتاكة، يحيون حياة البؤس والفاقة، ويسدون رمقهم بالدمع والعرق." (12)
ذهب بعض الفلسطينيين إلى السعودية أو إلى بلدان الخليج العربي، ومنهم من هاجر إلى الغرب لكسب لقمة العيش مثلما يتابع الباحث معين محمود: "بلغ عدد اللاجئين المسجلين في وكالة غوث اللاجئين بالإضافة إلى عدد اللاجئين في غزة والضفة الغربية قبل 5 حزيران 1967، 1344576، أما غير المسجلين 1109424، بمعنى أن العدد الإجمالي 2453000." (13)
على ضوء هذه الوقائع، نستطيع أن نفسر حياة غسان كنفاني المضطربة في دمشق، عاملاً وأستاذًا وصحفيًا، ثم في الكويت عام 1956، أستاذًا لسنوات ست، وبعد ذلك قدومه إلى بيروت ليعمل في جريدة "الحرية".
لكن الأحداث التي كانت تدور في بعض البلدان العربية قد جعلت الشعب الفلسطيني يسبح في أحلامه، فعلى الرغم من الوضع اليائس للحاضر، بدأت معالم التحول تتضح لصالح هدف الشعب الفلسطيني الأساسي: ألا وهو استرجاع الأرض والحق والوطن.


يتبع ج) الكفاح من أجل التحرر الوطني (المرحلة الثانية)