الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 2


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5063 - 2016 / 2 / 2 - 13:47
المحور: الادب والفن     

القسم الأول

غسان كنفاني، الشعب الفلسطيني، والثورة العربية

1 – مرحلتا كفاح التحرر الوطني من 1936 إلى 1965

أ‌) الكفاح ضد الاستعمار من 1936 حتى نكبة 1948 (المرحلة الأولى)

يعتبر تاريخ الشعب الفلسطيني، منذ الحرب العالمية الأولى، تاريخ مقاومته ضد استعمار فلسطين، وبسبب السيطرة المتتابعة لإمبراطوريتين استعماريتين، الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية البريطانية، رأى الشعب الفلسطيني نفسه ممنوعًا منذ عهد طويل من إقامة كيان على شكل دولة مستقلة. في هذا الوضع، البعيد تاريخيًا، كان على الشعب الفلسطيني أن يواجه عدوًا آخر جديدًا، لا يريد استعمار بلاده فحسب، لأسباب سياسية واستراتيجية، بل وامتلاك الأرض نفسها، هذا العدو هو الصهيونية بشتى أشكالها من منظمات سياسية وعسكرية ودعائية.
وهكذا تميزت المرحلة الأولى للكفاح من أجل التحرر الوطني بهاتين الجبهتين ضد الاستعمار البريطاني وضد الاستعمار الصهيوني لفلسطين. نذكر تاريخًا هامًا في عمر هذا الاستعمار المزدوج: التحالف الذي ربط بريطانيا بالصهيونية عام 1917، والذي عرف منذ ذلك الحين بوعد بلفور.
لقد ارتكز استعمار فلسطين على شكلين أساسيين استطاعا فيما بعد أن يحددا جدليًا أشكال المرحلة الأولى للمقاومة:
1 - سياسيًا، بوعود كاذبة لبريطانيا من أجل استقلال وطني عبر عنها تقرير اللجنة العسكرية –كما جاء في منشورات وزارة الإرشاد القومي السورية- بعد أن عزا "الاضطرابات التي حدثت إلى يأس العرب من تحقيق الوعود التي قطعت لهم أثناء الحرب بالاعتراف باستقلالهم، وإلى ثقتهم بأن تصريح بلفور يتضمن عدوانًا على حقوقهم في تقرير مصيرهم، وكذلك إلى خشيتهم من أن يؤدي إنشاء الوطن القومي اليهودي إلى تضخم الهجرة اليهودية تضخمًا يسفر عن استعبادهم اقتصاديًا وسياسيًا." (1)
2 – اقتصاديًا، بشراء الأرض من كبار الملاكين الإقطاعيين وتقسيمها إلى مستوطنات منظمة على شكل معسكرات حربية حيث "كان المظهر الثاني للتسلط الصهيوني والتآمر البريطاني هو تسهيل انتقال الأراضي العربية إلى اليهود عن طريق القوانين الخاصة (المرجع السابق)، وبواسطة تمليك أراضي الدولة، وبإغراء بعض الأسر الإقطاعية العربية التي كانت تملك أراضي حقيقية واسعة بأن تبيع أرضها" (2)... لتتحول إلى مستوطنات. "كما أن السلطة الاستعمارية كانت تتغاضى عن وصول السلاح إليها -مثلما يقول ناجي علوش- وتقدم أسلحة للمستوطنات من أجل مواجهة نقمة السكان الفلسطينيين ومن أجل السيطرة على الموقف في حالة الصدام." (3)
تتجسد المقاومة في ذلك التاريخ، والتي بلغت أوجها في ثورة 1936 الشعبية، عَبر معارضة هذين الشكلين الاستعماريين، فالنضال المسلح بين 1936 و1939 قد وحّد للمرة الأولى القوى الشعبية وقسمًا من البرجوازية الوطنية وجناحًا من الإقطاعية المناهضة للاستعمار تمامًا كما حصل مع "الجبهة الشعبية" عام 1936 في فرنسا التي وحّدت أيضًا قسمًا كبيرًا من البرجوازية والبروليتاريا لمواجهة خطر الفاشية، مثل هذه الأحلاف تنقطع عامة وقت اصطدام الحركة بمسائل التقدم الاجتماعي، كذلك كما حصل مع "الجبهة المتحدة" كوومينتانج والحزب الشيوعي في الصين بين سنتي 1924 و1927، هذا التحالف الذي انقطع كذلك حالما بدا أن خطر الاعتداء الياباني أقل تهديدًا من الاختصام داخل الجبهة. وفي الحالة الفلسطينية، تجسد ذلك من أجل طموحين جوهريين، جرى التعبير عنهما:
1 – سياسيًا، بالمطالبة الواضحة بالاستقلال الوطني. ومع هذا، كان شكل هذه المطالبة مشروطًا، إيديولوجيًا وسياسيًا، بالبرجوازية والإقطاعية، مثلما يرى إميل توما في كتابه "جذور القضية الفلسطينية": "لم تختلف شعارات اللجنة العربية العليا (توحدت القيادة التقليدية في اللجنة العربية العليا برئاسة المفتي لتستلم زمام القيادة السياسية) عن شعارات الحركة القومية: وقف الهجرة، ومنع بيع الأراضي، وإنشاء حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي." (4)
2 – اقتصاديًا، بمعارضة كل الطبقات في فلسطين، والتي لا تتفق مصالحها بالضرورة، للسوق التجاري الذي أقامته الصهيونية ولامتلاكها للأراضي، "فقاوم المواطنون العرب –مثلما يضيف ناجي علوش- النشاط الصهيوني كله بنشاط مضاد، وبمحاصرة التوسع الصهيوني." (5)
وهكذا اشترط ثورة 1936-1939 عدوان استعماري ومقاومة نطلق عليها مصطلح الكفاح ضد الاستعمار، واستلفتت الصيغ الإيديولوجية النظر بشكل واضح إلى الطبيعة المحدودة التي يتصف بها كفاح كهذا، لا يكمن ذلك في جهل الأسباب الحقيقية للاحتلال فحسب، بل وفي أشكاله التقليدية للمقاومة. فما كان ناقصًا، في تلك المرحلة الأولى، العامل الذي من العادة أن يتميز به كفاح الثورة الوطنية الديمقراطية، هذا العامل هو: المعرفة الواضحة والواعية للتقدم الاجتماعي الممكن تحقيقه في آن واحد والاستقلال الوطني، مثلما يرى سامي الجندي: "كانت التنظيمات التي قامت في فلسطين بين 1918 و 1940 تنظيمات عشائرية قامت عليها زعامات عائلية تقليدية للمحافظة على زعامتها، شوهت معالم التنظيم، وهاجمت كل ما هو علمي في روح التنظيم، لأن التنظيم المبني على أسس علمية يؤدي بالنتيجة إلى زوال الزعامات، فعملت جاهدة للحيلولة دون قيام منظمات علمية قادرة على مواجهة الاستعمار والصهيونية ذات التنظيم الدقيق." (6) مما يظهر التوجه الإيديولوجي الذي سيطر على الثورة: "فالاستشهاد كان غاية الجهاد –مثلما يؤكد هشام شرابي- وهكذا لم يكن الكفاح وطنيًا بقدر ما كان دينيًا." (7) وفي سياق تاريخي محدد، أن يكون دينيًا تحت شرط أن يكون محفزًا من بين محفزات الكفاح الوطني لا كل محفزاته، وألا يأخذ منحى كليًا فيه.
ويمكن تفسير الملامح المحدودة للثورة بفشلها، ولماذا فشلها؟ لأن اتحاد مختلف الطبقات الفلسطينية المتعارضة لا يستطيع تحقيق أي هدف مهما كان محدودًا. ومن ناحية أخرى، يمكن تفسير فشل الثورة باستسلام الزعماء الإقطاعيين للجيش البريطاني، والذي كان من نتائجه عدم الوصول إلى أي هدف. وعلى العكس، أظهر فشل القوى الشعبية أن عدم تحقيق الأهداف لم يكن إلا لأسباب داخلية في جبهة المقاومة، وبالتالي لم تذهب عبرة الدرس المسحوب من الثورة سدى، لأن ذلك مُدرج في العملية المتطورة للنضوج، والتي أثبتت أن الإقطاعية –مثلما يرى زكي المحاسني- عاجزة عن قيادة الثورة عندما يقول: "أما الذين ادعوا النضال من أجل فلسطين من الوجهاء الإقطاعيين فقد كشفوا عن عجزهم... إنهم ضعفاء، يدعون الذود عن الحمى زورًا." (8)
"وهكذا –مثلما يقول هشام شرابي- فإن تثوير النظرة (بمعنى تحول الوعي السياسي) الذي هو الشرط المسبق لتثوير التنظيم (بمعنى تحول البنى السياسية والعسكرية) لم يصطدم بالتفرقة القائمة فحسب، بل وبالتقليدية الراسخة المعقدة ذاتيًا." (9)
اتصفت الفترة اللاحقة حتى 1948 بتدهور وضع الشعب الفلسطيني داخل بلده، فالظروف العالمية قد تغيرت بصفة جذرية، إذ أن الحرب العالمية الثانية وعملية إبادة اليهود في أوروبا قد سمحتا للصهيونية بالعمل على ترويج إيديولوجيتها في الغرب: وذلك بأن حل المسألة اليهودية كامن في احتلال فلسطين. ولتواجه بريطانيا احتدام الحرب العالمية، حاولت بكل السبل التخفيف من حدة التوتر في مستعمراتها، فكان من جديد الوعد باستقلال فلسطين، بينما جاء الموقف البريطاني تجاه الصهاينة على شكل تنبيه، للحيلولة دون خطر انقلاب الهدوء العارض المهيمن على أوضاع البلاد. في ذلك الوقت، كانت بريطانيا قد ضعفت، وأخذت الصهيونية تبحث عن حليف جديد قوي يمثل مصالحها وجدته في الولايات المتحدة الأمريكية، فأقام عدو الشعب الفلسطيني في زاوية جديدة، وبدأت الحليفتان القديمتان، بريطانيا والصهيونية، تنفصلان في اللحظة التي أخذت فيها هذه الأخيرة بالإعداد لاستبدال التحالف الاستعماري بآخر أكثر قوة.
فيما يخص الشعب الفلسطيني، لم يكن مهيئًا بما فيه الكفاية لحل المشكلتين اللتين طرحتهما ثورة 1936-1939، وهما:
1 – التخلص من القيادة الإقطاعية في كفاحه الذي كشف عن عجزها.
2 – تحديد برنامج عمل دقيق لتحقيق أهداف الكفاح من أجل الاستقلال.
هذا ويجب الإلحاح على الحالة التاريخية لذلك الوقت، والتي أدت إلى ولادة تحالف استثنائي بين الشعوب المستعمَرة ومستعمريها لمواجهة خصم أشد خطرًا، ألا وهو الفاشية، وقد تم هذا التحالف مرة أخرى نتيجة لوعود الإنجليز بالاستقلال، والحال كذلك بالنسبة إلى الوعود التي قطعت للشعب الهندي كي يقاتل إلى جانب الإنجليز ضد الفاشية، وبخصوصنا نذكر كما يدلل على ذلك إميل توما:
"وقبلوا فيما بعد بيان الحلفاء الذي صدر في 8 نوفمبر 1918 لتبديد الشكوك المتعاظمة في نوايا بريطانيا وفرنسا الإمبريالية في المنطقة، وجاء فيه: إن السبب الذي من أجله حاربت فرنسا وإنجلترا في الشرق هو رغبتهما في تحرير شعوبه من ظلم الترك واستعبادهم وخلاصهم من عسف الألمان ومطامعهم..." (10)
شجعت هذه الظروف التاريخية إذن التوسع الاستيطاني الصهيوني، وأعاقت إعادة التجمع الثوري لدى الشعب الفلسطيني. وحتى بعد انتهاء التناقض مع الفاشية، وبعد مواجهة الصهاينة المباشرة لأول مرة، وجد الشعب الفلسطيني نفسه دومًا تحت قيادة الطبقة الإقطاعية. غير أن هزيمة 1948 كانت هزيمة كلية للأنظمة الإقطاعية العربية، ونتيجة لذلك، كانت سنوات الخمسين تشكل انقطاعًا مع ماضٍ يمكن التعبير عنه سياسيًا بسقوط الملكية في مصر والعراق. أما للشعب الفلسطيني، فقد كانت الهزيمة مأساوية: الإبعاد عن الوطن بالقوة، وحياة المنفى في مخيمات اللاجئين.


يتبع ب) فترة سنوات الخمسين (الفترة الانتقالية)