قراءات في كتب


جواد بشارة
الحوار المتمدن - العدد: 5052 - 2016 / 1 / 22 - 11:54
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

قراءات في كتب
الفخ داعش
الدولة الإسلامية أو عودة التاريخ
بيير جون لويزار
منشورات لاديكوفيرت 2015
عرض وتقديم د. جواد بشارة

المؤرخ والباحث الفرنسي المتخصص بالإسلام ، وعلى نحو خاص بالإسلام الشيعي، بيير جون لويزار تتبع في كتابه الأخير، مسار داعش وغاص في ديناميكيتها ووضعها في ظرفها الحقيقي. لقد عاد إلى مرحلة الاستعمار والهيمنة العثمانية على العالم الإسلامي . كما تمكن الباحث من إظهار كيف استفادت داعش من أوهام الدولة القومية التي سوقها حزب البعث الحاكم لعقود طويلة، وكيف استغل القلق والامتعاض المتولدين لدى سنة العراق إثر فقدانهم للسلطة في أعقاب سقوط النظام الصدامي ، واستغلال داعش لتفكك البنى التحتية في العراق وسوريا وضعف نظاميهما بعد أن أغرقا في أتون الصراعات الطائفية والمذهبية، والدينية والقومية أو العرقية. بيد أن لويزار لايختزل أسباب نجاح داعش على العوامل والأحداث المشار إليها أعلاه، فهذه المنظمة الإرهابية تمتلك استراتيجية وتجيد حبك الاتفاقيات والولاءات العشائرية ، وفرض الوصاية على المكونات السكانية المحلية وفرض الطاعة على الجماعات المسلحة المتمردة على الأنظمة القائمة في كل من العراق وسوريا. ويلقي الضوء بعمق على مشروع إقامة أو تأسيس دولة عابرة للحدود تبنى على أنقاض اتفاقية سايكس بيكو، كما تفحص بدقة فرضية الفخ الذي نصبته داعش للمجموعة الدولية وأوقعتها فيه ، حيث انزلقت المجموعة الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في عمل عسكري لا تريد تحمل تبعاته كاملة وبالتالي اللجوء إلى أطراف أخرى خارج معادلة الصراع وهي لا تقدم أي أفق سياسي للسكان الذين تحالفوا مع داعش أو تحملوا عبء وجودها بينهم.
حبذ الباحث تذكير قرائه بأن الإعلام قد خدع الرأي العام وأوحى إليه بأن هذه المنظمة الإرهابية قد ظهرت للوجود فجأة بين ليلة وضحاها ، ولقد استفاق الرأي العام على صدمة المشاهد الوحشية المرعبة التي صورها مقاتلوا داعش وهم يقطعون رؤوس اسراهم ورهائنهم الغربيين وغير الغربيين مما حد من إمكانية التفكير والتحليل بطريقة عقلانية لهذه الظاهرة العنفية التي تحتاج للتفسير والتوضيح العقلاني والموضوعي بعيدا عن الانفعال العاطفي.
تتلخص أطروحة بيير جون لويزار بأن الدولة الإسلامية في العراق والشام ، المعروفة باسم داعش، هي ثمرة الاستعمار الأوروبي الفرنسي الانجليزي على نحو أدق، الذي استمر على نحو أو آخر بوضع المنطقة تحت الوصاية من قبل القوى العظمى إبان الحرب الباردة لتصل إلى الكارثة التي بدأت بالحرب العراقية ـ الإيرانية أولا ، ومن ثم الحروب الأمريكية والأوروبية على العراق وسوريا وليبيا وقريبا في اليمن بعد ان انزلقت السعودية في حرب اليمن وهي متحالفة مع الغرب الذي سيهب لنجدتها إذا ما تعرضت لأي رد فعل انتقامي من قبل إيران أو غيرها.
يشير المؤلف في كتابه إلى أن الحاضنة الاجتماعية لداعش في العراق وسوريا تتكون من جزء كبير من سنة البلدين وهذا ما ساعدها على احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي العراقية وخاصة محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار واقترابها من بغداد على نحو شديد الخطورة، ومن ثم سيطرتها على مساحات واسعة داخل سوريا وإزالتها للحدود القائمة منذ الحقبة الاستعمارية بين العراق وسوريا . فمصير المنطقة سبق تحديده بمؤتمر سان ريمو في 25 نيسان 1920 بغياب أي تمثيل عربي حيث تقاسم المنتصرون في الحرب العالمية الأولى تركة الرجل المريض، أي الامبراطورية العثمانية، بحيث حصلت فرنسا على انتدابها على سوريا ولبنان في حين حصلت بريطانيا العظمى على انتدابها على العراق وفلسطين والأردن. ولترسيخ هيمنتها، عملت القوى الاستعمارية على استغلال وتعميق الخلافات والاختلافات العرقية والإثنية والدينية والمذهبية حسب القاعدة الاستعمارية الذهبية : "فرق تسد " وقد احتكرت السلطة من قبل المكون السني في العراق بدعم مباشر من البريطانيين رغم كونهم يشكلون أقلية سكانية بالمقارنة بالشيعة والأكراد.
ثم استعرض لويزار في عدة فقرات من الكتاب أصل وجذر الخلاف السني الشيعي في الإسلام والذي استفاد منه المستعمر لتأجيج الخلاف . فرسالة التشيع وممارساته وطقوسه قابلة لجذب الفئات المسحوقة والمضطهدة والضعيفة أو المستضعفة في المجتمع الإسلامي على أساس الواجب الشرعي الذي يقع على عاتق أي مؤمن حقيقي يثور ضد الظلم على غرار ثورة الإمام الحسين ضد الخليفة الأموي يزيد بن معاوية. خاصة وإن غالبية المسحوقين والفقراء، في المدن وفي الأرياف، خاصة الفلاحين بدون أراضي، في العراق وفي لبنان أيضاً، هم من الشيعة . ولقد استمرت علاقة الهيمنة للأقلية على الأغلبية حتى بعد انتهاء عهد الانتداب وتعزز ذلك بتأييد ودعم الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية لصدام حسين في حربه العدوانية ضد إيران وبكافة الوسائل والطرق خاصة إبان الحرب الطاحنة التي دامت ثماني سنوات من 1980 الى 1988 والتي خرج منها العراق مستنزفاً ومثخناً بالجراح والخسائر المادية والمعنوية ، وما أن انتهت الحرب حتى تغيرت المعايير واعتبر الأمريكيون أن جيش صدام حسين بما لديه من خبرة قتالية ومعدات وأسلحة خاصة المحرمة دولياً التي وصفوها بأسلحة التدمير الشامل، بات يشكلا خطراً وتهديداً على حلفائهم في المنطقة والمقصود بهم دول وأنظمة الخليج ، فقامت بتحريض هؤلاء على مطالبة العراق بتسديد ديونه والضغط على بغداد بهذا الاتجاه وخنق العراق اقتصادياً وهم يعرفون أن تدمير البنى التحتية العراقية، لاسيما النفطية منها، وانهيار الاقتصاد العراقي، يجعل من هذه المطالب تعجيزية وغير قابلة للتنفيذ مما دفع العراق الى مغامرة كانت محسوبة ومتوفعة أو منتظرة لدى الدوائر الغربية منذ عقود طويلة قبل حدوثها وتمثلت بغزو العراق للكويت سنة 1990 وكانت نتيجة لسياسة الهروب إلى الأمام التي اتبعها صدام حسين حيال إفلاس الدولة العراقية ووشوكها على الانهيار.
الجميع يعرف ماحدث بعد ذلك أي حرب التحالف الدولي ضد العراق لإخراجه من الكويت والتي شاركت فيها فرنسا إلى جانب أمريكا وبريطانيا ودول أخرى كثيرة سنة 1991 ومن ثم فرض الحصار والمقاطعة والعقوبات الدولية التي كانت أبشع و أكثر دموية ومأساوية من الحرب الحقيقية خاصة بالنسبة للسكان المدنيين ، وترك الحرية التامة لصدام حسين ليقمع الانتفاضة الشعبية الشيعية ـ الكردية التي اندلعت ضد نظامه سنة 1991 وسحقها بالحديد والنار ولم يتردد باستخدام السلاح الكيمياوي الذي زوده به الغرب نفس وخاصة أمريكا وفرنسا وألمانيا. وأخيرا حرب سنة 2003 التي أطاحت بنظام صدام حسين .
غيرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ـ أيلول 2001 المعطيات وكان لابد من إيجاد كبش فداء لذبحه انتقاماً لذلك الحدث الإرهابي المريع الذي قامت به منظمة القاعدة الإرهابية على الأرض الأمريكية . وقد تضافر البعد الأيديولوجي للمحافظين الجدد الذين كانوا يحكمون أمريكا مع الهواية وعدم الخبرة في إدارة دفة الاحتلال وما أعقب الحرب على العراق لجهل الأمريكيين التام بالتاريخ وبديناميكية العلاقات بين الدولة العراقية ومجتمعها الموزائيكي وكان نظام صدام حسين آخر نسخة مشوهة للنظام السياسي الذي أسسه البريطانيون في العراق سنة 1920 ، وكان انهياره يعني على نحو ما انهياراً للدولة العراقية وليس فقط للنظام وقام الأمريكيون باستبدال السنة بالشيعة والأكراد في أعلى هرم السلطة محاولين فرض نوع من الحكم الفيدرالي ـ الاتحادي كغطاء للصورة الحقيقة للنظام البديل وهو نظام المحاصصة ، والذي قاد إلى حدوث توترات واستقطابات طائفية دموية بين أعوام 2005 و 2008 وأدى إلى مقتل ونزوح وتهجير آلاف العائلات والأفراد. إن هذا الإحباط وخيبة الأمل السنية من التغيير السياسي قد دفعهم للتمرد والانتفاضة على الحكومة المركزية ذات الأغلبية الشيعية والوجود السني الرمزي أو غير الفعال في أعلى هرم السلطة مما جعلهم يلجئون إلى قوى خارجية سنية مثلهم لخلق التوازن المسلح مع الميليشيات الشيعية الموالية للسلطة المركزية. هذا هو المناخ الذي جاء بداعش وحفزها على خلق دولة إسلاموية على غرار دولة الخلافة .
وكانت ضربة داعش القوية والذكية هي بالسيطرة على المناطق السورية المحاذية والمجاورة للعراق وتشكل امتداداً له وإلغاء الحدود الاستعمارية القائمة بينهم وإعلان دولة الخلافة لتأكيد شرعيتها الدينية والثورية التي تعدت الحدود. الوضع في سوريا لا يختلف كثيراً عما هو في العراق فالبلد يحكمه الجناح الآخر لحزب البعث ويتبع نفس المنهج والأسلوب والشعارات والأهداف التي كانت مرفوعة من قبل نظام البعث العراقي. ولم يتعلم النظام السورية من التجربة العراقية واختار، مثلما فعل صدام حسين سنة 1991، القوة المسلحة والحديد والنار والقمع والتنكيل بالمتظاهرين والمنتفضين على نظام الأسد منذ سنة 2011 في سياق ما سمي بالربيع العربي. واختار الأسد اللعب على حبل الطائفية والاختلافات الدينية ، لحماية نظامه .
كان هناك الآلاف من السجناء والمعتقلين من الجهاديين والسلفيين التكفيريين في السجون السورية والعراقية والأمريكية في العراق ، قد تم إطلاق سراحهم أو تهريبهم من السجون. ولقد انظموا إلى صفوف التشكيلات الإسلاموية المسلحة في العراق وسوريا ووصلوا إلى المواقع القيادية العليا من بينهم الجولاني والبغدادي زعيما داعش وجبهة النصرة الفرع السوري لتنظيم القاعدة، وهكذا أقنع الأسد العالم المرتعد من داعش بشعار :" إما أنا أو الفوضى والدمار الشامل على يد داعش" التي استمع إليها الغرب واقتنع بها لكن ذلك لم يمنع الفوضى والدمار والخراب من الانتشار والامتداد داخل البلدين العراق وسوريا وبلدان أخرى كليبيا واليمن .
ولقد ركز بيير جون لويزار في فصول أخرى على كيفية عمل الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" وتصرفها في المناطق الواقعة تحت سيطرتها وتمكنها من وسائل الاتصال الحديثة والمتطورة واستغلالها للتكنولوجيا الحديثة في دعايتها وتجنديها للأتباع والأنصار والمقاتلين وفي الكتاب مخزون هائل من المعلومات و والتفاصيل التي استقاها المؤلف من مصادر وأشخاص من داخل مناطق الأحداث .
يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة فصول وخاتمة ومصادر البحث
في المقدمة يعرض المؤلف أسباب اختياره للكتابة حول هذا الموضوع ومنهجيته في البحث ، حمل الفصل الأول عنوان: انبثاق الدولة الإسلامية مكونات نجاح دولة، أم منظمة إرهابية؟ ومحاولة تدويل الحرب.
الفصل الثاني حمل عنوان: من سايكس بيكو إلى العروبية عودة التاريخ أو الوعود المخذولة للقومية العربية.
الفصل الثالث حمل عنوان: في العراق دولة ضد مجتمعها ، الولايات المتحدة العربية على النمط الأوروبي أم دولة سنية؟في أصول الخلاف السني ـ الشيعي العودة الدامية للمسألة العراقية .
الفصل الرابع كان بعنوان: الدولة السورية استحكمتها الخلافات الطائفية ، موزائيك طائفي وديني داخل حدود ضيقة ، السد ونظامه الشمولي والعلويين.
الفصل الخامس جاء بعنوان: نحو خلخلة للشرقة الأوسط ، الدولة الإسلامية على أبواب لبنان ، والأردن المرعوبة والعربية السعودية وملكها العاري وتركيا حيث وقع آردوغان في الفخ الذي نصبه لنفسه .
والفصل السادس حمل عنوان: فخ داعش، سوريا والعراق والتوسع المصاحب لذلك ، الإرادة المعلنة لبناء دولة أم نحو دولة مستقبلية؟ دعاية واتصالات وإداء متمكن من التكنولوجيا ، معاملة الأقليات كفخ للآخرين. ومن ثم الخاتمة وبعض التواريخ المهمة وتتابع الأحداث حسب تواريخها.


أكاديمية الجهاد
أخطاؤنا في مواجهة الدولة الإسلامية

كتاب للصحافي الفرنسي نيكولا هنان
عرض د, جواد بشارة


كانت المرة الأولى التي التقيت فيها بالصحافي الفرنسي الشاب نيكولا هنان في بغداد بين 2003 و 2005 عندما كنت مديرا عاما في وزارة الثقافة والتقي باستمرار بالوفود والصحافيين والإعلاميين الفرنسيين وبعض أفراد طاقم السفارة الفرنسية في العراق منذ سفير فرنسا الأول في بغداد الصديق برنار باجوليه، والسكرتير الأول والملحق الثقافي وغيرهم ، وكان نيكولا متحمساً ومتشوقا لمعرفة الكثير عن العراق وتعقيداته . مرت السنوات وكنت قد عدت إلى باريس حيث منفاي الأول منذ مايزيد على الأربعين عاماً، بعد أن تعرضت لتهديد إرهابي، نجوت منه لكن طال حياة صديقي ورفيق وزميلي في العمل الشهيد الراحل كامل شياع. وفي باريس سمعت أن نيكولا هنان ذهب الى سوريا لتغطية أهوال وأخبار الحرب الأهلية الدائرة هناك ووقوعه رهينة بيد عناصر داعش لكن الحظ حالفه وخرج بصفقة سرية حيث أطلق سراحه فعاد إلى باريس وألف كتابه هذا الذي قرأته بإمعان ومتعة كبيرين.
كان كثيرا ما يردد أمامي أن الغرب لم يفهم شيئاً من الشرق بالرغم من العلاقات الطويلة والمصيرية التي تربط بينهما لقرون طويلة وإن ما يصيب الشرق لابد أن يصل في يوم ما ويصيب الغرب شاء هذا الأخير أم أبى. فالتهديد الإرهابي قد وصل بالفعل إلى عقر المجتمعات الغربية وضرب فرنسا مؤخراً بالصميم من خلال الهجوم الإرهابي على مجلة شارلي هيبدو الساخرة ومتجر يهودي ومطبعة في الضواحي الباريسية البعيدة ، وقبلها مركزي التجارة العالمية في نيويورك وقطار الأنفاق في بريطانيا ومحطات قطار في مدريد الخ فالسلوك الغربي المتعجرف تجاه الشرق ومعاملته له كالطفل القاصر الذي لا يعرف مصلحته ، منذ الحقبة الاستعمارية والى يوم الناس هذا، هو الذي يغذي الإرهاب والتشدد والفكر الأصولي والسلفي والتكفيري، كما يعتقد نيكولا هنان. فغزو العراق بالصورة التي حصل فيها خطأ استراتيجي حيث لم تدرس الولايات المتحدة الأمريكية بجدية وعمق كافيين تبعاته وما يترتب عليه من حالات إحباط وسخط وردود أفعال سلبية من جانب الشعوب الإسلامية ونفس الشيء فيما يتعلق بموقف الغرب مما يجري حالياً في سوريا واليمن والبحرين وليبيا ومصر وتونس وتساهله أو غض الطرف عن سياسات الدول الخليجية وإتباع ديبلوماسية المهادنة معها ومع الأنظمة الدكتاتورية الشمولية الدموية السابقة والحالية كما كان الحال مع صدام حسين ومعمر القذافي وحسني مبارك وزين العابدين بن علي وغيرهم. فهناك مسؤولية مباشرة وغير مباشرة للغرب في خلق هذا الوباء المسمى داعش وأيديولوجيته التدميرية منذ حرب أفغانستان وخلق حركة طالبان الإرهابية التي احتضنت تنظيم القاعدة الإرهابي الدولي، ومن رحمه انبثقت داعش . كيف نشأت هذه الطغمة التي سمت نفسها بالدولة الإسلامية ودولة الخلافة من عصابات وشذاذ الآفاق واللصوص وقاطعي الطرق وحثالة المجتمعات التي لفظتهم ليأتوا وينضموا الى صفوف داعش ويعيثوا بالأرض فساداً ويمارسوا عقدهم النفسية ويسقطوا أمراضهم عبر ممارسة البطش والتنكيل ولقد وقع الغرب بالفعل وبغباء مدقع في فخ داعش وصار يروج للعبته وسياسته في بث الإرهاب والترهيب عبر مشاهد في غاية الوحشية والقسوة والدموية من خلال التنكيل بالأسرى والرهائن وقطع الرؤوس واستخدام أقصى درجات العنف التي بثت الرعب في نفوس الرأي العام الغربي . قدم نيكولا هنان في كتابه هذا لوحة إدانة للغرب وسلوكه الشائن الذي قاد الى ظهور هذه التنظيمات القروسطية التي تعيش خارج الزمن وضد الحضارة والمدنية والتطور والحداثة .
تضمن كتابه ذو الـ 255 صفحة، عشرة فصول ومقدمة وخاتمة ، الفصل الأول حمل عنوان تسويق العلمانية والفصل الثاني حمل عنوان، تكوين الجهاديين ، والثالث كان بعنوان ثقل المال، والرابع جاء بعنوان: نبوءة تحققت بنفسها ، والفصل الخامس كان عنوانه تساؤل حول من يقتل من؟ والأهم هو كم عدد القتلى؟ واهم فصل في الكتاب هو الفصل السادس الذي كان عنوانه: سوريا والعراق بلدان ومصير واحد. والفصل السابع جاء بعنوان خدعة كوباني والثامن بعنوان معجزة دابق والتاسع بعنوان إعادة الروابط والفصل الأخير جاء بعنوان لنفهم الدولة الإسلامية .
في الفصل السادس يلقي الكاتب الضوء على الدور السوري في تدفق الإرهابيين التكفيريين عبر أراضيها إلى العراق بذريعة مقاومة الاحتلال الأمريكي منذ عام 2003 ثم انقلب السحر على الساحر وتمركز الإرهابيون في القاعدة والدولة الإسلامية في أوكار وخلايا سرية ونائمة في كافة أرجاء سورية انتظاراً لليوم الموعود فكانوا على أبواب دمشق بانتظار ساعة الحسم فيما لو قصفت الناتو سوريا ودمرت الآلة العسكرية للجيش السوري الموالي للنظام أي تكرار السيناريو الليبي بحذافيره لولا يقظة وممانعة روسيا والصين وإيران وفيما بعد حزب الله لهذا السيناريو الجهنمي . فمن سوريا جاءت قطعان داعش لتغزو وتستبيح محافظات العراق الكبيرة الموصل وصلاح الدين والأنبار ، وألغت الحدود وربطت بالقوة والبطش وعلى نحو قسري بين المناطق الغربية للعراق والمناطق الشرقية لسوريا خاصة المحاذية للحدود العراقية كالرقة ودير الزور والجزيرة والحسكة وألبو كمال وصولاً إلى حلب حيث تمتد حدود الدولة الإسلامية في العراق والشام التي أصبحت دولة الخلافة بقيادة أبو بكر البغدادي. لذلك عنون نيكولا هنان هذا الواقع المأساوي للمناطق المحتلة من قبل داعش بأنها ذات مصير واحد رغم وقوعهما في بلدين متجاورين.

العراق : وثأر التاريخ ، من الاحتلال الأجنبي إلى الدولة الإسلامية
كتاب لمريام بن رعد
عرض د. جواد بشارة / باريس

منذ أن احتلت ظاهرة الدولة الإسلامية في العراق والشام واجهات وسائل الإعلام وصارت الألسن تلهث وتتحدث في كل مكان بجرائم داعش وخطرها ، تصدى عدد من الباحثين والكتاب الفرنسيين المتخصصين بالعراق والعالم العربي والإسلامي لبحث هذه الظاهرة وتحليلها وصدرت عنهم مجموعة من الكتب تتجاوز العشرين كتاباً كان أهمها كتاب بيير جون لويزار وحمل عنوان الفخ : داعش، وكتاب الصحفي الفرنسي الذي عاش سنوات عديدة بين العراق وسوريا مراسلاً لعدد من المجلات والقنوات التلفزيونية وهو نيكولا هينان وحمل كتابه عنوان جهاد أكاديمي أو أكاديمية الجهاد. وكتاب لوريتا نابوليوني الذي حمل عنوان: الدولة الإسلامية، وكتاب كريستيان شينو وجورج مالبرونو وحمل عنوان: دروب دمشق . وكتاب أنطوان صفير إسلام ضد الإسلام، وسبقه بكتابين مهمين هما : الإسلاموية بالأمس واليوم، وكتاب رسالة مفتوحة للإسلاميين. وبالطبع كتاب الباحثة الشابة المتخصصة بالعراق مريام بن رعد وحمل عنوان العراق: الدولة الإسلامية وثأر التاريخ .
وقبل أن تخوض الباحثة في هذه الظاهرة بحثاً ودراسة غاصت في تاريخ العراق في القرن العشرين أي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينات القرن الماضي، لمن لايعرفه أو اطله عليه من خلال موشور وسائل الإعلام التشويهي . ثم ركزت على أيديولوجية المحافظين الجدد في أمريكا في عهد جورج دبليو بوش الإبن وغزوه للعراق واحتلاله وعكس المعادلة البريطانية التي سلمت حكم العراق عند تأسيسه للأقلية السنية وأهملت حقوق الأغلبية الشيعية والأقلية الكردية ، أي أكثر من ثلاثة أربعا مكونات العراق السكانية آنذاك.
إذ عمدت الإدارة الأمريكية آنذاك إلى تقريب الأكراد والشيعة وإعطاء دور رمزي إن لم نقل هامشي، للسنة وإشراكهم من خلال بعض قياداتهم السياسية والعشائرية في السلطة المركزية ومنحهم بعض المناصب والوزارات مهما كانت نسب تمثيلهم داخل مجلس النواب العراقي.
ثم تغلغلت الباحثة عميقاً في التشكيلات السياسية التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين وإتباع سياسة استئصال البعث من الحياة السياسية العراقية وكشفت تفاصيل الصراعات الداخلية والمنافسات والفساد المستشري داخل المؤسسات الرسمية للدولة وخضوعها لسياسة المحاصصة حسب المكونات الرئيسية التي يتشبث بها الجميع رغم إعلانهم لرفضها والتنديد بها لكن ميولهم كانت و لا تزال نحو سياسة توافقية مبنية على أساس الحصص في المراكز والوظائف لكل مكون حسب آلية تفاوضية معقدة تبعاً لما تفرز صناديق الاقتراع. كما درست الباحثة وبتوثيق كبير الجماعات المسلحة المتمردة على السلطة المركزية الاتحادية وجذور نشأتها وتسليحها ودعمها المالي والسياسي من قبل بعض دول الجوار العراقي وأغلبها من المكون السني حسب ما نشرته من قوائم وجداول دقيقة خاصة تلك التي تتعاطف أو تتعاون أو تنتمي إلى المؤسسة العسكرية للنظام السابق والذين صاروا اليوم يقودون تنظيم داعش في العراق إلى جانب الأجانب والوافدين العرب والمسلمين وسر نجاح الإسلام السياسي وصعوده الصاعق سواء كان بطبعته السنية الجهادية المتطرفة والمتشددة التكفيرية أو بطبعته الشيعية وتشكيلاته المسلحة المتنوعة وحضورها على الساحة العراقية الاجتماعية والمدنية . وكيف استغلت داعش تفكك أو ضعف الدولتين العراقية والسورية للتمدد واحتلال مناطق واسعة من البلدين وإقامة دولة الخلافة وإلغاء الحدود المصطنعة التي فرضها الاستعمار الأوروبي الإنجليزي والفرنسي على المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
بلغت صفحات الكتاب 088 صفحة حملت فصوله عناوين ذات مغزآ وجذب للقاريء المتعطش للمعرفة مثل أمة ممزقة، و البحث عن عدو، واستئصال البعث في العراق، و الجهاد والتحرير، والفلوجة المطوقة، والتشابك السلفي والتيار الجهادي التكفيري ، وبين الفوضى والفتنة، وانقسامات في المعسكر السني، ويقظة العشائر، والكتل السياسية، ومغريات الدكتاتورية، وحرب التقسيم، وموجات الصدمة في الشرق الأوسط، والخاتمة إنه كتاب ممتع وغني بالمعلومات والتحليلات الصائبة ويلقي نظرة معمقة على طبيعة المجتمع العراقي الحالي والتحديات التي تواجهه بقلم باحثة شابة تخصصت بالعالم العربي وبالعراق تحديداً حيث قدمت عنه أطروحة دكتوراه في معهد الدراسات السياسية في باريس وتعمل كباحثة مركز الدراسات والبحوث الدولية ومعهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي التابع للمركز القومي للبحوث العلمية


طرق دمشق: الملف الأسود للعلاقات الفرنسية - السورية
كتاب لجورج مالبرونو وكريستيان شيسنو
عرض د. جواد بشارة / باريس
قراءة في كتاب :" طرق دمشق: الملف الأسود للعلاقات الفرنسية – السورية "، الصادر في 9 أكتوبر 2014 ، للصحفيين الفرنسيين جورج مالبرونو وكريستيان شيسنو الرهينين السابقين في العراق واللذين أصدرا في السابق كتاب عن عراق صدام حسين وكشفا اسراره وأصدر جورج مالبرونو كتاب العراق الجديد : بلد بدون دولة ، كتاب يلقي الضوء على ملف العلاقات السرية الفرنسية – السورية، كما أصدر المؤلفان كتاب ذكريات رهائن في العراق وكتاب قطر سر الخزانة الحديدية في وقت احتلت فيه المأساة السورية واجهات الصحف ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، حيث كشف المؤلفان في هذا التحقيق الخطير اللعبة المزدوجة الدائمة التي تلعبها السلطات الفرنسية في نسج علاقاتها مع القادة السورية وأجهزة السلطة السورية.
يتناول الكتاب تقلبات وخفايا أربعون عاماً من العلاقات بين فرنسا وسوريا. وهي علاقات مطرزة بالجثث والمواجهات المباشرة وغير المباشرة، وكذلك بشهور عسل مثيرة ومزاجية .
أربعون عاماً تخللتها صفقات بين باريس ودمشق على كافة الصعد وفي كافة المجالات السياسية والدبلوماسية والاستخبارتية والأمنية والعسكرية والاقتصادية ، وكان التعاون في المجال الأمني والاستخباراتي هو البرز والذي ركز عليه المؤلفان. ولقد تمكن الكاتبان من كشف الملف الأسود للعلاقات الشيزوفرينية الانفصامية التي وسمت تلك العلاقات بين البلدين، خاصة الفترات السوداء التي شابت تلك العلاقات كاغتيال السفير الفرنسي لامار في لبنان على يد المخابرات السورية وتفجير السفارة الفرنسية في بيروت وأخذ الرهائن الفرنسيين على يد عناصر موالية لسوريا في ذلك الوقت.
لقد أساء الزعماء الفرنسيون التقدير وأخطئوا في تقويم متانة وثبات وقوة النظام السوري الذي وصفوه بالمسخ البارد والوحش المتجرد من المساعر والأخلاقيات السياسية رغم أنهم لا يجهلون قسوته ودرجة بطشه وقمعه لمعارضيه. فلقد تصرف قادة فرنسا وفقاً لأهوائهم ومشاعرهم الشخصية ومزاجية رؤسائهم الذي كانوا يتعجلون في ردود أفعالهم ويرتجلون في مواقفهم إلى حد إدخال بلدهم في مأزق أو طريق مسدودة كما نلاحظ اليوم.
هناك الكثير من المفارقات والتناقضات التي وسمت تاريخ العلاقات بين البلدين، فبينما كان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك ، بعد اغتيال صديقه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ، يتوعد بالويل والثبور ويهدد بقطع رقبة بشار الأسد، قامت فرنسا وبسرية بالغة بتسليم سوريا طائرتي هليكوبتر من طراز دوفين ونظام للاتصالات المؤمنة عالي الدقة .ومن ثم ارتكب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي والرئيس الحالي فرانسوا هولاند، نفس الأخطاء في تقدير مدى قدرة النظام في دمشق على الصمود والمناورة والبقاء .
ولقد كشف التحقيق المستند لشهود موثوقين ومهمين الخلل في التعامل مع النظام السوري بين الدبلوماسية الفرنسية وأجهزة المخابرات الفرنسية في مجال إدارة الأزمة وإلقاء الضوء على تبعات سوء تصرف القادة الفرنسيين في مواجهة الواقع الحقيقي السائد خاصة الميداني منه سواء في سورية أو ما يرتبط بها من منظمات وأحزاب ودول لا سيما لبنان وحزب الله ومنظمة حماس الفلسطينية وإيران والعراق الخ .
الكتاب يعتبر وثيقة مرجعية استثنائية تستعرض مراحل صعود وهبوط وتفاقم العلاقات الفرنسية السورية وكيف أن شيراك الذي تأثر بمصرع صديقه الشخصي رفيق الحريري عام 2005 أقسم على تدمير السلطة السورية انتقاماً من آل الأسد الذين اعتبرهم المسؤولين الحقيقيين وراء هذه الجريمة وكيف حاول الرئيس السابق نيكولا ساركوزي تخطي سلفه وتقريب الرئيس السوري بشار الأسد وتبييض صفحته وإعادة إلى حضن المجموعة الدولية تحت رعايته حتى إنه دعاه كضيف شرف في احتفالات اليوم الوطني الفرنسي في 14 تموز ومن ثم تغير موقفه فجأة من النظام السورية وغدا أكثر تطرفاً وراديكالية واندفاعاً كما كان عليه الحال مع الملف الليبي. ولقد ركز الكتاب على صفحة الصراعات والمواجهات الفرنسية – الفرنسية التي غرقت بين الهواية و اللااحترافية وبين تصفية الحسابات فيما يتعلق بالملف السوري خاصة من نشوب الأزمة عام 2011. فهناك خلافات ومعارك بين وزارة الخارجية الفرنسي الكي دورسيه ممثلة بسفير فرنسا في سوريا إريك شوفالييه لغاية سنة 2012 ونيكولا غالي مستشار شؤون الشرق الأوسط في قصر الإليزيه الرئاسي. كما كان هناك وما يزال خلاف وصراع بين جهاز المخابرات الخارجية DGSE والمباحث الفرنسية أو جهاز الأمن الداخلي الفرنسي DCRI والمناكفات التي نسبت بين مستشار نيكولا ساركوزي ووزير داخليته كلود غيون ووزير خارجية فرنسا السابق آلان جوبيه بخصوص الملف السوري والعلاقة مع النظام والمعارضة السورية في الخارج. كما كشف الكتاب عن حماقات السفير الفرنسي الأسبق في العراق والمستشار السابق لنيكولا ساركوزي في الإليزيه للشرق الأوسط بوريس بوالون ، والتقارير الغريبة والخاطئة التي صاغاتها أجهزة المخابرات الخارجية بخصوص الأسلحة الكيميائية لدى النظام السوري واستخداماتها في ميادين المعارك الدائرة في سوريا. وتفاصيل الخط الساخن أو الهاتف الأحمر بين جاك شيراك وبشار الأسد ورفيق الحريري حيث كان يجري التباحث المباشر بين الزعماء الثلاثة.
وفي خضم الأزمة تم تنظيم لقاء سري بين مبعوث فرنسي مع جهاز المخابرات السورية وكان المبعوث هو أحد النواب الفرنسيين الأربعة الذين زاروا دمشق مؤخراً للتعاون في كشف الإرهابيين الفرنسيين المنخرطين في صفوف داعش وهو باتريك باراكاند الذي ألتقى بالجنرال علي مملوك رئيس المخابرات السورية. وهي مبادرة سرية أقرتها على نحو غير رسمي ضمناً المخابرات الفرنسية بالرغم من اعتراض الدوائر السياسية ووزارة الخارجية في فرنسا. وقد التقى باتريك باراكاند وبرفقته مساعدين له هما ستيفان رافيون وجيروم توسان، بالرئيس السوري بشار الأسد وبعلي مملوك من أجل تنسيق التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين في مجال كشف المتطوعين الفرنسيين في صفوف داعش، ولقد أعرب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ورئيس وزرائه مانويل فالس عن غضبهما من هذه المبادرة التي اعتبراها خطأ أخلاقياً لكن المبعوثين الفرنسيين كانوا يمتلكون الموافقة الضمنية من جهاز المخابرات الخارجية الفرنسي لأن عملهم هو تقني بحت ولا علاقة له بالسياسة والمصالح فللسياسة أجنداتها الخاصة وللأمن أجندته الخاصة ومهمتهم تقلقل المخاطر ووقف التهديد الكامن الذي يتهدد البلاد من جانب بعض الجهاديين الفرنسيين المغرر بهم الذي سيعودون يوماً ما إلى فرنسا ولا بد من معرفة تحركاتهم وتواجدهم داخل سوريا، وهي مهمة لا يمكن القيام بها بدون مساعدة وتعاون المخابرات السورية. والحال أن السلطات السورية كانت قد أعتقلت أو اسرت عدد من الفرنسيين المقاتلين في صفوف الإرهابيين في داعش وجبهة النصرة وصادرت جوازات سفرهم وحققت معهم بشأن العمليات الميدانية وواقع المعارك التي شاركوا فيها، وبالتالي لابد من فتح بعض الأبواب السرية لتحقيق هذه المهمة حسب تبرير المبعوث الفرنسي. وكان التعاون الأمني والاستبخاراتي بين البلدين قد توقف منذ غلق السفارة الفرنسية في دمشق وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وكان الرئيس السوري بشار الأسد قد صرح لصحيفة الفيغارو الفرنسية في لقاء معه في سبتمبر 2013 أن التعاون الأمني والاستخباري لايمكن أن يوستأنف إلا باستئناف الحوار السياسي بين البلدين. وفي حزيران 2014 حافظ الجنرال علي مملوك على نفس الخطاب ، ولقد سبق لفرنسا أن حاولت إرسال وفدين منفصلين بصورة سرية تامة من المخابرات الخارجية والداخلية بهدف إعادة الحد الأدنى من التعاون الأمني بغية التقليل من حدة الخطر الإرهابي الذي يتهدد فرنسا لكن سوريا أصرت على إعادة فتح السفارة الفرنسية وعودة العلاقات الدبيلوماسية قبل المضي في طريق التعاون الأمني والاستخباري وهو الأمر الذي رفضته باريس.
المسألة الشيعية
رؤية فرنسية
La question Chiite, Vision Française
هنري كوربان، يان ريشارد، بيير جون لويزار، أنطوان صفير، مارتين غزلان، كونستانس آرمينجون، مكسيم فودانو، آلان غريش، دومينيك فيدال، آدريان برياند، صابرينا ميرفان، ليلى جاسينتو ، بيير مارتان،


إعداد وتحرير وترجمة
د. جواد بشارة

دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع/ العراق ـ بغداد ـ شارع المتنبي



قد تكونوا قد اعتدتم على قراءة كتابات الدكتور جواد بشارة متحدثا عن الكون والعلم والعقل العلمي والعقل الخرافي واليوم نراه يتحدث في موضوع ديني يقع في صلب العقل الخرافي الثيولوجي
الحقيقة إن البحث في هذا المجال لا يعني أنني اتبناه أو اصدقه أو آخذه على محمل الجد وكأنه حقيقة تاريخية راسخة لكنها محاول لإلقاء الضوء على عينة من التفكير الغربي الفرنسي على وجه التحديد حول هذا الموضوع
فهناك مفاهيم ماورائية تتخلل صلب هذا الموضوع ونسيجه كالإمامة والولاية والعصمة والنص الإلهي والوصية والخلافة والإمامة والمظلومية والتهميش والأحقية والفاضل والمفضول والتفسير والتأويل والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والبداء والتصوف وعلم الغيب والعرفان والجوهر والبيعة والشورى والمنقذ المهدي صاحب الزمان والزندقة والهرطقة والبدعة الخ.. وكلها محصورة في إطار الصراع والتنافس الشيعي السني في الإسلام حصراً درستها وحللتها وبحثت فيها بتجرد وموضوعية بعيدا عن العاطفة والانحياز والتعصب وتوخيت الدقة العلمي في معالجتها حيث أنها لا تعدو كونها أمور خلافية ثيولوجية مجتمعية لكنها تمس صميم المجتمع الدولي الحديث والمعاصر من خلال إفرازاتها المعاصرة التي أنتجت لنا الفكر السلفي والفكر التكفيري والأصولي المتشدد كما أفرزت ظواهر مرضية خطرة تمثلت بالقاعدة وداعش ومثيلاتها في كل الأديان والمذاهب ا لتي تسعى لسلب الإنسان حريته في الاختيار والتعبير عن معتقداته مهماً كانت .
فهرست كتابي المسألة الشيعية رؤية فرنسية :
الفصل الأول
قراءة في كتاب
التشيع والدولة: رجال الدين أمام اختبار الحداثة

الفصل الثاني

من دروس مدرسة اللغات الشرقية في باريس عن تاريخ الأديان
الدرس الحادي عشر وهو عن : الشيعة عبر التاريخ

Leçon 11: Le Chiisme à travers L Histoire


الفصل الثالث

قراءة في الجذور التاريخية للانقسام الشيعي السني في الإسلام رؤية غربية

الفصل الرابع

قراءة في كتاب: السنة والشيعة لماذا يتقاتلون؟

السنة والشيعة لماذا يتقاتلون؟
Sunnites Chiites Pourquoi ils s’entretuent ?
منشورات: سوي 2008 éditions de Seuil
تأليف: مارتين غوزلان Martine Gozlan

الفصل الخامس


من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد الاستعمار
بقلم بيير جون لويزار

الفصل السادس
المسألة العراقية
بقلم بيير جون لويزار

الفصل السابع
دردشة في باريس بين جواد بشارة،* باحث وكاتب عراقي مقيم في فرنسا
و الباحث الفرنسي المتخصص بالإسلام الشيعي بيير جون لويزار
عن العراق بعد عشر سنوات من سقوط النظام الصدامي:

الفصل الثامن

الإسلام: السنة والشيعة، لماذا يتعارضان ويتخاصمان، منذ ألف وخمسمائة عام؟
Islam: Pourquoi le sunnisme et le chiisme s’opposent-ils
depuis 1500 ans?
الفصل التاسع
المسلمون الشيعة العرب هم أصل التشيع
بقلم مكسيم فودانو Maxime Vaudano
Les musulmans chiites Arabes sont à l origine du chiisme

مفاتيح الشرق الأوسط المائة بقلم آلان غريش ودومينيك فيدال:
الفصل الحادي عشر
آية الله العظمى المرجع الديني الشيعي السيد محمد حسين فضل الله
رجل دين تحدى السلوكيات والنظرة المقولبة للغرب إزاء الشيعة
بقلم ليلى جاسينتو

الفصل الثاني عشر
جذور التعاون السني مع الإخوان والقاعدة وداعش :
د. جواد بشارة

الفصل الثالث عشر
السلطات الدينية في التشيع الإمامي المعاصر

Les Autorités religieuses dans le chiisme duodécimain contemporain
بقلم : صابرينا ميرفان باحثة في المركز الوطني للبحوث العلمية والمدرسة العليا للدراسات التطبيقية للعلوم الاجتماعية Sabrina Mervin (CNRS, EHESS, UP, UAPV).

الخاتمة

بعض المراجع المهمة عن الشيعة والتشيع بالفرنسية



الشيعة هو اسم يطلق على ثاني أكبر طائفة من المسلمين، وهم الذين عرفوا تاريخيًّا بـ"شيعة علي" أو "أتباع علي". وغالبًا ما يشير مصطلح الشيعة إلى الشيعة الإثنا عشرية لأنها الفرقة الأكثر عددًا. يرى الشيعة أن عليًا بن أبي طالب هو وأحد عشر إمامًا من ولده (من زوجته فاطمة بنت النبي محمد) هم أئمة مفترضو الطاعة بالنص السماوي وهم المرجع الرئيسي للمسلمين بعد وفاة النبي، ويطلقون عليهم اسم الأئمَّة أو الخُلفاء الذين يجب اتِّباعهم دون غيرهم طبقًا لأمر من النبي محمد في بعض الأحاديث مثل حديث المنزلة، وحديث الغدير، وحديث الخلفاء القرشيين الإثنا عشر، وحديث الثقلين المنقولة عن النبي محمد بنصوص مختلفة والذي يستدلّون بها على غيرهم من خلال وجودها في بعض كتب بعض الطوائف الإسلامية التي تنكر الإمامة وهو كالتالي: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي؛ أحدهما أعظم من الآخر؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما».يؤمن الشيعة أن التشيع هو الإسلام ذاته، ويتبناه الشيعة أنفسهم حيث يرون أن المذهب الشيعي أصلا لم يظهر بعد الإسلام. ويرون أن المسلم التقي يجب أن يتشيع ويوالي علي بن أبي طالب، وبالتالي فإن التشيع هو ركن من أركان الإسلام الأصيل وضع أساسه النبي محمد نفسه على مدار حياته، فعندما نزلت الاية القرآنية إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ من سورة البينة آية 7وكانوا ومازالوا يعتقدون أن أن خير البرية هو علي بن ابي طالب كما كان يردد بعض الصحابة.
وطبقاً لـ آدريان برياند فلقد أشارت المراجع السنية إلى أن لنبي لم يسمي أحداً خلفاً له ولم يوصي بتنصيب أحد بعد وفاته سنة 632، في حين يقول الشيعة بعكس ذلك وإن النبي أوصى لعلي، يأمر من الله، بأن يكون خليفته في المسلمين في عدة مناسبات ويستندون إلى عدد من الآيات والأحاديث والحوادث. ومنذ ذلك الحين جسد شخصان متنافسان مفهومين للإسلام، تمثل الأول بالعودة إلى التقاليد القبلية وتجسد بشخصية أبو بكر، صاحب الرسول منذ بواكير الدعوة المحمدية،والمفهوم الثاني تمثل بالتمسك بالثوابت وبشخصية الأصلح والأعلم والأفضل والأقرب للنبي وتجسد ذلك بشخص علي بن أبي طالب ابن عم النبي وصهره زوج إبنته وإبنه الروحي، والذي كان يحظى بتأييد عدد كبير من الصحابة والقبائل، إلا أنه لم يقاتل لتثبيت حقه ومالت الكفة بما يشبه الانقلاب العسكري وبسرعة مذهلة لصالح منافسه أبو بكر الذي أصبح الخليفة الأول وليواصل مهمة النبي الدنيوية أي الزعامة السياسية للأمة.ةلقد حكم أبو بكر سنتين فقط وتوفي سنة 634 وكان خليفة لرقعة واسعة من الأراضي تمتد من شبه الجزيرة العربية إلى مصر وقد أعقبه في الخلافة عمر بن الخطاب الذي حكم حوالي العشرين عاماً وتوسع في الفتوحات الإسلامية ، ومن ثم أعقبه عثمان بن عفان الذي استغل موقعه كخليفة ليضع اقاربه في المناصب المهمة والحساسة للدولة الإسلامية ، لكن ذلك لم يمنع وصول علي إلى السلطة لمدة أربع سنوات مليئة بالحروف والثورات المتمردة على حكمه، مثل حرب صفين والجمل والنهروان، قبل اغتياله على يد أحد المنشقين عليه.
لا تختلف النظريتان نظرية الخلافة ونظرية الإمامة وولاية الفقيه عن بعضهما البعض، سوى في أن احداهما كانت مطبقة وتحكم، والاخرى تعيش في الاذهان وليس لها وجود في الخارج، الا عند المذاهب الشيعية الزيدية والاسماعيلية، وكلاهمامن صنع البشر، فالنظرية السنية العباسية كانت تعتقد بأن الخلافة من حق العترة وانهم جزء من العترة، بينما كانت النظرية او النظريات السياسية الشيعية تعتقد بأن الخلافة من حق أبناء وأحفاد علي، أو ابناء الحسين فقط، والكلام الآن ليس حول صحة هذه النظرية او تلك ، وانما عن تطوير النظام السياسي القديم الى نظام ديمقراطي الذي يفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ويقوم على اجهزة دولة وليس على شخص الامام فقط.
ولقد أشار إلى ذلك الشيخ أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، والسؤال هنا: أين الحل؟ أهل السنة ليس لديهم سوى إمامة المتغلب، والشيعة لديهم انتظار الغائب أو ولاية الفقيه، وعندما يمسك الساسة الإسلاميون مقاليد الحكم، تجدهم يكتشفون عدم وجود نظام حكم في التاريخ الإسلامي، أو لنقل هي ترقيعات من فقهاء الحاكم المتغلب لشرعنة وجوده، وتجدهم يتهربون من الإجابة عن الإشكاليات الفقهية غير الموائمة لروح العصر، ويلجأون إلى الدستور المدني والعلماني لحل مشاكلهم، فمتى سيجلسون ويحلوا لنا المعضلة الترقيعية المزمنة، والخلاصة المعنوية من الامامة في الدين كما يعتقد الشيعة، هي الارتباط بالله والاتصال به ومعرفته بأتباعه برؤية واضحة لاثار وشعائر الله ليقود الناس بدين يقين قائم بالاتصال بربه ويربط الناس بتوصليهم بربهم اسوة به لان الامامة ليست خبر ولا راوية بل اصل من اصول الدين والاصل حاضر لايجب ان يقطع بأي فترة زمانية ولا اتصال بالله عن طريق خبر او عن طريق رواية فالله من صفته قائم بالاتصال والقائم بالاتصال لايرتبط بعبده عن طريق راوية واخبار فلو اصبحت خبر او رواية لاصبحت علامة ماضية سلبية لقطع الاتصال بين القائم والمقام حضوريا شهوديا ظاهريا عليه بالصلاة فكل امام زمن الله قائم عليه بالصلاة القائمة حتى تقوم الساعة .
في حين يعتقد السنة أن الامامة ليست من اصول الدين ولا من فروعه لأنها لم تذكر في القران الكريم، ونظريات السنة والشيعة نظريات سياسية قديمة، واما اليوم فان جماهير السنة والشيعة يتبعون النظام الديمقراطي الذي هو افضل بديل عن النظريتين القديمتين.
ولم تنجح كافة المحاولات لرأب الصدع بين جناحي الإسلام عبر قرون عديدة، بالرغم من وحدة مصادر التشريع الدينية والاعتراف بالأصول والفروع التي حددها محمد والاشتراك بكتاب واحد هو القرآن باعتباره النص المؤسس للدين، والتوافق حول شخص النبي، لكن الاختلاف نشأ وتنامى بخصوص السنة النبوية والأحاديث المنقولة عن النبي والمتضمنة أقوال وأفعال الرسول. ففي مجال التشريع على سبيل المثال لا الحصر تبنى السنة مبدأ القياس L’analogie لحل المشاكل المستجدة التي لا تتوفر فيها نصوص قاطعة، مثل تحريم الخمر وبالتالي ينبغي تحريم كل مشروب ناجم عن التخمرويؤدي إلى السكر كما يفعل الخمر. وهناك مبدأ الإجماع أو التوافق Le consensus حيث يكتفي السنة بتوافق واجماع عدد من العلماء على مسألة ما لجعلها مسألة شرعية واجبة، في حين يقول الشيعة أنه لايمكن لذلك أن يتم إلا بحضور الإمام المعصوم. وحتى مفهوم الإمام اتخذ مسارات مختلفة، فهو عند أهل السنة مجرد رجل دين بسيط يؤم الصلاة ويقود الصلاة الجماعية، فلا وجود لوسيط بين الله والمؤمن عند السنة ، بينما الإمام عند الشيعة ضروري للأمة الإسلامية ويوجد لديهم إثني عشر إمام معصوم من سلالة النبي من فاطمة وإبنها الحسين حصراً، ومهمتهم تفسير القرآن والنصوص المقدسة والأحاديث القدسية ووضع التشريعات اللازمة لمسائل المستجدة، وطبقة رجال الدين هرمية وذات مراتبية منظمة والإمام هو قائد الأمة، وبغيابه يحل محله نائب الإمام الفقيه المجتهد الجامع للشروط، ومن ذلك جاءت نظرية ولاية الفقيه الخمينية. وفي الآذان والدعوة للصلاة يكتفي السنة بجملة أشهد أن لا إله إلا الله وإن محمداً رسول الله بينما يضيف الشيعة عبارة أشهد أن علياً ولي الله. السنة يجلون كافة الصحابة وكل من رأى وسمع النبي وشهد رفقته وهو حي ، بينما يفرز الشيعة بين الصحابة الأجلاء الصالحين والصحابة الفاسدين والمنافقين والمنحرفين عن جادة الصواب والطريق المستقيم ممن أنكروا وية علي بن أب طالب أو اعترضوا عليها. يعترف الطرفان بالصلوات الخمسة في اليوم ، ولكن يشدد السنة على القيام بها في أوقاتهخا بينما يكتفي الشيعة بثلاث منها وهي الفجر والظهر ويدمجون معها صلاة العصر والعشاء ويدمجون معها صلاة المساء. وولشيعة أدعية خاصة في السجود والقنوط والركوع تشدد على انتمائهم لآل البيت . هناك بالطبع إحياء شعائر عاشوراء ومقتل الحسين على يد الخليفة السني يزيد بن معاوية، في كل عام عند الشيعة ، وطقوسهم تتضمن الكثير من البدع في نظر السنة كظرب الظهور بالسلاسل وضرب الصدور العراية بالأيدي وضرب الرؤوس بالسيوف المعروف بالتطبير، حيث يلعنون يزيد ومعاوية في كل وقت بينما يعتبر جزء من السنة أن هذين الشخصين من الصحابة الذي رأوا النبي وسمعوه خاصة معاوية الذي يعتبره الكثير من السنة من كتبة الوحي. أما بخصوص الأماكن المقدسة، فتعتبر مكة مسقط رأس النبي ومقر الكعبة فهي موئل الحج والوحيدة التي تستحق التقديس عند أهل السنة لكنها مقدسة كذلك لدى الشيعة إلى جانب الأماكن المقدسة الشيعية المعروفة في النجف وكربلاء وسامراء ومشهد والبقيع حيث مقابر الأئمة الشيعة الإثني عشرالتي تحولت الى مزارات يؤمها الشيعة من كافة أنحاء العالم الإسلامي.

الانعطافة المعاصرة:
كانت ثورة الإمام الخميني في إيران سنة 1979 قد أحدثت زلزالاً في الذهنية الغربية وانعطافة جديدة في نمط التفكير الغربي تجاه الإسلام. فلقد اكتشف الرأي العام الغربي مذهولاً فئة أو طائفة إسلامية تدعى الشيعة، ثارت وأطاحت بعرش الشاه في إيران بفعل توجيهات وكاريزما رجل الدين آية الله العظمى روح الله الخميني. ولقد أعلن هذا الأخير أنه لا مع الغرب ولا مع الشرق، أي لا مع أمريكا ولا مع الاتحاد السوفيتي، وإن ثورته تشمل العالم الإسلامي برمته ، أي كانت لديه نوايا تصدير الثورة الإسلامية لباقي الدول الإسلامية. كما استشف الإعلام الغربي الدوافع الدفينة لتلك الثورة وأقنع بها الرأي العام ودوائر القرار في البلدان الغربية. واطلع الناس في الغرب على مفاهيم ومصطلحات جديدة عليه مثل آية الله العظمى، والعالم المجتهد، ومفهوم الاجتهاد، ومرجع التقليد، والمرجع الأعلى، والصراع السني الشيعي، وبرزت ملامح الصراع والتنافس على النفوذ في العالم الإسلامي بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران ودارت بينهما حرب طاحنة بالوكالة في كل مكان من العالم الإسلامي ، كل منهما يدعم معسكره وأتباعه بالمال والسلاح والدعاية والتأييد السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية. كانت بداية ذلك الصراع السياسي السني الشيعي في العصر الحديث قد تجسدت بالحرب العراقي ـ الإيرانية، التي خططت لها ودعمتها ومولتها السعودية ودول الخليج الأخرى، وأقنعت حاكم العراق آنذاك صدام حسين بخطورة إيران على العرب والمسلمين السنة، رغم أن غالبية سكان العراق ، حوالي 65 بالمائة، هم من العرب الشيعة ، مع وجود أقلية كردية شيعية وأقلية كردية سنية ، وأقلية عربية سنية في العراق. ثم امتدت المواجهة بين الدولتين ، السعودية وإيران ، لتشمل سورية والبحرين ولبنان، بل وحتى في أفغانستان والباكستان والهند.
بدأ الاستقطاب الطائفي مبكراً في الإسلام وإن لم يتخذ هذه الحدة والوضوح والتبلور الذي هو عليه اليوم ، وكان ذا طابع سياسي في المقام الأول، بين فئة من الصحابة كانت تمتلك طموحات قيادية وتصورات عن المرحلة التي ستعقب اختفاء صاحب الرسالة عن المشهد السياسي الدنيوي، حتى قبل وفاته، وكانت تستعد سراً لتلك اللحظة، وفئة أخرى التفت حول أحد الصحابة المتميزين وهو علي ابن أبي طالب ابن عم الرسول وصهره زوج ابنته المفضلة فاطمة ، وكانوا من فقراء الصحابة والمتمسكين بنص الرسالة وتعاليمها، يسعون لنفس الهدف، ألا وهو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب دينياً ودنيوياً وكان خيارهم هو الإمام علي. بيد أن الأمور لم تجر وفق ما يشتهيه أتباع علي ومواليه ومالت الكفة نحو الفئة الأولى، خاصة بعد أحداث سقيفة بني ساعدة، التي أوردتها كتب التاريخ وكتاب معاصرين مثل هشام جعيط وطه حسين وغيرهم كثيرون بالتفصيل. ومع مرور الزمن تجذر الخلاف وتحول إلى خلاف عقائدي وفقهي من الدرجة الأولى وبذلك يكون الإسلام قد انقسم إلى طائفتين رئيسيتين هما الطائفة السنية الأغلبية والطائفة الشيعية الأقلية ولكل منهما تفرعات وانشقاقات داخلية تحت مسميات مختلفة. أغلق علماء السنة والجماعة باب الاجتهاد، أي إبداء الرأي في النصوص المقدسة وتفسيرها أو تأويلها واستنباط الأحكام منها، بينما تركه علماء الشيعة مشرعاً ومفتوحاً إلى يوم الناس هذا، وكان هذا الأمر يشكل أحد أشكال الخلاف الفقهي والعقائدي بين الطائفتين، وعندما نقول اجتهاد فذلك يعني ضرورة التطرق لموضوعة التقليد أي تقليد المؤمن العادي لتعاليم واجتهادات وتوجيهات وأوامر العالم المجتهد عند الشيعة، بينما يرى أهل السنة للتقليد بمثابة سرطان يسري في جسد الأمة الإسلامية وخطر كامن خاصة عندما يتحالف مع النزعة الطائفية الإقصائية. هناك بالطبع الخلاف الأول المتمثل بمسألة الخلافة والحديث عنها ذو شجون لتعقيدها وحساسيتها البالغة. حدثت قطيعة شبه نهائية بي جناحي الإسلام فعند التمعن في واقع العالم الإسلامي بالأمس واليوم، لا يلاحظ ، إلا نادراً، تحول السني إلى شيعي أو الشيعي إلى سني، والتمسك بالموروث العقائدي على نحو أعمى وبلا تفكير أو إعادة نظر وتأمل حيث يعتقد كل مذهب أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وإنه هو الوحيد على حق والبقية واقعين في ضلال، استناداً إلى حديث خطير غير موثق وربما يكون مختلقاً و موضوعاً على لسان النبي محمد وهو حديث الفرقة الناجية. أما أخطر نقطة خلاف جوهرية شيعية مع الأغلبية السنية فهي مسألة الإمامة الإلهية ، أي المنصوص عليها من قبل الله كما يعتقد الشيعة. والتي تحولت من نظرية سياسية إلى عقيدة دينية كتبت حولها الكثير من الأبحاث والدراسات والتنظيرات والتي يرفضها أهل العامة أو السنة مع إعلانهم لاحترام ومحبة آل بيت النبي حيث يعتقد علماء السنة أنها من وضع الغلاة الذي يحيطون بآل البيت وإنها لم تكن من تأليف أئمة آل بيت النبي. ويمتد ذلك إلى الاختلاف حول المهدي المنتظر الذي يعتقد السنة أنه لم يولد بعد في حين يعتقد الشيعة أنه ولد واختفى في غيببتين صغرى وكبرى لازالت الأخيرة سارية المفعول إلى اليوم وهو عندهم الإمام الثاني عشر، لذلك سمو بالإثني عشرية، وإسمه محمد بن الحسن العسكري، أولوه أهمية قصوى تكاد تعادل أهمية النبي محمد صاحب الرسالة. وباسم الإمام الغائب تفرعت الهرمية الدينية في مؤسسة المرجعية على اعتبار أن العالم والفقيه المجتهد الجامع للشرائط يمكنه أن يكون نائباً للإمام المهدي أثناء غيبته ، ومن ذلك نشأ مفهوم ولاية الفقيه التي نظر لها وطبقها مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله العظمى روح الله الخميني واعتبر نظريته بمثابة الخروج على مبدأ وجوب إنتظار ظهور الإمام المختفي منذ أكثر من 1170 سنة لإقامة دول العدل الإسلامية المفترضة والمنشودة لأنه الوحيد الذي يمكنه تاسيسها في آخر الزمان بعد شيوع الظلم والجور والطغيان نظراً لتحليه بصفة العصمة، ولا يوجد إجماع بين علماء الشيعة بشأن مبدأ ولاية الفقيه، كما لايوافق أهل السنة على مفهوم العصمة عند أئمة آل البيت بل ولا حتى عند النبي محمد في الشؤون الدنيوية ، فقط يعتبرون النبي معصوم فيما يخص الأمور الدينية. وكما قال الشيخ أحمد الكاتب في كتابه التشيع الديني والتشيع السياسي: فإن نظرية الامامة الالهية لاهل البيت التي تبناها فريق من الشيعة تشكل “وقودا لا ينضب” للتفرقة بين المسلمين الذين انقسموا بسببها موضحا أن تاريخ التشيع منذ ظهوره في عهد علي بن أبي طالب زوج فاطمة بنت النبي محمد لم يحمل “أي تمايز ديني” يتعلق بالعقيدة أو شعائر الاسلام بقدر ما كان يحمل رؤية خاصة في تفسير الدين في ضوء قضايا العدل والمساواة واحترام كلمة الامة ورفض الاستيلاء على أمورها بالاكراه، وشدد على أن أول شقاق بين المسلمين لم يكن بين الشيعة والسنة وإنما كان خلاف ذا طابع سياسي بين الجماهير والحكام الذين اغتصبوا السلطة. وأوضح الشيخ أحمد الكاتب أنه في وقت متأخر حدث خلاف بين الشيعة أنفسهم فمنهم من تمسك بالتشيع السياسي الذي استهدف به علي وابنه الحسين الثورة على الظلم وتحقيق العدل ومنهم من امن بالتشيع الديني الذي يحصر “الخلافة في الائمة من أبناء علي والحسين ويعتقد بعصمتهم وارتباطهم بالسماء حسب نظرية الامامة الالهية التي رفعها أصحابها الى مستوى العقيدة الدينية” مضيفا أن نظرية الامامة الالهية كان يفترض أن يطويها التاريخ لولا تحولها من نظرية سياسية مؤقتة الى عقيدة دينية “ملحقة بالاسلام”. بمعنى آخر يعتقد كثير من الباحثين في الشأن الإسلامي أن التشيع هو أحد إفرازات الصراعات السياسية التي نشأت مبكراً في الإسلام حتى قبل وفاة النبي محمد، ومن ثم تجذر نتيجة تفاقم الجدال الكلامي والصراع الفكري لاحقاً. يعتقد غالبية المسلمين أن النبي توفي ولم يترك وصية أو يسمي أحداً ليحل مكانه ويكون خليفته في حين يعتقد الشيعة على العكس من ذلك ، أي أن النبي اختار خليفة له بأمر مباشر من الله ليكون قائداً دنيوياً وإماماً دينياً للمسلمين وهو علي بن أبي طالب حسب نصوص وأحاديث كثيرة يستندون عليها والتي باتت في نظرهم قاطعة لا يرقى إليها الشك وركائز صلدة للعقيدة الشيعية. أما الرعيل الأول المؤسس لتيار التشيع داخل الإسلام والملتفين حول علي بن أبي طالب فهم العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله بن عباس، والزبير بن العوام الذي انقلب على علي فيما بعد في حرب الجمل، ، عقيل بن أبي طالب، سلمان الفارسي، المقداد بن الأسود الكندي، أبو ذر الغفاري، عمار بن ياسر، حذيفة بن اليمان، والبراء بن عازب،، خزيمة بن ثابت، أبو أيوب الأنصاري، مالك بن الحرث الأشتر، مالك بن التيهان الملقب بأبو الهيثم، هاني بن عروة، أبي بن كعب، سعد بن عبادة، وإبنه قيس بن سعد بن عبادة، عدي بن حاتم الطائي، عبادة بن الصامت، هاشم بن عتبة، عثمان بن حنيف وأخيه سهل بن حنيف، خالد بن سعيد بن العاص، حجر بن عدي، عمر بن الحمق الخزاعي، جابر بن عبد الله الأنصاري، محمد بن أبي بكر، أبان بن سعيد بن العاص، زيد بن صوحان العبدي ، وغيرهم كثيرون، لكنهم لم يشكلوا الأكثرية من بين الصحابة عند وفاة صاحب الرسالة لذلك خسروا الصراع وفاز به جماعة أبو بكر وعمر بن الخطاب ومن التف حولهم، وكانت عائشة بنت أب بكر من أعنف واشد المعارضين لعلي بن أبي طالب.
يختلف كثير من المؤرخين حول البداية الحقيقية للشيعة، والذي يشتهر عند الناس أن الشيعة هم الذين تشيعوا لعلي بن أبي طالب في خلافه مع معاوية بن أبي سفيان ، ولكن هذا لا يعني أن أتباع علي بن أبي طالب هم الشيعة، وأتباع معاوية بن أبي سفيان هم السُّنَّة. فهناك جزء مهم من السُّنَّة يعتقدون أن الحق في الخلاف الذي دار بين الخصمين كان في جانب علي ، وأن معاوية اجتهد ولم يصل إلى الصواب في المسألة، وعليه فانحياز فكر السُّنة إلى علي بن أبي طالب في هذه القضية واضح.
ومن المؤرخين من يقول: إن بداية الشيعة كانت بعد استشهاد الإمام الحسين. وهذا رأي وجيه جدًّا، فقد عارض الحسين خلافة يزيد بن معاوية، واتجه إلى العراق بعد أن دعاه فريق من أهلها إليها، ووعدوه بالنصرة، ولكنهم تخلَّوْا عنه في اللحظات الأخيرة، وكان الأمر أن استُشهد الحسين في كربلاء كما ذكرنا في القسم الأول من العرض، فندمت المجموعة التي قامت باستدعائه، وقرروا التكفير عن ذنوبهم بالخروج على الدولة الأموية، وحدث هذا الخروج بالفعل، وقُتل منهم عددٌ كبير، وعُرف هؤلاء بالشيعة. وهذا يفسِّر لنا شدة ارتباط الشيعة بالحسين بن علي . ومع ذلك فنشأة هذه الفِرقة لم تكن تعني إلا نشوء فرقة سياسية تعترض على الحكم الأموي، وتناصر فكرة الخروج عليها، ولم يكن لها مبادئ عقائدية أو مذاهب فقهية مختلفة عن أهل السُّنَّة عدا موضوع الإمام الذي اعتبره الشيعة من الأصول. وبالتالي لا بد أن نفهم أولا نظرية (الإمامة) كما كان يقول بها المتكلمون الإماميون الأوائل الذين أسسوا لها . تقول نظرية ( الإمامة الإلهية ) : ان الأرض لا يجوز أن تخلو من إمام ( أي من حكومة ودولة ) وان الإمام ، أي الرئيس أو الخليفة أو القائد الأعلى ، يجب أن يكون معصوما ومعينا من قبل الله ، وان الشورى باطلة ولا يجوز انتخاب الإمام من قبل الأمة ، وتقول النظرية الموسوية، المتفرعة عن الإمامية: إن الإمامة تتسلسل بشكل وراثي عمودي في ذرية علي والحسين إلى يوم القيامة. وهل يوجد مفهوم حقيقي ومعاصر لمصطلحي:"الشيعة" و "السنة"؟
أم إن هذه مفاهيم ومصطلحات تاريخية قديمة وجوفاء؟ وان الأمة الإسلامية اليوم قد تجاوزت الخلاف التاريخي القديم الذي حدث بين المسلمين في القرون الأولى حول شروط الخلافة ومواصفات الخليفة ومن هو أحق بها. وذلك بعد مضي أربعة عشر قرنا على ذلك الخلاف ، وعدم وجود مصاديق خارجية لأهل البيت أو الأئمة المعصومين الذين قال الشيعة الامامية بانحصار الحق الشرعي في الخلافة بهم، من جهة، وكذلك انقراض الخلفاء العباسيين أو العثمانيين الذين قال السنة بحقهم في الخلافة ، من جهة أخرى.
وإذا كان ثمة في التاريخ السحيق معنى معقول للخلاف الذي حدث بين المسلمين الأوائل حول الخلافة، فان ذلك الخلاف، لاشك ، قد انطوى مع الزمن ، ولم يعد له أي معنى جدي أو حيوي معاصر، ولم يعد يتمثل اليوم سوى في بعض المخلفات والقشور والعادات والطقوس والرواسب التاريخية.
ومن هنا فان الأمة الإسلامية – شيعة وسنة – بأمس الحاجة اليوم لمراجعة ذلك الخلاف التاريخي ودراسته بدقة من اجل التخلص من رواسبه السلبية، والتحرر من مخلفاته التي قد لا تزال تشدخ الوحدة النفسية للمسلمين.. أو تؤجج بعض المعارك الوهمية بينهم.
وفي الحقيقة ان كلا من الشيعة والسنة بحاجة الى دراسة الأسس والعناصر التي كونت كلا من المذهبين السياسيين التاريخيين "التشيع" و "التسنن" وملاحظة التطورات الجذرية التي طرأت على المذهبين عبر التاريخ، ومعرفة العناصر المنقرضة والمظاهر المتبقية.. لعلهم يدركون أنهم لا يتمسكون اليوم سوى بأسماء وهمية وشعارات فارغة.. وأن الخلاف الجوهري بينهما قد ذهب مع التاريخ.

ولقد أعلن عدد من المستشرقين عن آرائهم بالمسألة الشيعية ونشأت التشيع: قال المستشرق فلهوزن:" كان أغلب سكان العراق في عهد معاوية ، خاصة أهل الكوفة، من أنصار علي وينطبق ذلك على الأفراد والقبائل ووجهاء العرب. في حين قال المستشرق غولدتسيهر:" إن من الخطأ القول بأن التشيع في نشأته ومراحل نموه يمثل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الأمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية والتبشير، فهذا وهم شائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية فالحركة العلوية عربية المنشأ والتشيع نشأ عربياً وفي أرض عربية بحتة ، ونفس الرأي تبناه المستشرق آدم ميتز .
الجذر التاريخي

أصدر خبراء غربيون في تاريخ الأديان عدة نظريات لشرح وتوضيح أصول التشيع وأسباب ظهوره، إلا أن العديد من تلك النظريات دمغت بالطابع الذاتي أو التحيز، فالبعض يعتبر أن التشيع ظهر بعد وفاة النبي ، وعلى وجه أدق، في اللحظة التي اجتمع فيها جزء من أصحابه للتداول في مسألة خلافته في قيادة الأمة.فلقد امتنع عدد من المهاجرين والأنصار عن إعطاء البيعة لأبي بكر في أعقاب إنفضاض اجتماع السقيفة الشهير وإعلان أبي بكر خليفة للمسلمين كأمر واقع على المسلمين إطاعته ومنحه البيعة، في حين أبدى قسم من الصحابة رفضهم وأعلنوا انحيازهم لعلي بن أبي طالب وتفضيله على أبي بكر، وكان من بينهم صحابة بارزون ومقربون من النبي من أمثال العباس بن عبد المطلب عم النبي، والفضل ابن العباس، والزبير ابن العوام، وخالد ابن سعيد، والمقداد ابن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار ابن ياسر، والبراء ابن العازب، وأبي ابن كعب. وغيرهم. بينما أصر بعض الباحثين الغربيين على أن التشيع ظهر إبان خلافة علي ابن أبي طالب ، في حين يعتقد آخرون أن التشيع ظهر كاتجاه أو جناح في الإسلام إبان خلافة عثمان ابن عفان. وهناك فئة من المتخصصين الغربيين يعتقدون أن التشيع ، كطائفة واتجاه فكري ومذهبي متميز، تأسس على يد الإمام جعفر الصادق أحد أحفاد الإمام علي وهو الإمام السادس عند الشيعة. وهناك قلة من غير المطلعين جيداً على التراث الإسلامي، ممن يعتقدون أن التشيع اختلقه الإيرانيون أو الفرس للانتقام من العرب وبالتالي فهو لم ينشأ إلا لأسباب سياسية. والبعض يعتبر التشيع ملازم للمجتمع الإسلامي وينتشر وفق إيقاع التطورات التي تحدث في داخل المجتمع الإسلامي ، لا سيما السياسية والعقائدية والفكرية والفلسفية والفقهية والاقتصادية ، على مر العقود.
أما الأطروحة الأكثر تطرفاً بهذا الصدد والتي انتشرت واعتبرت الصيغة الرسمية في نظر المسلمين من غير الشيعة، فهي التي تقول إن التشيع جاء نتيجة لشيوع أفكار شخصية غريبة ، وربما تكون وهمية مختلقة، أطلقوا عليها إسم، عبد الله ابن سبأ.
لقد ساهم النقد العلمي المعاصر ومناهج فحص النصوص والتدقيق في صحتها ومصداقيتها، في كشف ضعف هذه الأطروحة المعادية للشيعة، واثبت باحثون حياديون أن شخصية عبد الله ابن سبأ ابتكرها أعداء التشيع للنيل من الشيعة ونزع المصداقية عن ادعاءاتهم وطروحاتهم.
لقد كتب الدكتور طه حسين المفكر المصري الكبير: لقد ثبت إهمال المؤرخين الجادين لموضوع السبأية وابن السوداء، وهو إسم آخر لعبد الله ابن سبأ، عند تطرقهم لمعركة صفين، مما يثبت أن الفكرة نشأت متأخرا ، عندما نما النزاع بين الشيعة وباقي الطوائق أو المذاهب الإسلامية، فحاول خصوم الشيعة إدخال عنصر يهودي في أفكار التشيع للمس بنصاعة انتمائه للفكر الإسلامي الأصيل. فلو كان لشخصية ابن السوداء أو عبد الله ابن سبأ وجود حقيقي أو واقع ووجود تاريخي، لكان من الطبيعي والمنطقي ذكر نشاطه ودوره وتأثيره الملموس في هذه المعركة المعقدة التي حدثت في موقع صفين، ولوجدنا لها أثراً في الخلاف الذي نشب بين أتباع علي ابن أبي طالب في أعقاب التحكيم والجدال بشأن الحاكمية في الإسلام وانشقاق الخوارج عن جيش الإمام علي.
كما كتب الدكتور والباحث محمد كرد علي: إن ما يشير إليه بعض الكتاب بخصوص أصل التشيع باعتباره بدعة أدخلها عبد الله ابن سبأ المعروف باسم إبن السوداء، لهو محض خيال ودليل دامغ على جهلهم بالعقيدة الشيعية الحقيقية.
فمهد التشيع نشأ في الحجاز مسقط رأس الإمام علي وهذه الشخصية الوهمية لا وجود لها ولا قيمة لها في النصوص الشيعية المعتبرة. لكن المناوئين لهم ، وهم الأغلبية الساحقة، نجحوا في بث وترسيخ هذه الشخصية الوهمية في الأذهان للطعن في صدقية الاستشهادات والنصوص التي يستشهد بها الشيعة لتبرير مواقفهم واختياراتهم السياسية والعقائدية. لكن التشيع ظل ضعيفاً ومهمشاً في الحجاز ومكة والمدينة في حين ازدهر في العراق إبان خلافة الإمام علي الذي نقل عاصمة الخلافة من المدينة الى الكوفة في العراق. فحتى النبي محمد لم يسلم من ظاهر الدس والتدليس واتهمه بعض القريشيين بأنه تلقى تعاليمه وأفكاره من راهب مسيحي ولم يفعل سوى تكرار وترديد تلك الآراء ذات المنشأ المسيحي.
تشير مصادر إسلامية كثيرة إلى أن أطروحة التشيع ، حتى قبل أن تتلبس بهذا النعت أو التسمية، تعود لفترة حياة النبي وتعود نشأتها وولادتها إلى رغبة النبي في التركيز على أهمية علي بن أبي طالب وجاهزيته وأفضليته على باقي الصحابة في تقلد منصب الخلافة بعد وفاته.من هنا يمكننا القول أنه في حياة النبي كان هناك جناحان متنافسان على الحظوة لدى النبي وربما القيادة من بعده ، أحدهما يقوده عمر ابن الخطاب والآخر يقوده علي ابن أبي طالب، وكان الصحابة المقربون من علي يجدون فيه سمات الزعامة الدينية والدنيوية ويحبونه ويطيعونه وكانوا يعرفون بأتباع أو أنصار علي في زمن النبي محمد. ويعتقد أن النبي كان يعرف بذلك ويشجعه بهدوء لكنه لم يجهر به إلا في اللحظات الأخيرة من حياته، عند مرضه واقتراب أجله، وذلك خوفاً من حدوث تمرد وانشقاق في البنية القيادية للإسلام.
كتب الكاتب المصري محمد فكري أبو نصر رأيه في التشيع قائلاً: لا توجد هناك أية علاقة للشيعة بعقيدة أبو الحسن الأشعري في مجال أصول الدين ولا توجد صلة مباشرة للشيعة مع المدارس الفقهية السنية الأربعة في مجال التطبيقات العفائدية والطقوسية والشعائرية والسبب يعود لكون العقيدية الشيعية هي أقدم من كافة المدارس الفقهية الإسلامية الأخرى وبالتالي فهي الأقرب الى روح الإسلام وجوهره ، ويمكننا بهذا الصدد الرجوه الى كتاب الباحث الإسلامي أسد حيدر المعنون الإمام الصادق والمدارس الأربعة حيث يلقي الضوء على مثل تلك العلاقة. وإن ما يميزها عن بقية المدارس الفقهية الإسلامي هو تركها لباب الاجتهاد مفتوحاً لاستنباط القرارات بما يتناسب مع تطورات المجتمع وتأثره بتطورات العصر الحديث وتعقيداته .
البروفيسور المصري أبو الفا الغانمي كتب في كتاب عنوانه :" مع رجال الفكر في القاهرة" أن هناك عدد من الباحثين في الشرق والغرب، في أيامنا هذه، وفي الماضي، أعطوا أحكاماً خاطئة عن التشيع بعدم استنادهم إلى أدلة وشهادات أهل للثقة وتناقلت آرائهم العامة دون تمحيص أو مساءلة بشأن صدقيتها أو مصداقيتها. ويعود السبب لذلك التحيز المعادي للتشيع إلى أنهم لم يرجعوا إلى اية مصادر شيعية وقبولهم بلا تفكير أو تأمل بأطروحات خصوم الشيعة ونصوصهم غير الموضوعية. ولم يكن الهدف هو البحث عن الحقيقة ، بل محاولة مقصودة للنيل من الشيعة وبث الفرقة بين المسلمين، ونسف أسس الإسلام وشقه.
وبعد موت النبي كان الهدف هو اختيار زعيم دنيوي يتمتع بمواصفات معينة تؤهله للقيادة السياسية الدنيوية وليس إماماً دينياً يقوم مقام صاحب الرسالة بما يمتلكه من علم وقابلية علمية ومتبحر في العلوم النبوية والدينية لمواصلة الرسالة وتطويرها فالذين كانوا في السقيفة كانوا يبحثون عن بديل للنبي لشغل مهامه القيادية السياسية الدنيوية ليس إلا ولم يتحدثوا عن بديل أو خليفة لتحمل أعباء المهام الدينية للرسالة. والحال أن أتباع علي بن أبي طالب كانوا يعتقدون أن زعيمهم يتحلى بالصفتين أي الرئاسة الدنيوية والإمامة أو الزعامة الدينية بينما أعتقد المعسكر الآخر بقيادة عمر ابن الخطاب أن علي لم يكن مؤهلاً لتقلد الزعامة أو القيادة السياسية الدنيوية نظراً لصغر سنه وقلة تجربته في هذا المضمار.
فالنبي كان في آن واحد ، مصدر القوانين والتشريعات الدينية ، ومصدر القضاء وتطبيق العدالة والأحكام، ورئيس السلطة التنفيذية أي الزعامة السياسية الدنيوية التي تقوم المجتمع المدني وأيضاً قائداً عسكرياً يقود أغلب حروبه بنفسه، وهذه صفات نادراً ما تجتمع في شخص واحد من الصحابة، فيما عدا علي بنظر أصحابه وأنصاره.
يقول ألباحث الفرنسي أنطوان صفير في كتابه المهم إسلام ضد الإسلام:
من المتفق عليه اليوم أن الانشقاق الذي حصل في الإسلام ليس عقائدي بل سياسي بالدرجة الأولى ويعود أساسه التاريخي إلى أواخر فترة حياة الرسول ووفاته حيث نشب صراع مستتر، في بداية الأمر بين فريقين من الصحابة، الأول يضم الارستقراطية والاغنياء والوجوه المعروفة من الوجهاء الذي تجمعوا حول عمر ابن الخطاب، والثانية تضم الفقراء وذوي الأصول المتواضعة الذي أحاطوا بالإمام علي إبن أبي طالب، صهر النبي وإبن عمه وربيبه ووارث علمه والمدافع الأول عن الإسلام في أحلك الظروف وأخطرها لا سيما معركة الخندق عندما برز للفارس المشرك عمر بن ود العامري ووصف النبي هذه المبارزة بقوله : " لقد برز الإسلام كله للشرك كله". الفريق الأول أراد أن تكون الخلافة خارج بيت النبوة وخارج عشيرة بني هاشم والفريق الثاني أرادها أن تبقى في بيت النبوة وفي شخص الوريث الشرعي الأنسب من وجهة نظرهم وهو الإمام علي، وعرفوا باسم شيعة علي أي أتباع وأنصار علي. وبسبب النزاع حول من هو الخليفة الشرعي للنبي انشق الإسلام إلى شطرين، ومن ثم ازداد الخلاف وتعمق وتحول إلى خلاف عقائدي بعد أن صار يمس طبيعة الخليفة ودور الخلافة وهل الخلافة شأن دنيوي أم سماوي منصوص عليه من الله؟ وانطلاقاً من تلك الأوضاع ظهر مفهومان للإسلام بعد موت مؤسس الرسالة سنة 632: الأول مفهوم الجماعة وهم الأغلبية والمقصود بهم أهل السنة والثاني مفهوم أهل البيت وهم الأقلية والمقصود بهم شيعة علي أو الإمامية. دام هذا الفرز خلال فترة الخلفاء الراشدين الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولكن على نحو مستتر وغير معلن بيد أن الاستقطاب كان واضحاً بين الفريقين. تغيرت المعادلة عند مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان إبان أحداث الفتنة الكبرى وترسخ الانشقاق الطائفي بعد اغتيال الخليفة الرابع علي بن أبي طالب سنة 661 ميلادي والذي كان يقف على قمة الهرم الشيعي واعتبر بمثابة مفتاح التشيع السياسي والديني والعقائدي الذي تم توثيقه في الكتاب الذي عزي لعلي بن أبي طالب وهو نهج البلاغة الذي يجمع خطب وأحاديث وحكم ووصايا الإمام علي. مازال تصرف النبي محمد إزاء موضوع خلافته يشكل لغزاً كبيراً فلم يكن هناك من ينازعه أو ينافسه على السلطة لا دينياً و دنيوياً أو سياسياً، وكان يعرف توازنات القوى داخل مجمع الصحابة المحيطين به وامتداداتهم القبلية، فلماذا لم يحسم المسألة علنا في حياته ويصرح باسم خليفته؟ و كذلك بسبب غياب نص ديني إلهي مقدس صريح ينص على شخص بعينه ليخلف الرسول في مهمته، كما يقول أهل السنة والجماعة بينما يدعي الشيعة أن هناك نصوص وإشارات صريحة صدرت من قبل النبي بتولية علي بن أبي طالب خاصة في خطبة الوداع في غدير خم التي قال فيها:" من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والي من ولاه وعادي من عاداه الخ..." وهكذا حدث في سنة 632، وهي سنة وفاة الرسول محمد، فراغ تشريعي وقضائي لعدم وجود مؤسسات بديلة لقيادته في حال غيابه. كانت التجربة الإسلامية في طور التوسع والتنامي عند وقوع الانقسام المميت في جسد الأمة. كانت بذور وجذور الانشقاق والانشطار موجودة حتى في حياة محمد لكنها لم تكن صريحة وعلنية بل خفية لكنها محسوسة. كان هناك إجماع بين المسلمين فيما يتعلق بسماوية الرسالة ومصدرها الإلهي باعتبارها منزلة من السماء، لكن الإجماع كان مفتقداً فيما يتعلق بشخص من سيخلف النبي وصلاحياته وشروط اختياره ومبايعته وحدود سلطته وهل هي دينية سياسية فقط أم دينية أيضاً؟ بمعني آخر، هل الخلافة أمر إلهي أم بشري؟ أعتبر قسم من المؤمنين أن الشرعية الإلهية مستمرة من خلال حقوق وشرعية آل بيت النبوة وعائلة النبي المتمثلة بابنته فاطمة وولديها الحسن والحسين وزوجها إبن عم النبي وربيبه ووارث علمه وتجربته وموضع أسراره، علي بن أبي طالب لذلك فمن البديهي والمنطقي أن يكون هو الخليفة الشرعي للنبي محمد لأنه أقرب الناس له وأول المصدقين والمؤمنين برسالته من الذكور، وأكثر المدافعين عنها بسيفه وجهاده وأفضل العرافين بأسرار الرسالة وعقائدها وتشريعاتها وظاهرها وباطنها، كما يعلن الشيعة. في حين اعتبر قسم كبير من المسلمين وهم الغالبية الساحقة، أن الجانب الإلهي من الرسالة قد انتهى بموت صاحب الرسالة وبات من الضروري تطبيق التقليد القبلي، أي اختيار من تنطبق عليه الأوصاف التي حددها النبي قبل وفاته والتي تتعلق بمكانة وشجاعة وحكمة من يتولى القيادة، وفقاً للتقاليد والعادات والأعراف القبلية التي كانت سائدة قبل الإسلام وبناءاً عليه تم اختيار أبو بكر للخلافة وبويع من قبل المسلمين، عدا بنو هاشم عشيرة النبي وعلى رأسهم علي بن أبي طالب وزوجته ابنة النبي فاطمة بنت محمد وعدد من الصحابة الموالين لعلي بن ابي طالب. وهناك روايتان تناقلتهما كتب التاريخ والتراث الإسلامي عن حيثيات وتفاصيل اختيار الخليفة، وعما جرى في سقيفة بني ساعدة من مساجلات حادة، الأولى شيعية، وفيها تفاصيل كثيرة عن مؤامرة أعدت في الخفاء قبل وفاة النبي وأثناء احتضاره لعب فيها عمر بن الخطاب دور البطولة وقام بما يشبه الانقلاب العسكري بمواصفات عصرنا الحديث بغية الحصول على السلطة بالقوة المسلحة وبالمناورات السياسية، والثانية سنية تطعن بالكثير من المصادر التي استند إليها الشيعة وتختصر ما حدث في السقيفة وما بعدها بعملية اختيار طوعية وسلسة تمت بالمحاجة والاقناع بين الأنصار بقيادة سعد بن عبادة والمهاجرين بقيادة أبو بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح نجح فيها المهاجرون بإقناع الأنصار بصدقية حججهم فمالت الكفة لصالحهم وطلب عمر من أبو بكر أن يمد يده ليباعه وتقاطر الحاضرون من الأنصار لمبايعته ، على اعتبار أن مسألة الخلافة شأن دنيوي بحت يقرره المسلمون وحدهم دون الرجوع لكتاب الله ووفق حديث ردده المسلمون عن النبي أنه قال :" أنتم أدرى بشؤون دنياكم" وهو حديث قيل في ظروف مختلفة تماماً لا علاقة لها بمسألة اختيار الخليفة، وكان اختيار أبو بكر، لاعتبارات لا تمت بالشرعية بصلة عدا إمامة للصلاة في المسلمين بدل محمد عندما كان النبي مريضاً، ولأنه والد عائشة أحب زوجات النبي إلى قلبه، وأقرب أصدقائه وأخلصهم وأكبر الصحابة سناً بعد النبي، بينما لم يتجاوز عمر علي بن أبي طالب آنذاك الثلاثينات. وكان أبو بكر قد خرج على المسلمين خاطباً بعد إعلان وفاة النبي محمد قائلاً:" من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وتلى عليهم الآية التي تقول:" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين". لم يحكم أبو بكر كخليفة سوى سنتين كانتا مليئتين بحروب الردة وإعادة فرض هيبة وهيمنة وسلطة الدين على القبائل والشعوب المرتدة التي امتنعت عن دفع الزكاة والجزية. وكان أبو بكر يعمل على تهميش الإمام علي وبني هاشم وإبعادهم عن الشأن السياسي وحصرهم في مهمة الإرشاد والوعظ الديني البحت، بل وصادر بعضاً من حقوقهم وصادر أرض فدك من فاطمة التي ورثتها عن أبيها بحجة أنه سمع النبي يقول إن الأنبياء لا يورثون، وهو الوحيد من بين الصحابة الذي يدعي أنه سمع هذا الحديث، وإن آل بيته لا تحل عليهم الزكاة. عهد أبو بكر قبل وفاته بالخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب بوصية أخذن شكل الأمر القطعي الذي لا يقبل الاعتراض أو الطعن وذلك سنة 634 ميلادي، وانطلق في فتوحات في شمال أفريقيا، أي الجزائر وتونس والمغرب الحالية والشرق الأوسط، أي مصر والعراق وفلسطين والأردن وسورية ولبنان حالياً، وشبه القاره الهندية وبلا فارس أو إيران الحالية، وأسس جيشاً إسلامياً جراراً وحقق بعض الانتصارات وأغتيل سنة 644. واختار عمر ستة من الصحابة لخلافته قبل وفاته على أن يختاروا أحدهم وكان من بينهم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان اللذين كانا يتمتعان بأفضل الحظوظ من بين باقي المرشحين، وفي لعبة محبكة تم استبعاد علي من الخلافة واختيار عثمان بن عفان من البيت الأموي الذي كان ألد أعداء الإسلام وكان زعيم الأمويين أبو سفيان العدو اللدود لمحمد، لأن علي رفض أن يحكم بالقرآن والسنة ونهج الشيخين، أي الخليفتين السابقين أبو بكر وعمر، وأصر على الاجتهاد بنفسه في الإدارة، في حين وافق عثمان على هذا الشرط التعجيزي بالنسبة لعلي بن أبي طالب. أحدث عثمان بن عفان تغييرات كثيرة في منهجية الإدارة والحكم فحابى أبناء عشيرته وقربهم ومن بينهم مروان بن الحكم الذي نفاه النبي لسنوات طويلة، وجعل منه مستشاره الأقرب بل وأكثر من ذلك حيث كان بمثابة رئيس الوزراء في التركيبة الهرمية لسلطة الخلافة، وبيده ختم الخلافة. وعين معاوية ابن أبي سفيان والياً على الشام، أي سوريا الحالية وفلسطين ولبنان. وتصرف بحرية وبدون قيود برأس مال المسلمين أي بخزينة الدولة، وعامل بقسوة معارضيه من أجلاء الصحابة كعمار ابن ياسر وغيره. ثم قام بجمع القرآن في كتاب واحد واختار صيغة واحدة هي صيغة زيد وأحرق باقي الصيغ كصيغة ابن مسعود وغيره من كتبة القرآن وحافظيه، من باقي الصحابة. وبالطبع تجاهل صيغة القرآن التي جمعها وأعدها الإمام علي، وهذه قصة طويلة ومعقدة تحتاج لعدة مجلدات لدراستها وتحليلها. وبالطبع كان الهدف من جمع القرآن سياسياً أكثر من دينياً. لقد تنامت ضده حركة الاحتجاج ووصلت الى حد التمرد المسلح حيث طوق المتمردون على حكمه قصر الخلافة و اقتحموه وقتلوه بداخله سنة 656 ميلادي. اتهم الأمويون الإمام علي بتحريضه على قتل عثمان أو التستر على قاتليه وعدم الكشف عنهم ومحاكمتهم، ويشاع أن من بين الثوار محمد ابن أبو بكر شقيق عائشة زوجة النبي. بل إن هذه الأخيرة نفسها كانت تحرض الناس على قتل الخليفة وتقول:" اقتلوا نعثلاً فقد كفر" وتقصد به عثمان بن عفان. والحال أن الإمام علي لم يستخدم العنف والقوة قط ضد أي من معارضيه ممن سبقه من الخلفاء الثلاثة. وبعد مقتل عثمان اختار الناس ومعهم كثير من الصحابة الإمام علي كخليفة على المسلمين وهو الخليفة الراشدي الرابع بعد مضي 24 عاماً على وفاة الرسول. وحكم أربع سنوات وتسعة أشهر 656-661 كانت مليئة بالحروب والاضطرابات التي يمكن وصفها بأنها أول حرب أهلية بين المسلمين. كان الإمام علي محارباً شديد البأس، شجاعاً وكريماً وزاهداً وتقياً وعالماً فذاً ومتكلماً بليغاً، لكنه لم يكن سياسياً ناجحاً. أسلم في عمر العاشرة ورافق النبي منذ طفولته حتى مماته وكان يعتبر نفسه الخليفة الشرعي والمنطقي للمرشد الذي رباه وعلمه وزوجه ابنته وجعل منه منبع آل بيت النبوة ولم يكن يرغب بالسلطة من أجل السلطة بل كان يرغب بمواصلة نهج الرسالة المحمدية وتوحيد الأمة. كان يرى أن مهمته دينية لأنه يمتلك ناصية العلم المحمدي وكان النبي محمد يردد أنا مدينة العلم وعلي بابها. وخلال حكمه كان يحاول تفادي الصراع المسلح مع خصومه والمعترضين على خلافته وكان يعتبر كافة المسلمين متساوين في الحقوق والواجبات وإن الانتماء للإسلام يأتي فوق أي انتماء آخر للقبيلة أو العشيرة أو العائلة وكانت أولوية علي بن أبي طالب إيجاد نوع من المواطنة الإسلامية أو الدينية كأساس لا بد منه لنشر دين محمد وتوطيد أركان الرسالة الإلهية. كان يهتم بتنظيم شؤون الأمة أكثر من اهتمامه وحرصه على السلطة فالدولة ليست غاية بل وسيلة لتوحيد المؤمنين وكان متحمساً لدين محمد ونشره ولم يكن متحمساً لممارسة السلطة السياسية أو راغباً بتحقيق غايات ومصالح شخصية من خلال استغلال سلطة الخلافة. لم يكن هناك إجماع على خلافته لكنه كان يحظى بتأييد ومبايعة الغالبية العظمى من المسلمين في المدينة. تفاقمت التوترات الداخلية في جسد الأمة الإسلامية وتزايدت الصدامات والتمردات ونقض البيعة في عهده والطعن بشرعية خلافته من قبل عدد من الصحابة تتقدمهم زوجة النبي عائشة بن أبي بكر وكانت لديه ثلاثة أهداف رئيسية وهي فرض السلام على حدود الدولة الإسلامية وهيبتها وتأمين الاستقرار السياسي وكشف قتلة عثمان ومحاكمتهم وهذا هو تسلسل أولياته.
كان أبرز الصحابة المتمردين على خلافة علي بن أبي طالب هما طلحة والزبير بن العوام في شتاء 656 حيث شكلا جيشاً كان على رأسه عائشة وهي تحرض المقاتلين ضد علي وجيشه في البصرة من على ظهر جمل محمي بالرجال والسلاح المحيطين بهودجها. كانت عائشة تكره علي منذ سنوات طويلة بسبب رأيه بتطليقها من النبي في أعقاب الشبهات التي حامت حولها في حادثة الأفك الشهيرة في تاريخ الإسلام، وظلت تحقد عليه وتتآمر ضده بل وحاربته عسكرياً عندما أصبح خليفة على المسلمين في موقعة الجمل الشهيرة التي راح ضحيتها آلاف المسلمين الذين كان يتحاربون ضد بعضهم البعض وهم من نفس العشيرة بل ومن نفس البيت ونفس العائلة. انتصر علي في هذه الحرب الأهلية وأعاد عائشة الى المدينة معززة مكرمة، وعفا عن بقية المقاتلين المتمردين ضده مما اثار حفيظة جزء من مقاتلي جيشه. انتقل علي من المدينة الى الكوفة في العراق التي نقل اليها مقر الخلافة ليكون في أقرب نقطة ممكنة من قوات معاوية ابن أبي سفيان الأموي والي أو حاكم سورية والمتمرد الآخر على خلافة علي بحجة الأخذ بثأر عثمان باعتباره من عشيرته بنو أمية. ولقد سبق لمعاوية أن اتهم علياً بمعرفة قتلة عثمان وإخفائهم والتستر عليهم بل وتحريضهم على قتل عثمان، وبهذه الذريعة الواهية أعلن معاوية الحرب على علي بن أبي طالب الخليفة الشرعي بعد فشل كل المفاوضات بين الاثنين وتعنت معاوية ووقعت المواجهة المسلحة سنة 657 بعد عام من واقعة الجمل في صفين بالقرب من منطقة الرقة الواقعة على الحدود العراقية السورية. تجمع أكثر من 70000 مقاتل ودارت حرب شعواء بين الجانبين وقع فيها كثير من القتلى والجرحى لا سيما بين صفوف جيش معاوية وكاد النصر أن يتحقق لعلي لولا اللجوء الى الخديعة عندما رفع المقاتلون الشاميون صفحات القرآن على الرماح وطالبوا بالتحكيم والقبول بالهدنة والاحتكام لكتاب الله ولم يتمكن علي من منع وقف المعركة ومواصلة القتال واضطر للقبول بالتحكيم مما أثار امتعاض جزء كبير من جيشه. غادر جزء لا بأس به من الجيش معسكر علي وجزء آخر من معسكر معاوية ممن لم يقبلوا بالتحكيم وشكلوا ما عرف فيما بعد بحركة الخوارج وكان ذلك بمثابة أول انشقاق صريح في الإسلام ورفعوا شعار لا حكم إلا لله. وكانوا متشددين ومتعصبين سياسياً وعقائدياً، لم يبق منهم الكثير في أيامنا هذه سوى عدد قليل في سلطنة عمان وقليل منهم يعيش في تونس والجزائر. وكان ممثل علي في التحكيم أبو موسى الأشعري قد تنازل عن خلافة علي وخلعه فيما تشبث فيها عمرو بن العاص ممثل معاوية في التحكيم وثبت معاوية خليفة للمسلمين ومن ثم سيطر معاوية على مصر ووضع عمرو بن العاص والياً عليها وتابعاً له، فيما ظل علي خليفة على باقي الولايات الإسلامية في المدينة ومكة واليمن والعراق وشمال افريقيا الخ.. نظم الخوارج ثلاث عمليات إرهابية انتحارية ضد علي ومعاوية وعمرو بن العاص في نفس الوقت ففشلو ضد عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان الذي تعرض لجروح طفيفة ونجحوا في اغتيال علي لأن قاتله عبد الرحمن ابن ملجم ضربه على رأسه بسيف مسموم وتوفي الإمام الخليفة بعد ثلاثة أيام متأثراً بجراحه. أختار أتباع علي الحسن بن علي ابن ابي طالب خلفاً لأبيه لمنصب الخلافة ولكن من دون توصية من قبل علي، ومن وجهة نظر شيعية يكون الحسن قد ورث عن أبيه الإمامة والمنصب الديني وقبل باختيار المسلمين له للمنصب السياسي أي الخلافة. زحف معاوية بجيش جرار على الكوفة مقر خلافة الحسن لكن موازين القوى عسكرياً لم تكن تميل لصالح الحسن بعد تخلي جزء كبير من جيشه عنه ورفضهم القتال معه ضد جيش معاوية المدجج بالعدة والسلاح والخيل فوافق الحسن على الصلح مع معاوية والتنازل عن الخلافة مقابل مردود مادي منتظم ووعد بأنه سيصبح الخليفة القادم بعد وفاة معاوية. استمرت خلافة معاوية من 661 الى 750 ميلادية وكان رجل دولة وداهية ومتأثراً بنمط الحكم البيزنطي والروماني وقام بنقل مقر الخلافة من الكوفة الى دمشق والحط من قيمة مدينة النبي يثرب العاصمة الإسلامية الأولى سابقاً فأسس دولة حديثة مبنية على الملكية الوراثية وصك النقود وفرض الضرائب وشكل جيشاً محترفاً. وكان يضع كل السلطات الدينية والمدنية والعسكرية والاقتصادية بين يديه، أي كان حاكماً مطلقاً على غرار القياصرة. وقبل وفاته قام بتسميم الحسن على يد زوجته جعدة التي وعدها بتزويجها لابنه يزيد ثم تنصل عن وعده وقتلها بعد أن قتلت الحسن بالسم. وصار يراقب آل البيت ويحصي عليهم أنفاسهم ويضيق عليهم الخناق ويطارد اتباعهم بالقتل والتعذيب والتشريد ويشتم الامام علي من على منابر المساجد ويحط من قيمته ودوره ويشوه تاريخه وكان اتباع علي يتنكرون لمعتقداتهم باستخدام التقية واخفاء مشاعرهم ومواقفهم الحقيقية خوفاً من بطش معاوية. توفي معاوية سنة 680 ميلادية بعد أن أخذ البيعة لولده يزيد بالقوة وبالاغراءات المالية والمادية للصحابة والتابعين وهنا بدأت المرحلة الثانية من تكون التشيع ككيان متميز داخل الإسلام، خاصة عندما أعلن الإمام الحسين بن علي ابن أبي طالب رفضه مبايعة يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان خليفة للمسلمين وأعلن الثورة عليه من المدينة التي غادرها الى مكة ، في البداية، ومن ثم من العراق التي وصلها بصحبة 72 من أتباعه المخلصين وآل بيته. حوصر من قبل جيش يزيد في منطقة تسمى كربلاء في العراق وخير بين الموت أو الاستسلام ومبايعة الخليفة يزيد إلا أنه رفض وقاوم حتى قتل هو وأصحابه وأفراد عائلته فيما عدا الأطفال والنساء وأحد أبنائه الذي كان مريضاً هو علي بن الحسين السجاد. اعتبر الشيعة موقف الحسين نموذجاً للثورة ضد الظلم ورمزاً للمقاومة والإباء والحفاظ على الكرامة وصيانة الرسالة النبوية. لكن تخطيطه العسكري لم يكن موفقاً ولم يأخذ بالاعتبار توازنات القوى والخلل في الميزان العسكري بين جيشه وجيش خصمه يزيد بن معاوية، حتى لو فسر الشيعة ذلك على نحو بطولي وتراجيدي بأنه كان يعرف مصيره مسبقاً وأنه سيستشهد لا محالة ومع ذلك لم يتردد أو يذعن أو يتنازل. وهكذا بني الفكر الشيعي على سيرة شخصيتين محوريتين هما الإمام علي والإمام الحسين وصارت الأماكن المقدسة الشيعية هي مراقد الشهداء في العراق، علي في النجف والحسين في كربلاء. وابتعدت الشعائر والطقوس الدينية الشيعية رويداً رويداً عن الممارسات السنية وصار الشيعة يستذكرون بألم وأسى ذكرى موقعة الطف في كل سنة في عاشوراء بينما لا يعيرها السنة نفس الاهتمام. ثم دخل مفهوم التقية والاجتهاد عند الشيعة وهما مفهومان دينيان غريبان وغير محبذان عند أهل السنة. وتمكن الشيعة من تأسيس مؤسسة دينية منظمة ومستقلة أشبه بالفاتيكان الكاثوليكي المسيحي ألا وهي مؤسسة المرجعية الدينية الشيعية وهي غير موجودة في الممارسات والمؤسسات الدينية السنية، ويقابلها الجامع الأزهر الشريف في مصر والذي أسسه الفاطميون الشيعة في الأساس. وعلينا أن نتذكر أن الاجتهاد قد توقف عند السنة في القرن الحادي عشر الميلادي عند أربعة مدارس فقهية في المذهب السني وهي المالكية التي أسسها مالك إبن أنس ومنتشرة في شمال أفريقيا ومصر والسودان، والشافعية التي أسسها الإمام الشافعي المتبعة في مصر وأندونيسيا وماليزيا واليمن وسلطنة بروناي، والحنبلية التي أسسها أحمد إبن حنبل والمتبعة في العربية السعودية وقطر ومنها انبثقت المدرسة الوهابية المتشددة والمدرسة الحنفية المنتشرة في العراق. وكلتا الطائفتين الرئيسيتين في الإسلام تدعيان أنهما الفرقة الناجية التي تحدث عنها النبي محمد في حديث مشكوك في صحته.
خلافات عقائدية وخصوصية التشيع:

أهم ما يميز الفكر الشيعي عقائديا وسياسياً هو مفهوم الإمامة التي جعلها الشيعة من الأصول و كذلك طبيعة الإمام الذي اعتبروا أنه منصوص عليه من الله بالنص وبالتالي فهو معصوم عن الخطأ، أي أضافوا مفهوم العصمة، وإن الإمامة متوارثة حيث ينص كل إمام على من سيخلفه بالاسم الصريح تفاديا للإشكال الذي حدث بعد وفاة النبي وادعاء اهل السنة والجماعة ان النبي لم يسمي احداً بالاسم الصريح وبالنص المكتوب لكي يخلفه، وإن الأمر يبقى محصوراً بنسل النبي وذريته من فاطمة ابنته وعلي صهره زوج ابنته وابن عمه وربيبه ويستمر في نسل الحسين بن علي حصراً وهذا ما ثبته منظر الشيعة واشهر أئمتها جعفر الصادق 703-765 وهو ابن محمد الباقر ابن علي ابن الحسين السجاد ابن الحسين بن علي ابن ابي طالب، وهو الإمام السادس من الأئمة الإثني عشر الذي قال إن النص ووراثة الإمام ناجم عن إرادة إلهية خفية أو مستترة لا يعرفها إلا الأئمة المعنيين أنفسهم، بينما لا يعني الإمام في الفقه السني سوى الشخص الذي يؤم الناس في صلاة الجماعة فهو الذي يقود صلاة الجماعة يوم الجمعة. كما أضاف الشيعة مبدأ التقية، أي إخفاء إيمانهم وإظهار ما يخالفه علناً حماية للنفس من القتل والأذى، ولقد مارسوا هذا المبدأ منذ وفاة علي الخليفة الراشدي الرابع، وذلك خوفا من بطش معاوية وباقي الخلفاء الأمويين الممارس ضد الشيعة. وهناك مبدأ البداء ومفهوم الغيبة وهي جزء جوهري من عقائد الشيعة وغير موجودة عن أهل السنة. فالبداء يعني أن الله أراد شيئاً وبداء له بعد ذلك شيئاً آخر فالإمام السادس جعفر الصادق عين ابنه البكر إسماعيل إماماً يخلفه حسب نص إلهي عليه كما أخبر أتباعه إلا أن إسماعيل توفي قبل أبيه جعفر الصادق ومن المفروض أن تبقى الإمامة في نسل إسماعيل لذلك انشق الشيعة بعد وفاة جعفر الصادق وظهرت الطائفة الإسماعيلية، نسبة لإسماعيل ابن جعفر الصادق وابنائه واحفاده ونسله، احتجاجاً على اختيار جعفر الصادق 703-765 بديلاً لإسماعيل في شخص موسى الكاظم 745-799 الذي حبسه الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد سنين عديدة ومن ثم اغتاله بالسم، واعتبر الشيعة الإثني عشرية موسى الكاظم بمثابة الإمام المعصوم السابع بينما اعتبر الإسماعيليون إسماعيل المتوفي قبل والده هو الإمام السابع وتوقفوا عنده وسموا بالشيعة السبعية واعتبر بعضهم ان إسماعيل هو المهدي المنتظر. فبعد استشهاد الإمام الحسين في كربلاء على يد جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، تعاقب تسعة أئمة وشكلوا القاعدة الإيمانية والعقائدية للشيعة الإثني عشرية. وتنتهي سلسلة الإمامة عند الإمام الثاني عشر محمد المهدي ابن الحسن العسكري الذي اختفى وغاب عن الأنظار بأمر إلهي سنة 874 ميلادية. ويعتقد الشيعة بضرورة وجود الإمام، حاضراً أم غائباً لإدارة شؤون الأمة الإسلامية والعالم. ولقد كان هناك انشاق طائفي آخر في نسيج المذهب الشيعي عند وفاة الإمام السجاد علي ابن الحسين 658-713 فانحاز بعض الشيعة نحو ابنه زيد ابن علي الثائر ضد الحكم الأموي الذي اعتبره بعض اتباعه انه لم يستشهد بل غاب وانه هو الامام المنتظر، بينما التفت الأغلبية حول شخص الإمام محمد الباقر 676-743 الذي اختاره السجاد خلفاً له. وسمي اتباع زيد بن علي بالزيدية الذين ما يزالون الى اليوم متواجدون في اليمن الحالي. وخلف الإمام علي الرضا 765-818 والده موسى الكاظم وأعقبه ابنه محمد الجواد 810-835 باعتباره الإمام التاسع ومن بعده علي الهادي 827-868 باعتباره الإمام العاشر وخلفه في الإمامة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري 846-874 ، الذي يتبعه العليون من خلال ابن نصير لذلك سموا النصيرية، وأخيرا الإمام الثاني عشر محمد المهدي الذي يدور حوله لغط كبير وغموض، حتى أن البعض أنكر وجوده وإنه لم يولد أصلاً في حين اعتبره الشيعة الإثنا عشرية الامام الغائب الذي سيعود في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلا بعد أن ملئت ظلماً وجورا. يقول الشيعة الإثني عشرية أن الإمام الثاني عشر المهدي غاب مرتين الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى وبين الغيبتين كان يتصل بسفراء له كان عددهم طيلة الغيبة الصغرى أربع سفراء. وبوفاة آخر السفراء غاب غيبته الكبرى التي ما تزال مستمر الى يوم الناس هذا، منذ سنة 874 ميلادية. يستند الشيعة في عقائدهم الى نفس المصادر الأساسية للدين ألا وهي القرآن والسنة النبوية والأحاديث ولكن مصادرهم ورجالات الحديث عندهم يرجعون للأئمة ولآل البيت النبوي أكثر من رجوعهم للصحابة ناقلي أحاديث النبي وبالتالي لهم صحاحهم الخاص الذي يختلف عن صحاح أهل السنة، وعنوانه الكافي. فتجسد الله ورؤيته يوم القيام يكون مجازياً عند الشيعة وواقعياً عن السنة، كما يعتقد الشيعة أن الإنسان حر في اختياراته ومسؤول عن أفعاله، عكس مقولة القضاء والقدر بصيغتها الأورثوذوكسية الإسلامية. وهناك طوائف شيعية أخرى انسلخت عن الجسد الشيعي على مر الأزمان كالفاطميين والدروز والعلويين الخ..
ترسخ الخلاف الفقهي والعقائدي بين السنة والشيعة في الإسلام أكثر فأكثر خاصة بعد أن أغلق السنة باب الاجتهاد وتركه الشيعة مفتوحاً إلى يومنا هذا وظهرت طبقة من علماء الدين الشيعة، بدرجات ومراتب هرمية من طالب حوزة إلى ملا ومن ثم حجة الإسلام والمسلمين ومن ثم مجتهد، وهناك مجموعة كبيرة من المجتهدين وحولهم الكثير من المقلدين ومن بينهم برزت مجموعة من العلماء يحملون مرتبة آية الله وآية الله العظمى ومن بين هؤلاء تكونت المرجعية الدينية الشيعية التي تضم عدة مراجع ومن بين هؤلاء في هذه التركيبة الهرمية المراتبية يتم اختيار المرجع الأعلى بما يمكن مقارنته بمؤسسة الفاتيكان المسيحية الكاثوليكية ويمارس الفقهاء والعلماء ورجال الدين الشيعة بدرجة آية الله العظمى والمرجع أغلب مهام وصلاحيات الإمام الغائب وليس كلها. وكانوا في غالبيتهم الساحقة يرفضون ممارسة السلطة السياسية الدنيوية لأنها من حق الإمام الغائب المهدي المنتظر فقط ولا يعترفون بشرعية السلطات والأنظمة الدنيوية التي تحكم العالم الإسلامي. إلى أن ظهر مرجع كبير هو آية الله العظمى روح الله الخميني الذي قلب هذه المعادلة ونادى بسلطة الولي الفقيه في نظرية ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية التي يقودها مراجع الدين تمهيداً لظهور الإمام المهدي، وانقسم رجال الدين الشيعة بين مؤيد لهذه النظرية ومعارض لها. ولا وجود لمثل هذه المؤسسة الدينية المستقلة في الفقه السياسي والديني السني، هناك بعض الشيوخ المتخرجين من جامعة الأزهر ومثيلاتها في العالم الإسلامي يجري تعيينهم من قبل الأنظمة الحاكمة كموظفين في الدولة للقيام بمهماد الارشاد والتوجيه الديني ولإمامة صلاة الجمعة وإلقاء الخطب والمواعظ. ولا يوجد عالم مجتهد سني اليوم فهم جميعاً مقيدون بالنص القرآني حرفيا وبالأحاديث والتفاسير الموجودة لأن باب الاجتهاد أغلق منذ نهاية القرن الحادي عشر الميلادي. يتحسس السنة من بعض الممارسات الطقوسية والشعائرية الشيعية والممارسات الاجتماعية مثل التعزية التي تقام في عاشوراء لمدة عشرة أيام ويجري فيها تسيير مواكب عزاء ولطم الصدور وجلد الظهور بالسلاسل وضرب الرؤوس بالسيوف الخ.. وإباحة ما يسمى بالزواج المؤقت أو زواج المتعة التي يحرمها أهل السنة ويعتبرونها نوعاً من البغاء المشرع والتي حرمها عمر كما يقولون بينما يعترض الشيعة على تحريمها ولكنهم وضعوا لها الضوابط والقيود والتشريعات اللازمة.
الخلافات العقائدية ولخصوصية التشيع باعتبار التشيع تيار رئيسي وفي نفس الوقت أقلية في المجتمع الإسلامي وتميزه بممارسات وشعائر وطقوس خاصة مثل التعزية وطقوس عاشوراء وغير ذلك مع لمحة سريعة لتطور التشيع تاريخياً منذ الأصول إلى يومنا هذا. أما القسم الثالث فقد خصصه المؤلف لجيوبولتيك التشيع في الوقت الحاضر من خلال الحديث عن الثورة الإسلامية في إيران وتنامي الفكر الشيعي وانتشاره وتوزعه الجغرافي وطبيعة السلطة الإيرانية وهل يجب أن نخشى إيران.
أما مارتين غوزلان فقد نشرت كتاب مهم عنوانه: السنة والشيعة لماذا يتقاتلون؟
ومنذ البداية وجهت الكاتبة أصابع الاتهام لهذا الصراع المذهبي الدامي إلى التنافس والتناحر الشديد بين قطبي الإسلام المعاصر وهما إيران والعربية السعودية وكيف يقوم الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة السابق في واشنطن بتمويل الجماعات السنية المسلحة لمواجهة المد الشيعي، ومسؤولية الأيديولوجية الوهابية المتشددة والمتعصبة في تأجيج الصراع منذ عقود طويلة. وتطرقت الكاتبة إلى أمثلة عديدة على ذلك في العراق ولبنان وسورية والباكستان وأفغانستان. وكانت هذه المقدمة غنية ومليئة بالأمثلة والأرقام والإحصائيات والأدلة والشواهد الحية المعاصرة والتاريخية.
فالكاتبة تفترض مقدماً أن هناك قطيعة شبه نهائية قد حصلت في جسم العالم الإسلامي منذ بدايات الرسالة. وتذكر بالتحديد تاريخ يوم من أيام شهر حزيران سنة 632 وتقول أنه يوم الاثنين بينما يقول بعض الشيعة أنه يوم خميس وسمي بيوم الرزية. في ذلك اليوم اندلع الانشقاق والاختلاف عندما كان نبي الإسلام ومؤسس الرسالة وقائد الأمة يحتضر على فراش الموت في غرفة زوجته الشابة والمفضلة عائشة بنت أبي بكر الصديق، حسب رواية المؤرخ الإسلامي الطبري، الذي استندت إليه الكاتبة. وكانت شرارة السباق على الخلافة قد انطلقت بعنف وقوة وسط أجواء مشحونة وتوتر ينطوي على استعداد لحسم الموقف بقوة السلاح كما يلخصها الطبري في كتابه تاريخ الطبري ، وفي الجزء الثالث منه الذي كان بعنوان " محمد خاتم الأنبياء" المترجم إلى اللغة الفرنسية من قبل هيرمان زوتنبيرغ والمنشور سنة 1989. وكان مؤلف السيرة، الإمام الطبري قد كتب كتابه بعد مضي قرنين على ذلك الحدث أي وفاة الرسول. وحاول المؤرخ أن ينتزع من هنا وهناك نتفاً من الحقيقة الضائعة عن بداية هذا الدين السماوي التوحيدي الثالث وتسليط الضوء على اللحظات الأولى للمواجهة العنيف بين أتباع هذه الطائفة أو تلك للحصول على الخلافة.
وحتى لحظة الوفاة وأثناءها وبعدها كان الجو ينذر بالخطر وقد بقي جثمانه بعد الوفاة ثلاثة أيام قبل دفنه وهو أمر غريب في عرف ذلك الزمن وفي مناخ شديد الحرارة تتفسخ فيه الجثث بسرعة لذلك تدفن في نفس يوم الوفاة. لأن الجميع كان منشغلاً بأمر الخلافة عدا الإمام علي ابن أبي طالب ، صهر النبي وابن عمه، الذي كان يهتم بأمور التغسيل والتكفين والدفن وطقوس الصلاة على الميت بينما تتواجه القبائل والزعامات والشخصيات الطموحة، من أنصار ومهاجرين، في المدينة التي فقدت وحدتها وتآخيها وأخلاقها وقيمها التي أرساها مؤسس الإسلام، وحدد فيها كل شيء تقريباً ، من حقوق وواجبات على كل مسلم ومسلمة، ماعدا مسألة الخلافة كما يدعي جزء كبير من المسلمين الذين يعرفون اليوم بأبناء السنة والجماعة. بينما يؤكد خصومهم ومنافسيهم المعروفين اليوم بالشيعة أن النبي لم يرحل عن الحياة قبل حسم هذا الأمر الشديد الأهمية واختار علياً وصياً وخليفة له لاسيما في خطبة الوداع في غدير خم لهداية أتباعه والمؤمنين برسالته.
تطرقت الكاتبة في هذا الفصل إلى جميع الأحداث والتفاصيل التاريخية التي كانت سائدة في المدينة في ذلك الوقت العصيب خاصة فيما يتعلق بأهل البيت وأصحاب الكساء أي فاطمة وعلي والحسن والحسين، ولديهما الصغيرين آنذاك، الملتفين حول جثة الحامي الأول لهم والذي فقدوه والحزن يلفهم بينما كان الآخرون يجتمعون في سقيفة بني ساعدة للتفاوض بشأن مصير الإسلام ومستقبله وهم الصف الأول من الصحابة الطامحين للحصول على السلطة بأي ثمن حتى لو كان بقوة السلاح في أجواء تشبه ما يحدث اليوم إبان الانقلابات العسكرية. كان الأنصار يرفضون قيادة منفردة من المهاجرين تتسلط عليهم ويطالبون بقيادة ثنائية، أو شخص يختاروه هم، وكان الشخص الوحيد الذي يمكن أن يرضي قواعد الطرفين الشعبية هو علي ابن أبي طالب وهو أول من أسلم من الذكور وعمره عشر سنوات والذي قاتل واستبسل من أجل الإسلام في كل معاركه وتقلد سيف الرسول ذو الفقار .
ثم تناولت الكاتبة بأسلوب النقد والتعليق حيثيات ما جرى في السقيفة وكيف تمكن أبو بكر والد عائشة زوجة النبي ، وبمساعدة عمر ابن الخطاب، من فرض الأول كخليفة للمسلمين وأخذ البيعة له بالقوة وكيف حاول أبو سفيان عدو النبي اللدود في معسكر المشركين قبل فتح مكة أن يلعب على هذا الانقسام ويستغله ويكيد للإسلام عندما ذهب لعلي ليغريه بالتمرد على خلافة أبو بكر واستعداده لجمع جيش جرار من قبائل مكة تحت قيادة علي للإطاحة بسلطة أبو بكر وعمر إلا أن علي رفض التحالف مع أبو سفيان وفضل السكوت على مضض حماية للإسلام من الانشقاق والتفتت والتشرذم، وهو يعلم أن أبو سفيان لديه مصالح شخصية، ويكن كرهاً دفيناً للإسلام، وتتملكه رغبة في الانتقام، ولا يهمه صالح الإسلام والمسلمين. وعندما لم يجد أبو سفيان آذاناً صاغية لدى علي بن أي طالب تحالف مع أبو بكر وعمر بشرط أن تعطى ولاية الشام لأحد أبنائه وهكذا حصل. اتفق رهط من الصحابة على منع أهل البيت من الجمع بين النبوة والخلافة حتى لا يحدث تقليد يحدد الخلافة حصراً ببيت النبوة وسلالة النبي. اللغز الكبير الذي ظل بلا جواب هو لماذا صمت الإمام علي على حقه إذا كان مقتنعاً بأنه منصوص عليه من السماء؟ إن ذريعة المحافظة على الوحدة الإسلامية وتماسك الدين غير كافية لتبرير هذا الموقف المسالم، والدليل أن الإسلام انشق على نفسه، ووحدته تعرضت ومازالت تتعرض للخطر منذ 1500 عام. ثم استعرضت الكاتبة خطوات الخليفة الأول لترسيخ سلطته وشنه لحروب الردة يساعده في ذلك الرجل الثاني في النظام وهو عمر ابن الخطاب. ومحاولة الثاني إرغام العائلة العلوية على المبايعة ولو بالقوة واستغناء أبو بكر عنها طالما كانت فاطمة بنت النبي محمد على قيد الحياة، لاسيما بعد رفض الخليفة منحها إرثها من أبوها في منطقة فدك، وهي ملكية يهودية آلت إلى النبي بعد دحر اليهود كغنيمة أورثها لفاطمة لكن أبو بكر صادرها بحجة أن ألأنبياء لا يورثون أو هكذا ادعى أنه سمع النبي يقول وهو الوحيد الذي كان مصدرا لهذا الحديث الذي لم يسمعه غيره من الصحابة.
وهكذا برز مفهومان للإسلام، الأول يقف إلى جوار الفقراء والضعفاء والآخر يقف مع الأغنياء الارستقراطيين والأقوياء، الأول يتزعمه قائد قريب من الموت وزاهد في الدنيا ولا يسعى إلى السلطة بأي ثمن والثاني نقيضه تماماً. كانت سلطة الخلافة الأولى براغماتية واستفرادية أو إقصائية تحابي بعض الصحابة وتهمل البعض الآخر، وكانت دنيوية بحتة التف حولها القادة العسكريون وقادة الفتوحات والأغنياء من الصحابة وابتعد عنها المستضعفون والمثاليون من أمثال أبو ذر الغفاري وعمار ابن ياسر وسلمان الفارسي والمقداد ابن الأسود وغيرهم. وقد كرست الكاتبة صفحات كثيرة للحديث عن فاطمة الزهراء ومكانتها عند النبي ودورها قبل وبعد وفاة النبي حيث توفيت بدورها بعد الرسول بستة أشهر ودفنت سراً بناءاً على طلبها حتى لايشارك في تشييعها ودفنها باقي الصحابة لكسب رضاء الرب والنبي وشفاعة أبوها الرسول، حيث ماتت وهي غاضبة على أبو بكر.
كما استعرضت الكاتبة حقبة الخلافة الراشدة الأولى والثانية في عهدي أو بكر وعمر وروت تفاصيل وملابسات حكم عثمان ابن عفان ومسرحية انتخابه المتقنة الصنع والإعداد ووقائع الفتنة الكبرى حيث كانت السلطة بيد التيار الموالي للخلفاء الثلاثة الأوائل قبل أن تطبق عليهم تسمية أهل السنة . ولكن بعد مقتل الخليفة الرابع عثمان آلت الخلافة بالإجماع في أول وهلة للإمام علي سنة 656 ، ولكن سرعان ما تمرد عليه عدد من الصحابة لاسيما الأثرياء منهم والطامعين بالخلافة إلى جانب زوجة الرسول عائشة بنت أبو بكر التي تكره علياً منذ فترة حادثة الأفك التي اتهمت فيها عائشة بالزنا ولكن بدون دليل إلى أن ثبتت براءتها بآية قرآنية وكان علي بن أبي طالب قد اقترح على النبي محمد تطليقها فلم تغفر له ذلك الموقف وظلت تحقد عليه إلى ’خر حياتها. فكانت أول من خرج على خلافة الإمام علي عسكريا بجيش جرار وخاضت ضده معركة دامية سميت بمعركة الجمل لأنها كانت تركب جملاً وتشجع المقاتلين على محاربة جيش الإمام العلي الذي يوجد من بين قادته أخوها محمد أبو بكر. وكان معها صحابة كبار من العشرة المبشرين بالجنة كطلحة والزبير اللذين قتلا في المعركة. ثم تمرد معاوية ابن أبي سفيان على خلافة علي وخاض ضده معركة صفين التي كاد أن يخسرها لولا لجوئه لخدعة رفع المصاحف على أسنة الرماح واقتراح خدعة التحكيم. ثم تمرد جزء من جيش الأمام على علي بن أب طالب لقبوله بالتحكيم رغم شرعية حكمه وخلافته وسموا بالخوارج الذين حاربوا الإمام علي في معركة النهروان وتمكن أحدهم من اغتيال الخليفة الراشدي الرابع سنة 661 فانتهى عهد الخلافة الراشدة وبدأ عهد الحكم الملكي الوراثي الذي أرسى دعائمه معاوية ابن أبي سفيان في الشام وكانت بداية العصر الأموي الذي دام قرناً كاملاً.
فبعد اغتيال الخليفة الرابع الإمام علي كان من الطبيعي، في نظر أتباعه، أن يخلفه ابنه الكبير الإمام الحسن إلا أن هذا الأخير لم يجد معه قوة كافية لخوض مواجهة عسكرية مع معاوية والي الشام الطامع بالخلافة فتنازل له عنها بشروط لم يحترمها ولم يطبقها الخليفة الجديد الذي حول الخلافة إلى ملكية وراثية وظل يلعن الإمام علي من على منابر المسلمين في كل أرجاء الدولة الإسلامية. مات الإمام علي ولم يورث لعائلته سوى 700 درهم بينما كانت الملايين في بيت مال المسلمين تحت تصرف مؤسس الدولة الأموية معاوية ابن أبي سفيان ينفقها كما يشاء وكيفما يشاء. ولم يكتف معاوية بتنازل الحسن عن الخلافة بل اغتاله بالسم بواسطة إحدى زوجات الحسن بعد أن وعدها بتزويجها من إبنه الخليفة القادم يزيد. بيد أنه لم يف بوعده كعادته واغتال الزوجة المجرمة لتفادي خطورتها عليه وعلى إبنه. وحتى بعد وفاة الحسن بالسم أسيء إليه وعارضت عائشة زوجة جده دفنه بالقرب من قبر جده وأعلنت معارضتها علناً على ظهر جمل بحجة أن الأرض هي ملكية خاصة لها وصوب حراسها السهام والنبال ضد نعش الحسن أثناء تشييعه وقبل دفنه، كما سبق لها أن حاربت والده علي من على ظهر الجمل وتسببت بمقتل آلاف المسلمين لذلك فإن لدى الشيعة مرارة خاصة من تصرفات عائشة ولايضعها أحد منهم في قلبه ولايحبها أحداً منهم. وهذه ليست سوى إحدى مظاهر سوء المعاملة التي لاقاها أهل بيت النبوة. وبقي أمام الخصوم والأعداء هدف أخير هو التخلص من عميد العائلة الهاشمية الباقي وهو الإمام الحسين وتصفيته جسدياً أو إرغامه على الانصياع والاستسلام والمبايعة ليزيد وهو ذليل وخانع. وهذا الكلام ورد نصاً كما هو في كتاب الباحثة الفرنسية التي واصلت رسم اللوحة السياسية ـ التاريخية لجذور الصراع العسكري المسلح بين شيعة الإمام علي وعموم أهل السنة الذين التفوا حول الخلافة الأموية الجديدة وأيدوها. وهكذا تم تمهيد الطريق أمام وصول يزيد إلى عرش الخلافة بعد وفاة والده معاوية. وأول هدف قرر يزيد تحقيقه هو التخلص من حفيد النبي محمد الإمام الحسين ابن علي رغم كثرة أنصاره ومؤيديه في جميع الحواضر الإسلامية عدا دمشق. خرج الحسين من المدينة بعد أن أصبح وجوده فيها يشكل خطراً على حياته ولجأ إلى الكوفة لكثرة الأنصار المؤيدين له والمعارضين للحكم الأموي، بعد أن تلقى منهم الرسائل التي تدعوه للقدوم ليكونوا مجندين تحت إمرته وقيادته. وقد وعد المسلمون في العراق بتجهيز 120 ألف مقاتل لنصرته وإطاحة مغتصب الخلافة المرتد وإبن الطلقاء يزيد إبن معاوية. بيد أن يزيد تمكن بالحيلة والمال وشراء الذمم وقتل وتصفية زعماء المتمردين أو سجنهم قبل وصول الحسين إلى الكوفة، من تفتيت التمرد وتطويق الحسين وعزله في موقع يسمى كربلاء بالقرب من الكوفة وحال بينه وبين مياه نهر الفرات وبذلك غدا العطش أحد أبطال التراجيديا الكربلائية ، كما قطع عليه طريق العودة بقوات عسكرية جرارة ، وذلك في العشرة الأولى من شهر محرم حيث استشهد الإمام وأفراد عائلته الذكور وأتباعه المخلصين خلالها من اليوم الأول حتى اليوم العاشر من محرم الذي سقط فيه الحسين نفسه شهيداً ومضرجاً بدمه. وهي المأساة التي يحيي ذكراها الشيعة في العالم في كل عام إلى يومنا هذا ويوزعون الماء السبيل مجاناً في هذه المناسبة منذ قرون. وهي الطقوس التي منعها صدام حسين لسنوات طويلة وقصف قبر الحسين بالصواريخ أثناء الانتفاضة في آذار 1991 بعد حرب الكويت وقبل سقوط نظامه عام 2003 .
وتحت عنوان فرعي هو :" القرآن الرهينة" تقرر مارتين غوزلان في كتابها أن الحرب الأهلية داخل الإسلام أخذت نص القرآن رهينة لديها. وأبحرت في قضية جمع نصوص القرآن وما رافقها من مشاكل وتحديات وتفسيرات ومشاكل عويصة حيث كانت توجد عدة صيغ وقراءات لسور القرآن المبعثرة في الصدور والذاكرة الجمعية وعلى العظام والجلود وسعف النخيل . وتذكر أن أتباع علي ابن أبي طالب أوجدوا في ذلك الوقت آيات يوصي فيها النبي بتسليم المهمة لابن عمه وصهره علي وقد أثارت تلك الحادثة الخليفة الثالث عثمان ابن عفان الذي شعر ، لأسباب استراتيجية ، بضرورة فرض صيغة موحدة للكتاب في كل أمصار العالم الإسلامي. فقد شكل الخليفة الثالث لجنة من الصحابة لجمع القرآن ومواجهة هذا التحدي والرهان الكبير مما أثار جدالاً واسعاً وخلافات كبيرة فالمعركة بشأن القرآن هي معركة الشرعية . وكان أتباع أهل البيت يبحثون في نصوص القرآن قبل جمعه سنة 650 ميلادية عن براهين ومبررات شرعية لمطالبهم مما يتيح لهم التنظير لإيديولوجيتهم فأقل حركة أو فاصلة أو نقطة أو سياق يمكن أن يغير المعنى المراد كلياً. وكانت طرق التدوين والكتابة في ذلك الوقت توفر مثل هذه الفرصة. أكد بعض الشيعة في ذلك الزمن أن الصيغة التي اختارها الخليفة الثالث كانت ناقصة ومحرفة، وهي صيغة الصحابي زيد واستبعاد بقية الصيغ والنسخ كنسخة إبن مسعود ونسخة علي ابن أبي طالب. وقالت تلك الأطروحة إن علي ابن أبي طالب وحده ، الوريث والمتربي في كنه النبي وأقرب المقربين له ، وهو الذي يمتلك النصوص الكاملة للكتاب المنزل حسب تصريح الباحث الإيراني المعاصر محمد علي أمير معزي ومعه الفيلسوف والمستشرق كريستيان جومبيه اللذين كرسا سنوات طويلة من البحث والتقصي وسط تلك الغابة من النصوص والمصادر الشيعية القديمة. فالقرآن الحقيقي حسب هذين الباحثين هو أكبر ثلاث مرات من حجمه الحالي وأن الصيغة الأصلية الطويلة للقرآن كانت لدى علي ابن أبي طالب والذي أخفاها وانتقلت سراً من إمام إلى آخر إلى أن وصلت إلى الإمام الثاني عشر الذي غاب عن الوجود واختفى معه إلى ألأبد النص الكامل للقرآن والمسؤول عن هذه الإشكالية وحيثياتها هم غالبية أصحاب النبي والشخصيات المؤثرة في قريش وعلى رأسهم أبو بكر وعمر الذين رفضوا قبول كافة النصوص الأصلية ووافقوا على الاستقطاعات للأجزاء الأهم من تلك النصوص التي كان يتضمنها القرآن الأصلي إلا أن أئمة الشيعة المتأخرين أمروا بالتغاضي عنها وعدم ذكرها بل والتخلي عنها والقبول بالصيغة الرسمية للقرآن التي فرضها الخليفة الثالث وأحرق غيرها من الصيغ والنسخ التي جمعها قراء آخرين كابن مسعود وغيره واختيرت صيغة زيد، وكان ذلك القرار الشيعي قد جاء خوفاً من ردة فعل السنة واتهامهم الشيعة بالزندقة والهرطقة والانحراف والخروج عن الدين كما فعل اليهود والنصارى الذين حرفوا كتبهم المقدسة. فعلى الصعيد الأيديولوجي تستند هذه النظرية إلى قول النبي بتحريف نصوص الأنبياء السابقين له على يد أتباعهم ومريديهم وينطبق ذلك على التوراة والإنجيل. وقد تنازل الشيعة عن معتقد تحريف القرآن كجزء من أصولهم وعقائدهم باسم البراغماتية والرغبة في التعايش النسبي المشترك مع باقي المسلمين لاسيما في القرن العاشر الميلادي إبان الحكم البويهي الشيعي في بغداد والحكم الفاطمي الشيعي في مصر. حيث صدرت أوامر عليا بتبني النص المتداول حالياً كنص وحيد وكامل يرجع إليه المسلمون كافة شيعة وسنة، وبالتالي سيتركز الاختلاف في مجال التفسير والتأويل للنصوص الموجودة فيه. وقد اختلف المسلمون الأوائل في تسلسل السور والآيات، فوضعها بعضهم حسب تسلسل نزولها ، ومعها حواشي تشرح أسباب النزول، وبمن نزلت، ولماذا، وكان منها مصحف فاطمة ومصحف علي إلا أنها اختفت كلها ولم يعد يذكرها أحد. وكتعويض عن هذا الجانب المهم في الطرح الشيعي لجأ الشيعة إلى التأويل والقول بالمعنى الظاهر للقرآن والمعنى الباطن الذي أصبح أرفع غاية للمعرفة الإسلامية، واقتصر فهم واستيعاب وإدراك المعنى الخفي للنص القرآني مقتصراً على الأئمة الإثني عشر من نسل فاطمة المعصومين الذين خصهم الله بالعلم اللدني وسبر أغوار القرآن ومعرفة أسراره الخفية. فالحقيقة تكمن في القرآن الباطن مثلما كان الحال مع الكابلا والمتصوفة اليهود فيما يتعلق بالتوراة.
وفي ختام الفصل استشهدت الكاتبة بشروحات الفيلسوف والمستشرق الفرنسي المتخصص بالإسلام الشيعي الإيراني هنري كوربان الذي ختم بالقول :" على عكس الإسلام السني ، ذو الغالبية الساحقة في العالم الإسلامي، والذي يقول أن البشرية لاتنتظر شيئاً جديداً بعد الرسالة السماوية الأخيرة التي جاء بها النبي محمد، يترك الشيعة المستقبل مفتوحاً أمام العقيدة الإسلامية حتى بعد مجيء خاتم النبوة فهناك خاتم الولاية الذي يواصل مهمة بعث الرسالة. فالإمام علي قال بنفسه بعد معركة صفين ورفع المصاحف على أسنة الرماح:" إن القرآن حمال أوجه وهو نصوص خفية بين دفتي الغلاف، ليس فيه لسان ناطق ويحتاج للتأويل " وهي المهمة التي سيتصدى لها الشيعة ويتخصصون فيها نحو مهمة إنقاذية أو خلاصية جديدة ترتبت على ما آلت إليه أحوال المسلمين بعد فاجعة كربلاء الأمر الذي يرفضه السنة جملة وتفصيلاً.
ماذا بقي من الإسلام اليوم ؟ وهل هناك إسلام واحد أم إسلامان أم عدة إسلامات؟
هل هناك إسلامان؟"
إن الفكر العقائدي السني يحاول أن يدعم ويقوي ركائزه الأيديولوجية والعقائدية كونه مهووساً بهاجس التنافس الشيعي الذي يتعقب كل معنى خفي وكل إشارة وكل تفسير باطن يختفي وراء كل كلمة وآية في القرآن والأحاديث . فالفكر الثيولوجي السني يفضل الترديد على البحث والتعمق والتقصي. فالمعلقين الأورثوذوكس السنة لايعلقون أو يجتهدون في التفسير والتأويل بل يكتفون بإعادة إنتاج وترديد النصوص السلفية القديمة. فكل شيء قيل وثبت وشهد وتمت معايشته وكتب مرة وإلى الأبد وساد ذلك الفهم طيلة الحقبتين الأموية والعباسية . فالحاضر هو ترديد وقراءة مكررة للماضي وبالتالي لايجب أن يتحرك، لذلك وجه " الإصلاحيون" المعترضون على السكون والجمود جل نشاطهم وطاقاتهم وتعطشهم للتغيير، نحو الماضي كالوهابيين في القرن الثامن عشر الميلادي والأخوان المسلمين في الربع الأول من القرن العشرين . فالإصلاح الممكن والمرغوب والمطلوب ليس ذلك الذي يعجل ويسرع الزمن ، بل الذي يتسلق الزمن ويتقهقر نحو الماضي التليد . فالتقدم عند الإسلامويين يتمثل بالمضي على الأعقاب أي بخطوات إلى الوراء وليس إلى الأمام. ويتهمون أبناء السنة المعتدلين والتقليديين بأنهم تطورا كثيراً باتجاه شيطاني وتلوثوا بالبدع. فالعربية السعودية، التي جسدت السكون البدوي ـ الفاشي من خلال تبني المذهب الوهابي السلفي المتشدد والمتعصب، أفرزت معارضيها من داخلها وكانوا أكثر تشدداً وتعصباً وانحرافاً من مناصري وأتباع أسامة بن لادن والقاعدة والطالبان. وصاروا ينتقدوها ويلوموها على خنوعها وامتثالها للإملاءات والأوامر الأمريكية وحداثتها الشيطانية التي خانت الإسلام وشرائعه.
أما الجد الروحي للسلفيين المتعصبين والتكفيريين المنتشرين اليوم في كل مكان في العالم، فهو إبن تيمية، وهو واعظ متطرف ومتعصب سوري عاش في القرن الثالث عشر وجلب للمذهب السني بصمته السوداء . فتهجماته وتحريضاته ضد الشيعة متعددة وكثيرة لاتحصى . وهو يدين نزوعهم للباطنية ويعتبرهم من أتباع الباطن والنزعة الماورائية في الإسلام ويردد السلفيون اليوم في كل مكان أقواله وتراثه وكتاباته بتقديس فهي تدور وتنتشر عبر مواقع الانترنيت اليوم كما لوكانت قد كتبت في الوقت الحاضر وهذا مقطع من نص مقتبس من إبن تيمية ومنشور ومأخوذ من موقع إسلاموي فرنسي تحت عنوان " رسالة من مجاهد في العراق إلى الأمة الإسلامية" وهو نص يفيد في خدع النفوس الضعيفة بين الجهاديين السنة المغرر بهم ومليء بالحقد الطائفي الأعمى ، في معمعة الاقتتال الطائفي الدموي الذي نشب على ضفتي دجلة ، يقول النص المقتبس من إبن تيمية :" إن قلب الشيعة مليء بالحموضة والحرقة واللؤوم والمرارة والحقد والضغينة ضد المسلمين الصغار والكبار، الطيبين والسيئين، وإن قمة إيمانهم واعتقادهم هي لعن المسلمين ، من أولهم إلى آخرهم، وهم الأكثر اندفاعاً وضراوة في تمزيق وحدة الأمة الإسلامية، ويعتبرون أفضل القادة المسلمين كالخلفاء الراشدين ، أبو بكر وعمر وعثمان، وعلماء المسلمين ، مرتدين ويوجهون إليهم التهم الباطلة والسباب والإهانات".
كان إبن تيمية قد أصيب بالصدمة من سقوط بغداد إثر هجمات الغزاة المنغول سنة 1258 وكان قد عزا حدوث هذه الكارثة إلى تحالف الشيعة مع المنغول . وفي الواقع كان الشيعة مضطهدون ومطاردون من قبل السنة السلجوقيين الأتراك الذين تمركزوا في عاصمة العباسيين وحكموا في بغداد منذ منتصف القرن الحادي عشر الميلادي لذلك انحاز الشيعة للخلاص من ظلم السلجوقيين إلى زعيم المنغول هولاكو تنفيذا لفتوى أعلنها المرجع الديني للشيعة آنذاك إبن طاووس وتقول:" الحاكم الكافر والعادل أفضل من الحاكم المسلم الظالم" ويبدو أن سيناريو الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 قد أعاد لأذهان السنة ذلك التحالف البعيد . فشيعة العراق كانوا يأملون ويتمنون أن تخلصهم أمريكا من ظلم صدام حسين وقمعه وبطشه "أي الحاكم المسلم الظالم " المتمثل بصدام، الذي أبادهم وطاردهم حتى في أماكنهم المقدسة في النجف وكربلاء ولم يرعوي في قصف مراقد الأئمة الشيعة العظام في عام الانتفاضة 1991 و 1999 ، بيد أن أخطاء وتجاوزات واشنطن وعنجهيتها واحتقارها الاستعماري الجديد للشعب العراقي هو الذي ابعد عنها الجماهير الشيعية لأنها لم تمثل الحاكم الكافر والعادل بل كانت ظالمة ومتجبرة هي أيضاً إضافة إلى كفرها، لذلك التحق الكثيرون من أبناء الشيعة بميليشيات جيش المهدي التابعة لمقتدى الصدر تحت ذريعة محاربة قوات الاحتلال . إن هذه المواجهة الشيعية ـ السنية اليوم وعلى صفحات الويب وشبكة الانترنيت العنكبوتية قد عبأت الشباب السنة الفرنسيين ومن أصل عربي مسلم إلى حد التعصب بفعل الخطاب السني السلفي المثير للجدل والقادم من العصور الوسطى الذي أنتجه إبن تيمية، والذي اعتبر الشيعة أسوء من الضالين والمشركين وأحق بالقتل والإبادة من الخوارج والمرتدين وأعداء السنة . وكان إبن تيمية متخلفاً على كل الصعد فهو يكره ويحقد على المرأة ويعتبرها عورة وحرم على النساء لبس الحلي والمجوهرات والزينة واستخدام العطور على عكس ما كان يقول به الإمام علي صهر النبي وبطل الإسلام الذي كان مرهفاً ورحيماً بالأمة وبالنساء.
فهو فحل وله قدرة جنسية هائلة ويحب النساء كما تشير بعض المصادر الشيعية التي تبالغ في صفاته وتغالي في مقامه بينما يحتل عمر ابن الخطاب موضوع التقديس والإعجاب المفرط لدى إبن تيمية والذي لاتحبه النساء وكان يغار من جاذبية علي للنساء كما تقول مارتين غوزلان في كتابها عن الصراع بين السنة والشيعة. فالإمام علي البطل المقدام والشجاع والفحل والأسد أو حيدر الكرار كما يسميه الشيعة، الكريم والرؤوف والعالم الذي يخطب بالمسلمين بالقول الجريء " سلوني قبل أن تفقدوني" ، يكرهه صاحب المدونة الفرنسي السلفي الذي تمتليء مدونته بأقوال وكتابات إبن تيمية ويسمي نفسه أبو أيمن ويدعي أنه يرسل رسائله من العراق ويبث الكذب والافتراء مدعياً أن الشيعة تغلغلوا وتسللوا كالأفاعي للسيطرة على مناصب الجيش والشرطة والمخابرات، أي القوة العسكرية الضاربة وأداة السلطة الحقيقية،مع سيطرتهم على النشاط الاقتصادي على غرار سادتهم اليهود وينمون يوماً بعد يوم آمالهم بخلق دولة رافضية ـ يسمي أهل السنة الشيعة بالرافضة أي الذين يرفضون خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل بعد النبي أبو بكر وعمر وعثمان ـ التي تمتد من إيران مروراً بالعراق وسورية ولبنان وانتهاءاً بالإمارات الكارتونية في الخليج" ولنا في حادثة احتجاج النواب الكويتيين السلفيين على إقامة الواعظ الشيعي الإيراني في الكويت بتهمة سبه للصحابة والمطالبة بطرده أو محاسبة رئيس الحكومة داخل البرلمان، نموذج واضح اليوم لهذا التوتر القائم بين السنة والشيعة في كل مكان في العالم الإسلامي . هذه هي الخلفية التاريخية المريرة التي خلقت حالة التشكك والتوجس والحذر وانعدام الثقة بين الشيعة والسنة سيما في العراق والباكستان، وإلى حد ما في لبنان، التي تنتقل فيها المواجهة إلى صراعات مسلحة دامية في أغلب الأحيان بين الجانبين مما يعيق تحقيق الوحدة الإسلامية إلى أمد طويل بل ربما اصبح حلم الوحدة في خبر كان. .