أريك فروم

ذوقان قرقوط
2001 / 12 / 18 - 20:09     

أريك فروم (1900 - 1980)


ولد أريك فروم (Erich Fromm) لعائلة يهودية تقليدية (Orthodox) في مدينة فرانكفورت الألمانية في عام 1900. التحق بجامعة فرانكفورت وهايدلبيرغ حيث درس فيها العلوم الاجتماعية والنفسية والفلسفية. وحاز من الأخيرة على درجة الدكتوراه، وكان موضوع أطروحته: " Jewish Law: A contribution to the sociology of Jewish Diaspora " (القانون اليهودي: مساهمة في علم اجتماع الشتات اليهودي) كما تلقى تدريباً عملياً مكثفاً في مجال علم النفس التحليلي في ميونخ وبرلين والولايات المتحدة الأمريكية. وإضافة إلى ممارسته التطبيقية للتحليل النفسي، عمل فروم محاضراً في نخبة من الجامعات الأمريكية الشهيرة. توفي في سويسرا عام 1980.

تعتبر كتابات فروم محاولة جادة لدراسة السلوك الإنساني على ضوء التوفيق بين مقتضيات كل من المنهجين الفرويدي، والذي يرتكز أساساً على دراسة الفرد وبنائه النفسي، والماركسي والذي يرتكز بالدرجة الأولى على دراسة المعطيات الاقتصادية. ففي مقالة له حملت عنوان: " The application of Psychoanalysis to Sociology of Religious Studies " يرى فروم، على سبيل المثال، ان إسهام كل من المنهجين النفسي والاجتماعي-الاقتصادي مُجتَمِعَيْن يمكن من إدراك العلاقة بين المضامين المعنوية (النفسية) والمضامين المادية (الاقتصادية) للتطور الإنساني. وفي سعيه لإحكام صياغة منهجه الجديد، نرى فروم يأخذ على فرويد معالجته لمسألة التكوين الغريزي وعلاقة ذلك بالسلوك الإنساني. وبتأثر واضح بالمنهج الماركسي يعتقد فروم ان المحدد الأساسي للسلوك ليس التكوين الداخلي الغرائزي للفرد وإنما الظروف والمؤثرات المحيطة به.

من أهم كتابات فروم: الهروب من الحرية (Escape from Freedom) 1941، الإنسان لنفسه (Man for Himself) 1947، المجتمع السليم (The Sane Society) 1955، فن الحب (The Art of Loving) 1956، قلب الإنسان (The Heart of Man) 1964، وأخيرا ثورة الأمل (The Revolution of Hope) 1968.




فروم: مختارات من "ثورة الأمل - نحو أنسنة التقنية"


1: مفترق الطرق
ثمة شبح، لا يتبينه بوضوح إلا عدد قليل من بيننا، يتقدم بخطى سريعة. فهو ليس ذلك الوهم القديم من الشيوعية أو الفاشستية. إنه شبح جديد: مجتمع ممكن تمام الإمكانية، خاضع للإنتاج في أعلى درجاته وللاستهلاك وموجه بالنواظم الآلية. والإنسان في هذا السياق الاجتماعي آخذ في التحول الآن، إلى دولاب في الآلة الكبرى، يُغذى ويُسلى جيدا، لكنه مع ذلك، سلبي، ومن الناحية الانفعالية لا حياة فيه، وبانتصار هذا المجتمع الجديد سوف تختفي الفردانية والحياة الخاصة؛ وسوف تقولب المشاع إزاء الغير وفقاً للتكيف السيكولوجي ولوسائل أخرى، أو أيضا، بعقاقير تيسر كذلك نوعا جديدا من التجربة الاستبطانية. وكما يبين زبينيو برزيزنسكي: "في مجتمع التقالكتروني"(1) يميل المرء إلى التجانس مع ملايين المواطنين المتغايرين، بسهولة تحت تأثير سلطان شخصيات قوية وجذابة تستخدم بفعالية آخر ما وصلت إليه تقنية المواصلات لتحكم الانفعالات وتشرف على العقل"(2). وقد تنبأ جورج أورويل وألدوس هاكسلي في 1984 وفي أفضل العوالم بهذا الشكل الجديد للمجتمع.

لعل أشد ما يقلق اليوم في وجه هذا المجتمع هو فقدان المراقبة لنظامنا الخاص. فإننا لم نعد ننفذ إلا قرارات ناظماتنا الآلية؛ ولكن، بوصفنا كائنات بشرية، لا هدف لنا إلا الإنتاج والاستهلاك أكثر فأكثر. ولسنا بقادرين على أن نريد أمرا ما أكثر من أن لا نريد شيئا بالنظر إلى أننا مهددون من الأسلحة النووية وبالشلل من السلبية التي يولدها استبعادنا للقرارات المسؤولة.

كيف حدث ذلك؟ كيف غدا الإنسان وهو في الذروة نفسها من انتصاره على الطبيعة، السجين لابتكاره الخاص، وكيف تعرض لخطر تدمير نفسه بنفسه؟

إن الإنسان في بحثه عن الحقيقة العلمية، قد نظم من المعارف ما كان في وسعه استخدامه من أجل السيطرة على الطبيعة. إنه حصل على نجاحات هائلة. لكنه بإصراره على التقنية وعلى الاستهلاك المادي وحدهما فقد الاحتكاك بنفسه هو وبالحياة. ولما لم يعد حريصا إلا على التقنية وعلى القيم المادية، فَقَدَ، ليس فحسب الإيمان الديني والقيم الإنسانية، بل والقدرة كذلك على الإحساس بالانفعالات العميقة وبالفرح وبالحزن اللذين يرافقانها. وأصبحت الآلة التي بناها من القوة بحيث ولدت برنامجه الخاص وهي التي تحدد، الآن، فكر الإنسان نفسه.

إن أخطر أعراض نظامنا، حاليا، هو أن الاقتصاد يتعلق بإنتاج التسلح (دون النظر إلى المحافظة على العدد الإجمالي للدفاع) وبمبدأ الاستهلاك الأقصى. ويسير النظام الاقتصادي، فعلا، على شرط أن ينتج المواد التي تهددنا بالتدمير المادي وبتحويل الفرد إلى مستهلك سلبي وبخنقه إذن، وأخيرا، بخلق بيروقراطية نكون حيالها عاجزين.

فهل نواجه معضلة فاجعة ولا حل لها؟ أيجب علينا أن ننجب مرضى ليكون لنا اقتصاد سليم وهل اننا لا نستطيع استخدام مواردنا المادية ومخترعاتنا ونظماتنا الآلية، لغايات إنسانية؟ وهل يجب أن يكون الأفراد سلبيين وتابعين لكي يتاح السير الحسن للتنظيمات القوية؟

إن الأجوبة على هذه الأسئلة تتباين. فبين أولئك الذين يعترفون بالتبدلات الراديكالية والثورية التي يمكن أن يقود إليها "الـتعاظم المكني" في حياة الإنسان، يقف الكتاب الذين يدعمون الرأي القائل بأن المجتمع الجديد أمر محتوم وأنه إذن من العبث مناقشة مزاياه. وهم، في الوقت الذي يؤيدون فيه تماما المجتمع الجديد، يفحصون بعض الهواجس فيما يتعلق بنتائجه على الإنسان كما نعرفه. ويمثل هذا الاتجاه زبينيو برزيزنسكي وهـ. كاهن وبالمقابل يصف "جاك إيللول" بحمية، في التقنية أو مجازفة العصر، المجتمع الجديد الذي نقترب منه وتأثيره التدميري، انه سيتصدى للشبح ولنقصان إنسانيته الرهيب. ويخلص إلى القول بأن المجتمع الجديد ليس مؤهلا بالضرورة للانتصار، لكنه يظن، بعبارات الترجيح، أنه قد ينتهي إلى التغلب على مصاعبه. إلا أنه يتأمل في إمكانية للحيلولة دون انتصار المجتمع اللابشري: كان يجب أن "يزداد عدد الرجال الواعين للخطر على الحياة الشخصية والروحية الذي يمارسه مجتمع التكنولوجيا وأن يقروا تأكيد حريتهم بقلب مجرى هذا التطور"(م?ا?1) (3). ويكاد موقف لويس مومفورد أن يكون شبيها بموقف إيللول. ففي كتابه الرائع والعميق: "أسطورة الآلة"(4). يصف مومفورد "الـتعاظم المكّتبي" منذ ظاهرته الأولى في المجتمعات المصرية والبابلية. إن أكثرية الرجال، سواء أكانوا في قمة السلم أو كانوا مواطنين عاديين، لا يرون شبحا، قادما، وهو يتميز عن الكّتاب الذين أشرت إليهم من قبل حيث منهم من يتعاطف معه أو ينظر إليه بكره. فهم يخلدون اعتقاد القرن التاسع عشر الذي مضي أوانه، والقائل بأن الآلة سوف تساعد على تخفيف عبء الرجل وانها سوف تبقى وسيلة من أجل غاية؛ وأثناء هذا لا يرون الخطر: لو كان يؤذن للتكنولوجيا بمتابعة منطقها الخاص لنمت بما يشبه نمو السرطان، ولجازفت بتهديد النظام المركب للحياة الفردية والاجتماعية. والموقف المتخذ في هذا المؤلف(5) قريب من حيث المبدأ من موقف مومفورد وإيللول.

قد يختلف عنه في الحدود التي ألمح فيها مزيدا من الإمكانيات لإرجاع الإشراف على النظام الاجتماعي إلى الرجل. والآمال في هذا الصدد مبنية على العوامل التالية:

1. يمكن فهم النظام الاجتماعي الحالي فهما أفضل إذا نحن أعدنا ربط النظام الـ "إنسان" بجملة النظام الاجتماعي-الاقتصادي. فالطبيعة البشرية ليست تجريداً لا ولا نظاما طيعاً للغاية، وإذن يمكن إهماله، ديناميكياً. وإنما لها صفاتها النوعية وقوانينها وبدائلها. لذلك فإن دراسة نظام الـ "إنسان" تتيح لنا أن نرى، من جهة، أثر بعض عوامل النظام الاجتماعي-الاقتصادي على الإنسان، ومن جهة أخرى، إلى أي حد تكون اضطرابات نظام الـ "إنسان" مولدّة للاختلالات في جملة النظام الاجتماعي. وبإدخالنا العنصر الإنساني في تحليل النظام الإجمالي نصبح أفضل استعداداً لإدراك سيره السيء؛ وسوف نستطيع، على هذا النحو، تحديد الضوابط التي تحكم انتظام العمل الاقتصادي في النظام الاجتماعي، في سبيل رفاه أمثل للناس الذين يشاركون فيه. وكل هذا ليس مقبولاً، بالطبع، إلا إذ اتفقنا على التفكير بأن التطور العضوي للنظام البشري، هو وظيفة لبنيته الخاصة؛ أي أن الرفاه البشري هو الهدف الأساسي.

2. إن عدم الرضى المتزايد، الناتج عن طريقة الحياة الحالية وعن كل ما تولّده من: سلبية وسأم صامت وانعدام الحياة الخاصة، وضياع الشخصية من جهة، والتطلع، من جهة أخرى، إلى حياة سعيدة وزاخرة بالمعنى، تتجاوب مع الحاجات النوعية، التي نمّاها الإنسان على مدى آلاف السنين الأخيرة من تاريخه والتي تميزه، في آن واحد، عن الحيوان، وعن الناظم الآلي. هذا الاتجاه هو الأقوى، إذ أن القسم الذي يملك كل ما يحتاجه الأهالي، المنتفع باكتفاء مادي شامل، قد أكتشف، على هذا النحو، بأن فردوس المستهلك لا يوفر له الرضى الذي كان يعد به. (ومازال الذين لا يملكون ما يحتاجونه لم يحصلوا بعد، بالطبع، على الإمكانية لتحقيق ذلك، إلا أنه يلاحظ فقدان الفرح لدى أولئك "الذين يملكون كل ما يستطيع رجل أن يريده").

لقد فقدت الأيديولوجيات والمفاهيم كثيراً من جاذبيتها. والكليشيهات التقليدية كالـ "يسار" والـ "يمين"، أو "شيوعية" و "رأسمالية" لم يبق لها معنى. إن الناس يبحثون عن اتجاه جديد، عن فلسفة جديدة، ينصرف نحو أولوية الحاجة المادية والروحية لا نحو الموت. انه يحدث استقطاب متزايد سواء في الولايات المتحدة أو في مجمل العالم: هناك أولئك الذين تجتذبهم القوة، "القانون والنظام"، طرائق البيروقراطية. وحاصل القول اللا-حياة؛ وأولئك الذين يصبون بشوق إلى أن يعيشوا وإلى أن يكون لهم مواقف جديدة، يؤثرونها على المخططات الموضوعة في قوالب جاهزة. هؤلاء الرواد سيشكلون حركة تطمح في آن واحد إلى تغيرات عميقة في ممارستنا الاقتصادية والاجتماعية وإلى تغيرات في تهيجنا السيكولوجي والروحي للحياة. وهدفهم هو، على وجه العموم، تنشيط فعاليات الفرد وإعادة الإشراف على النظام الاجتماعي إلى الإنسان وتمدين التكنولوجيا. إنها حركة باسم الحياة، حوافزها شاملة إلى أبعد حد وبسيطة: إن الخطر على الحياة، اليوم، لا يستهدف طبقة أو أمة فحسب وإنما كل فرد. تحاول الفصول التالية معالجة عدد من المسائل المجملة فيما تقدم، بالتفصيل، وعلى الأخص تلك التي تتعلق بالصلات بين الطبيعة الإنسانية والنظام الاجتماعي الاقتصادي.

إلا أنه لا بد من توضيح نقطة لها أفضليتها. وذلك أنه يوجد اليوم يأس واسع الانتشار جداً فيما يتعلق بإمكانيات تغيير مجرى الأمور. هذا اليأس هو، في جزئه الكبير، لا شعوري، إذ أن الرجال في مستوى الشعور، هم "متفائلون" ويأملون في غد من "الـتقدم". فقبل التطرق للوضع الحالي وما يكمن فيه من أمل، يجب إذا أن نبحث ظاهرة الأمل.

2: الأمل
1- ما لا يكونه الأمل
الأمل هو عنصر حاسم في كل محاولة للتغيير الاجتماعي في الاتجاه إلى دينامية ووعي وفكر أكبر. إلا ان طبيعة الأمل كثيرا ما يساء فهمها؛ إذ تخلط مع حالات لا علاقة لها البتة بالأمل وتكون مناقضة لها تماما.

فما هو الأمل إذن؟

هل هو، على نحو ما يرى كثيرون، ما لدى المرء من رغبات وأمنيات؟ في هذه الحالة يمكن أن يكون أولئك الذين يرغبون في اقتناء السيارات والبيوت والمستطرفات (gadgets) بأعداد كبيرة وأفضل نوع، من ذوي الأمل.

وإذا لم يكن موضوع الأمل شيئا وإنما امتلاء، حالة من اليقظة أكبر، تحرر من السأم أو بعبارات أخرى، إذا كان موضوع الأمل هو الخلاص أو الثورة فهل يكون ذلك هو الأمل؟ هذا النوع من الانتظار يمكن أن يكون حقا من الأمل، ولكنه يكون من الأمل إذا لم يعكس سوى سلبية وتوقع؛ إذ أن الأمل يخفي، هكذا، الاستسلام والأيديولوجية المحضة.

لقد وصف كافكا هذا النوع من الأمل السلبي والمنقاد، وصفاً رائعاً في مقطع من كتابه القضية. حيث يصل رجل إلى الباب الذي يؤدي إلى السماء (الشريعة) ويتوسل إلى الحارس لكي يدعه يدخل. فيجيبه بأنه لا يستطيع الآن السماح له بذلك. وعلى الرغم من أن الباب الذي يقود إلى الشريعة يظل مفتوحاً فإن الرجل يقرر أنه يحسن صنعاً لو انتظر حتى يحصل على الإذن بالدخول. عندئذ يستقر وينتظر طيلة أيام، وحتى سنوات. ويظل يطلب بانتظام الإذن بالدخول ولكنه يتلقى دائماً نفس الجواب أنه ما زال لا يستطيع بعد الحصول على الإذن بالدخول. وكان الرجل طيلة هذه السنوات الطويلة يلاحظ الحارس باستمرار تقريباً ويتعلم أن يتحقق حتى من براغيث ياقته الفرو. وفي النهاية يصبح طاعناً في السن، وإذ يحس أنه على شفا الموت، يسأل لأول مرة: "كيف جرى أنه لم يسع أي شخص غيري، طيلة هذه السنوات كلها، إلى الدخول؟" فيجيب الحارس: "لم يكن في وسع أحد غيرك أن يحصل على الوصول إلى هذا الباب، بما أن هذا الباب كان مخصصاً لك. والآن فإنني أغلقه".

كان الرجل الشيخ طاعناً في السن أكثر مما يجب لكي يفهم ولكنه لم يكن في وسعه أن يفهم أكثر لو أنه كان اصغر سناً. فالبيروقراطيون يملكون الكلمة الأخيرة: إن قالوا لا فإنه لا يستطيع الدخول. فلو كان للرجل أكثر من هذا الأمل السلبي والكامن لأمكنه الدخول ولأمكن لشجاعته في مخالفة إرادة البيروقراطية أن تكون الفعل المحرر الذي يمكن أن يقوده إلى القصر المشعّ. فكثير من الناس يشبهون رجل كافكا العجوز. يأملون، لكنهم لم ينتجوا ما يدفعهم للتصرف وفقاً لحكمة قلبهم، وما لم يعط البيروقراطيون الضوء الأخضر فإنهم لا يكفون عن الانتظار(6).

هذا النوع من الأمل السلبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشكل مطلق من الأمل يمكن أن يوصف كأنه رجاء في الزمن. والزمن والمستقبل يصبحان المقولة الرئيسية لهذا النوع من الأمل. فما من شيء يُفترض حدوثه في الآن وإنما بعد ذلك فحسب، في اليوم التالي أو في العام القادم، وفي عالم آخر، إذا كان من المحال الاعتقاد بأن الأمل يمكن أن يتحقق في هذا العالم. فوراء هذا الاعتقاد تجد نفسها وثنية الـ "مستقبل" و"التاريخ" و "الأجيال القادمة"، التي بدأت مع الثورة الفرنسية وبرجال مثل روبسبير، الذي كان يعبد المستقبل كأنه إلهة: إنني لا أفعل شيئاً؛ إنني أبقى سلبياً لأنني لست شيئاً ولأنني عاجز؛ ولكن المستقبل، إسقاط الزمن، سوف يكملان ما لم أستطع تحقيقه. هذه العبادة للمستقبل، التي هي وجه آخر لعبادة "التقدم" في الفكر البرجوازي الحديث، هي استلاب الأمل بالضبط. فبدلاً من أن أكون أنا من يعمل أو يصبح شيئاً ما فإن الأوثان، المستقبل والأجيال القادمة ستتحقق لي مشاريعي دون أن يكون عليّ ما أفعله(7).

إذا كان الانتظار السلبي هو شكل مموه لليأس والعجز فثمة شكل آخر من القنوط والإرهاق، يتخذ تماماً القناع المقابل: قناع اللفظية والمغامرية، قناع اللامبالاة تجاه الواقع، والدونكيشوتية. ذلك كان موقف المخلِّصين الكاذبين و"الانقلابيين" (putchistes) الذين كانوا يزدرون على كل حال أولئك الذين لا يفضلون الموت على الهزيمة. هذا الستار الراديكالي المستعار من اليأس والعدمية هو متواتر في أيامنا هذه لدى العناصر الأكثر التزاماً من الجيل الشاب. فهم بليغو الأثر بجسارتهم وحزمهم، لكنهم يفقدون كل مواجهة بانعدام الواقعية والحس الاستراتيجي وأحياناً بانعدام حب الحياة(8).

2- المفارقة وطبيعة الأمل
إن فعل أمَّل يمكن أن يشبه عندئذ مفارقة ما: إنه لا يكون لا أنتظر في حالة سلبية ولا أرغم حادثاً يتعذر تحقيقه. فالأمل هو نمر جاثم لا ينقضّ إلا عندما تجيء اللحظة. ولا تكون تعبيراً عن الأمل لا الإصلاحية المتعبة ولا المغامرية المقنعة بالراديكالية. فأن يؤمل المرء يعني أن يكون مستعداً في كل لحظة لاستقبال ما لم يكن قد نشأ بعد، دون أن ييأس، مع ذلك، إذا لم يتدخل الحدث في مجرى حياتنا. يؤمل فيما هو موجود أو فيما لا يكون موجوداً لا يعني شيئاً. إن ضعاف الأمل يستقرون في الراحة أو العنف. والذين يكون أملهم قوياً يميزون كل إشارة حياة جديدة ويتشبثون بها؛ فهم في كل لحظة مستعدون للمشاركة في انبثاق ما يجب أن يولد.

إن فقدان التمييز بين أمل واع وأمل لا شعوري هو واحد من أكثر الالتباسات الدارجة. ويُرتكب الخطأ نفسه، بالطبع، بالنسبة لكثير من التجارب الانفعالية الأخرى كالسعادة والتلهف والضجر والاكتئاب أو الحقد. وممَّا يدعو إلى الدهشة أن يكون مفهوم اللاشعور، على الرغم من شهرة نظريات فرويد، قليل التطبيق إلى هذا الحد على مثل هذه الظواهر الانفعالية. قد يكون هناك سببان رئيسيان لذلك. الأول هو أن ظاهرة اللاشعور كلها (إذن الكبت) ذات صلة، في كتابات بعض المحللين النفسانيين وبعض "فلاسفة التحليل النفسي" بالرغبات الجنسية، فهم يستعملون الكبت بصورة خاطئة: كأنه مرادف لقمع التمنيات والنشاطات الجنسية. فينزعون عندئذ من مكتشفات فرويد عدداً من أهم نتائجها. أما السبب الثاني فيكمن على الأرجح في أن الوعي بالرغبات الجنسية المكبوتة أقل إثارة بالنسبة لأجيال ما بعد العصر الفكتوري من تجارب مثل الاستلاب واليأس والجشع. هكذا فإن أغلب الناس لا يعترفون بمشاعرهم في الخوف والضجر والوحدة واليأس، أي أنهم لا يعونها(9). وهذا لسبب بسيط، وهو: ان مخططنا الاجتماعي يفترض بالرجل الذي يصل إلى مبتغاه أن لا يخشى من السأم ولا من أن يكون وحده. فعليه أن ينظر إلى هذا العالم كأنه الأفضل؛ ولتكون لديه فرص أكثر للارتقاء الاجتماعي، يحب أن يكبت الخوف بقدر ما يكبت الشك ويكبت السأم بقدر ما يكبت اليأس، في حين أنها، لا شعورياً، تكون يائسة؛ والعكس يمثل الاستثناء. فالمهم في بحث الأمل واليأس، ليس ما يفكره الناس، بصورة أساسية، في عواطفهم ولكنه ما يحسّون به حقيقة. إذ يمكن من خلف الكلمات والجمل التي يتلفظون بها، كشف شعورهم الحقيقي، من تعبير الوجه، ومن طريقة المشي ومن القدرة على رد الفعل، باهتمام، تجاه ما يكون أمام أعينهم ومن غياب التعصب الذي يدللون عليه عندما تقدم لهم برهنة معقولة.

إن وجهة النظر الديناميكية المطبقة، في هذا الكتاب، على الظواهر النفسية - الاجتماعية تختلف اختلافاً أساسياً عن التناول الوصفي السلوكي لأكثر أبحاث العلوم الإنسانية. فبوجهة نظر ديناميكية لا نسعى بصورة أساسية إلى معرفة ما يفكر فيه شخص ما أو يقوله أو كذلك كيف يسلك الآن. إنما نحن معنيون ببنيته الطبيعية، أي بالبنية نصف الدائمة لطاقاته، وبالاتجاهات التي تُغنى فيها هذه الطاقات وبالشدة التي تظهر فيها. ولو كنا نعرف القوى المحركة التي تعلّل السلوك لأدركنا، ليس التصرف الحاضر فحسب وإنما لأمكننا كذلك عمل فرضيات معقولة حول الطريقة التي قد يتصرف بها شخص ما في ظروف جديدة. ففي احتمال ديناميكي يمكن للـ "تغيرات" المفاجئة في تفكير أو تصرف شخص ما، أن تكون متوقعة، على الجملة، على شرط معرفة بنيته الطبيعية.

يمكننا أن نتكلم طويلاً عما لا يكونه الأمل، ولكن الأجدر بنا أن نعزم فنتساءل عما يكون. فهل تستطيع الكلمات حقاً وصف الأمل أو أنه لا يمكن الإطلاع عليه إلا بقصيدة، بأغنية، بإشارة، بتعبير من الوجه أو بفعل؟

إن الكلمات أقل من أن تكفي لوصف تجربة إنسانية بل غالباً ما تزيدها غموضاً، تشرَّحها وتقتلها. وهكذا عندما يدور الكلام عن الحب، أو الحقد أو الأمل ينتهي بأن يفقد التماس مع ما افترض انه موضوع الكلام. إن الشعر والموسيقى وأشكال الفن الأخرى هي، من بعد، أفضل الوسائل الملائمة لتصوير تجربة إنسانية لأنها دقيقة وتتجنب التجريد وضبابية الكليشيهات التي تكون التصورات المشتركة للتجربة الإنسانية.

قد لا يكون من المستحيل، مع كافة هذه التحفظات، أن نرسم خطوطاً أولى للتجربة المحسوسة بكلمات ليست تلك التي يستخدمها الشعر. إن وصف التجربة يعني تبيان مختلف وجوهها، وعليه إقامة حوار يعرف فيه الكاتب والقارئ أنهما يرجعان إلى الشيء نفسه. وإنني لأطلب من القارئ، وأنا أقوم بهذه المحاولة، أن يشارك في جهدي وأن لا ينتظر مني أن أجيب على سؤال: ما هو الأمل؟ فلا بد لي من أن أطلب إليه تعبئة تجاربه الخاصة لجعل حوارنا ممكناً.

إن فعل أمَّل هو حالة من الوجود. إنها حيوية داخلية، حيوية الفعالية(10)الشديدة الموجودة بالقوة(11). ويرتكز مفهوم "الفعالية" على واحد من أكثر الأوهام الإنسانية انتشارا في المجتمع الصناعي الحديث. فحضارتنا كلها متمحورة على الفعالية، فعالية بمعنى أن يكون مشغولاً وأن يكون مشغولاً بمعنى الانهماك (الانهماك الضروري في سبيل الآمال). والواقع أن أكثرية الناس هم "نشيطون" إلى حد أنهم لا يستطيعون تحمل عدم القيام بأي شيء. فهم يحولون حتى ما يُزعم انه أوقات فراغهم إلى شكل آخر من الفعالية. فإذا لم تكن منهمكاً في كسب المال فإنك منشغل في الارتحال أو في لعب الجولف أو بكل بساطة في الثرثرة حول كل شيء ولا شيء. وأكثر ما يخشاه المرء هو اللحظة التي لا يكون له فيها حقيقة ما يفعله. وتسمية هذا التصرف بالــــ "فعالية" هي مسألة مصطلح، وأكثر الناس الذين يظنون أنفسهم نشيطين جداً، ليسوا، للأسف، واعين بسبب من أنهم شديدو السلبية على الرغم من انهماكهم. فهم بحاجة على الدوام لحافز خارجي، سواء أكان ذلك يعني ثرثرة الآخرين أو السينما أو السفر أو أشكالاً أخرى من الإثارات الأبعث على الخفقان. إنهم بحاجة للتحريض، "لدفعهم إلى المباشرة"، بحاجة إلى أن ُيوسوَس لهم وان ُيغوَوا. يركضون دائماً ولا يتوقفون أبداً. ويحسبون أنفسهم في غاية النشاط على حين يحركهم وسواس القيام بعمل أي شيء لكي يفروا من الغمّ الذي ينبعث عندما يكونون في مواجهة أنفسهم.

إن الأمل هو مقوّ نفسي للحياة وللتطور. إذا كانت الشجرة التي لا تحصل على الشمس تتوجه شطر الجهة التي يأتي منها النور، فلا يمكننا القول بأن الشجرة "تأمل بالطريقة التي يأمل بها الإنسان إذ أن الأمل لا يمكن أن يكون مرتبطاً بما لا تملكه الشجرة: بالعواطف والوعي. ومع ذلك لا يمكن أن يكون خطأ إذا قلنا ان الشجرة تأمل في الشمس وأنها تفصح عن هذا الأمل بتوجيه جذعها نحو النور. فهل هذا يختلف عن الطفل مع ذلك على حاجته للتنفس بنفسه وعن أمله في أن يعيش. أليست الرضاعة اندفاعاً نحو ثدي الأم؟ ألا يأمل الوليد الوقوف والمشي؟ والمريض، ألا يأمل أن يكون في صحة جيدة، والسجين بأن يكون طليقاً، والجائع بأن يشبع؟ ألا يكون لدينا الأمل في الغد عندما ننام؟ وفعل أحب ألا ينطوي على أمل الرجل في قوته وقي قدرته على إيقاظ شريكته وأمل المرأة في مبادلته ذلك وفي إيقاظه بدورها؟



3- الإيمان
عندما يكون الأمل قد اختفى، لا يبقى للحياة من معنى، حالياً، وتقديراً. فالأمل هو عنصر باطني في الحياة وفي ديناميكية الفكر. وثمة عنصر آخر في البنية الحيوية، ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً: هو الأيمان. وهو ليس شكلاً داخلياً للاعتقاد وللمعرفة؛ إذ أن الإيمان في هذا أو في ذاك ليس موجوداً. فإيمان المرء هو أن يكون مقتنعاً بما لم يبرهن عليه بعد، هو أن تكون له معرفة بالواقع الممكن والوعي بما هو مثمر. إن الإيمان يكون عقلياً عندما يرتبط بمعرفة الواقع المحقق؛ فهو يستند على إمكانية إدراك ومعرفة الأساس فيما وراء المظاهر. والإيمان كالأمل ليس رؤية المستقبل، بل رؤية "الـحاضر" الذي سيولد.

إن القول بأن الإيمان هو يقين يستتبع بعض التحفظات يعني اليقين بحقيقة الشيء الممكنة وليس اليقين بمعنى تنبؤ أكيد. فالطفل يمكن أن يكون مولوداً ميتاً، وأن يموت وهو يولد، ويمكن أن يموت في الأسبوعين الأولين من وجوده. وها هنا هي مفارقة الإيمان: اليقين بغير المؤكد(12). والمقصود هو اليقين في حدود الإدراك والرؤية الإنسانيين لا اليقين في حدود نهاية حقيقية الواقع. فلسنا بحاجة إلى الإيمان من أجل ما يكون متوقعاً علمياً، ولا يمكن أن يكون ثمة إيمان من أجل ما يكون مستحيلاً. إن الإيمان مبنيّ على استعدادنا لأن نعيش ولأن نتحول. فإيماني بتغير الآخرين يكون نتيجة ما لدي من تجربة في قدرتي على أن أتغير(13).

يجب أن نفرق تفريقاً هاماً بين الأيمان العقلي والأيمان اللامعقول(14). فعلى حين أن الأيمان العقلي هو نتيجة فعالية داخلية لفكرنا وعاطفتنا فإن الأيمان اللامعقول هو خضوع لشيء ما محدد يُقبل كأنه حقيقي، دون الاهتمام بمعرفة ما إذا كان ذلك كذلك أم لا. إن العنصر الأساسي لكل إيمان لا عقلي هو خاصيته السلبية، سواء أكان موضوعه صنماً أو زعيماً أو أيديولوجية. فحتى رجل العلم بحاجة لأن يكون متحرراً من الإيمان اللاعقلي في الأفكار التقليدية لكي يملك إيمان العقلي في قدرة فكره المبدع. وعندما يكون اكتشافه "محققاً" لا يبقى بحاجة إلى الإيمان، إذا لم يكن ذلك من أجل الخطوة القادمة التي يفكر بإجرائها. ففي دائرة العلاقات البشرية يعني "إيمان المرء" بشخص آخر أن يكون على يقين من "عواطفه العميقة"، أي من ثبات واستقرار مواقفه الأساسية. ونستطيع بنفس الرجع أن نؤمن بأنفسنا، ليس في دوام آرائنا وإنما في موقفنا الأساسي تجاه الحياة، أصل البنية الطبيعية. ومثل هذا الأيمان يكون خاضعاً لتجربة الأنا، لقدراتنا على القول، شرعاً "أنا" وبمعنى تماثلنا.

إن الأمل يتكافأ مع الإيمان. فلا يمكن للإيمان أن يدوم دون نزوع طبعي إلى الأمل. ولا يمكن أن يكون للأمل من أساس آخر إلا في الأيمان.



4- قوة الروح
ما يزال هناك عنصر آخر متعلقاً بالأمل وبالإيمان في البنية الحيوية: هو الشجاعة أو كما يسميه سبينوزا قوة الروح (15). ولعل عبارة قوة الروح تكون أقل غموضاً لأن كلمة "شجاعة" كثيراً ما تستعمل في وصف الشجاعة في الموت أكثر من وصف الشجاعة في الحياة. فقوة الروح هي القدرة على مقاومة إغراء المخاطرة بالأمل والأيمان اللذين إذا ما تحولا إلى تفاؤل فارغ أو إلى إيمان لا عقلي يمكن أن يتحطما. وقوة الروح هي القدرة على القول "لا" عندما يرغب جميع الناس في سماعك تقول "نعم".

لكن مفهوم قوة الروح ليس واضحا تمام الوضوح إذا لم ننوه بوجه آخر له، هو: البسالة. والبسالة لا تهاب لا من التهديدات ولا من الموت. إلا أن كلمة "باسل" تنطبق، كما يحدث كثيراً، على عدة مواقف مختلفة. سأذكر أهم ثلاثة فحسب: أولا قد يكون شخص ما باسلاً لأنه لا يكترث بالحياة، ونتيجة لذلك يكون باسلاً في وجه الخطر؛ ولكن، في حين أنه لا يخشى الموت من الممكن جداً أن يخاف الحياة. وهذا الشخص لا يبقى باسلاً عندما لا يجد نفسه في وضع يجازف فيه بحياته. إذ أنه، عمليا، يبحث عن المواقف الخطرة للهرب من خوفه من الحياة ومن نفسه ومن الآخرين.

والشكل الثاني للبسالة هو بسالة الشخص الذي يعيش في حالة خضوع تكافلي (symbiotic) لمعبود سواء أكان شخصا أو مؤسسة أو فكرة؛ إن وصايا المعبود تكون مقدسة؛ فهي مجبرة أكثر كثيراً حتى من ضرورات المحافظة على الجسد. ولو كان في وسعه مخالفة وصايا المعبود أو الشك فيها لأمكنه مجابهة خطر فقدان مطابقته للمعبود. وهذا يعني أنه يتعرض لخطر إيجاد نفسه من جديد منفرداً غاية الانفراد، وإذن، على شفا الجنون. وحينئذ قد يصبح الموت، مما يتمناه، أكثر من هذا الخطر.

أما الشكل الثالث للبسالة فهو بسالة الشخص المتطور، كلية، المطمئن والذي يحب الحياة، فالشخص الذي تغلب على الجشع ولم يعد يتشبث بأي معبود ولا بأي موضوع وبالتالي لا يملك شيئا يجب أن يفقده: إنه غني لأنه مجرد وهو قوي لأنه لم يعد عبداً لرغباته. يستطيع أن يطرح الأصنام والرغبات اللامعقولة والهلوسات لأنه على تلاؤم تام مع الواقع، في داخل نفسه وخارجها. فلو أن شخصاً كهذا الشخص قد بلغ "صحواً" كاملا فلن يعرف بعدها الخوف. ولن تكون بسالته تامة إذا هو اتجه نحو هذا الهدف دون بلوغه. وكل شخص، مع ذلك، يميل نحو هذه الحالة التي يكون فيها هو ذاته على وجه تام، يعلم أن شعوراً من القوة والفرح، في كل خطوة جديدة تُسلك إليها، يستيقظ ولا يدع مجالا لأي شك. ويحسّ بأن مرحلة جديدة من حياته قد بدأت. ويستطيع الشعور بحقيقة أقوال غوته: "لقد بنيت بيتي على لا شيء لذلك فإن العالم بأكمله هو ملكي".

إن الأمل والإيمان، بوصفهما صفتين جوهريتين للحياة، يوجهان، بطبيعتهما نفسها، نحو سمو مفارق للحالة الراهنة سواء أكانت فردية أم اجتماعية. ذلك أن التغيير وعدم البقاء أبداً على نفس المنوال في أية لحظة (16) هما صفة من الصفات الخاصة بكل حياة. إذ أن الحياة التي تركد، تميل نحو الموت، وإذا كان الركود تاماً فإنه يكون الموت. وينتج عن ذلك أن الحياة، بخاصيتها الحركية، تنزع إلى التخلُّص من الحالة الراهنة والتغلب عليها. فإننا نصبح أقوى أو أضعف، أعقل أو أكثر جنوناً، أشجع أو أكثر جبناً. كل ثانية هي ثانية في فرار، من أجل الأفضل أو الأسوأ. فإما أننا نغذي كسلنا، جشعنا وحقدنا أو أننا نجوِّعها. وكلما غذيناها كلما غدت قوية؛ وإذا نحن جوَّعناها أصبحت ضعيفة.

وما يكون صحيحاً عن الفرد هو صحيح عن المجتمع. فهو ليس سكونياً أبداً، وإذا لم يتطور، فإنه يؤول إلى الزوال؛ وإذا لم يتجاوز الحالة الراهنة من أجل الأفضل فإنه يتغير من اجل الأسوأ. وغالباً ما يتوهم الفرد أو الناس الذين يشكلون مجتمعاً، بأنهم يستطيعون البقاء ثابتين، ولا يعدلون وضعاً ما إلى هذا الاتجاه أو إلى غيره. وعلى هذا فإننا إذا تسمرنا حيث نحن فإنه يعني أننا نبدأ في الانحطاط.



5- البعث
يسمح لنا مفهوم التحوّل الشخصي أو الاجتماعي بإعادة تعريف كلمة "بعث"، بل هو يجبرنا على ذلك، دون أي رجوع إلى مضامينها اللاهوتية المسيحية. فكلمة بعث في معناها الجديد، الذي قد يكون المدلول المسيحي أحد تعابيره الرمزية الممكنة، ليست خلقا لواقع آخر، مفارق لواقع هذه الحياة: ولكنها تحويل لهذه الحقيقة الواقعة في اتجاه ديناميكية أعظم. إن الإنسان والمجتمع يبعثان في كل لحظة في فعل الأمل والإيمان، هنا والآن؛ فكل فعل حب وتيقظ وحنو هو بعث؛ وكل فعل كسل وجشع وأنانية هو موت. إن الوجود يواجهنا في كل لحظة بالتخيير بين البعث والموت؛ ونحن نستجيب لذلك في كل لحظة. وهذه الاستجابة لا تكمن فيما نقوله أو نفكره؛ وإنما تتعلق بما نكون وبالطريقة التي نتصرف بها وبالهدف الذي يواصل السير إليه.



6- الأمل المخلِّص
لقد وجد كل من الإيمان والأمل وهذا البعث الدنيوي تعبيره الكلاسيكي في رؤيا الأنبياء المخلِّصة. وهؤلاء لا يتصدرون المستقبل كأنهم كسَّاندر(17) أو كأنهم جوقة في المأساة اليونانية؛ إنهم يمعنون النظر في الواقع الحاضر الذي يستخلص من عينيات من الرأي العام ومن السلطة. وهم لا يشاءون لأنفسهم أن يكونوا أنبياء ولكنهم يشعرون انهم مضطرون للإفصاح عن صوت ضميرهم، وعن "معرفتهم معه"، وإلى القول عن الإمكانيات التي يستشفونها وإلى أن يبينوا للناس مختلف الاختيارات وأن يحذروهم أخيراً. فها هنا كل مبتغاهم. وللناس الأمر في الاهتمام بإنذاراتهم وتغيير طريقهم أو البقاء صماً وعمياً، وأن يتألموا. ذلك أن اللغة النبوية تكون دائماً لغة الخيار والانتخاب والحرية؛ فهي ليست أبداً لغة الحتمية من أجل الأفضل ومن أجل الأسوأ. وأقصر صياغة للخيارية النبوية هي هذه الآية لدوتيرونوم: "إنني أقدم لكم اليوم الحياة والموت، وإنكم لتختارون الحياة!" (18).

كانت الرؤيا المخلِّصة، في الآداب النبوية، ترتكز على التوتر بين "ما كان يوجد أو يكن وبين ما كان في صيرورة ولكنه يبقى للتحقيق" (19). إن فكرة الخلاص، في الحقبة اللاحقة لعصر النبوة، تغير معناها في كتاب دانيال حوالي عام 164 ق. م. وفيما خلفه مجهولون من الأدب المنقوش الذي لم يدرج في العهد القديم. هنا الأدب يحتوي على فكرة "عمودية" من الخلاص في مقابل فكرة الأنبياء الـ "أفقية"(20) تاريخيا. فقد أكّد على تحويل الفرد، وفي نطاق واسع على النهاية الفاجعة للتاريخ التي تقع بكارثة نهائية. وهذه الرواية القيامية ليست رواية التخييرات وإنما رواية التنبؤ، وهي ليست رواية الحرية بل رواية الحتمية.

إن الرؤيا النبوية الخيارية الأولية تنتصر في التقاليد التلمودية والربانية اللاحقة. وفكرة المسيحيين الأوائل متأثرة تأثراً أقوى برواية الفكرة المسانية القيامية، على الرغم من أن الكنيسة بصورة مناقضة، تعسكر بوصفها مؤسسة، في انتظار سلبي.

بيد أن الفكرة النبوية في مفهوم الـ "مجيء الثاني" قد ظلت حيَّة؛ وقد وجد التفسير النبوي للإيمان المسيحي، في مرات عديدة تعبيره في طوائف ثورية و"هرطوقية"؛ ويُبدي جناح الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الراديكالي كما تبدي عقائد مسيحية مختلفة غير كاثوليكية، عودة صريحة إلى المبدأ النبوي، سواء إلى خياريته أم إلى المفهوم الذي يجب، وفقاً له، أن تطبق الأغراض الروحية على السياق السياسي والاجتماعي.

خارج الكنيسة، كانت الاشتراكية الماركسية الأولية، التعبير الأكثر دلالة عن الرؤيا المسيانية(21)، موضحة بلغة علمانية؛ ثم أفسدها وهدمها الانحراف الشيوعي في رسالة ماركس. وقد عثر العنصر المسياني في الماركسية على صوت يتحدث باسمه لدى اشتراكيين إنسانيين عديدين، وعلى الأخص في يوغوسلافيا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا. فالماركسيون والمسيحيون قد ابتدأوا حوارا على المستوى العالمي، مستنداً إلى تراث مسّياني مشترك(22).



7- انهيار الأمل
إذا كان الأمل والإيمان وقوة الروح ضرورية للحياة فكيف جرى أن يكون أولئك الذين فقدوا الأمل والإيمان وقوة الروح والذين يحبون عبوديتهم وتبعيتهم، عديدين إلى هذا الحد؟ إن هذه الإمكانية من الضياع هي بالذات التي تكون مميزة للوجود البشري. فنحن نُحبى، في المنطلق، بالأمل والإيمان وقوة الروح، وهي صفات لا شعورية "دون فكرة" من المنَيّ ومن البيضة، من اتحادهما، من نمو الجنين ومن إتمامه. ولكن التقلُّبات المترتبة على البيئة وعلى المصادفة تأخذ منذ بداية الحياة، في تيسير أو إعاقة الأمل الكامن.

لقد أمَّل أكثرنا في أن يكونوا محبوبين ليس فحسب من أجل تغنيجهم وتغذيتهم وإنما لكي يُفْهَمُوا ويُهتَم بهم ويُحتَرموا. وأملَّ أكثرنا في القدرة على كسب الثقة. وعندما نكون أطفالاً، لا نكون قد عرفنا بعد الابتكار البشري للكذب، ليس فحسب الكذب في الكلام وإنما كذلك الكذب في الأداء والحركات والعيون وتعبير الوجه. فكيف يمكن أن يكون الطفل مُعّداً لهذا الابتكار البشري بنوع خاص الذي هو الكذب؟ إننا، جميعنا، وعينا بعضنا بصورة أعنف من بعض، بأن الناس لا يعتقدون بما يقولون أو أنهم يقولون عكس ما يعتقدون. وليس فحسب "الناس"، وإنما بالذات أولئك الذين نثق بهم أنفسهم: أقاربنا، أساتذتنا، قادتنا.

قليلون جداً، هم الذين ينجون، في لحظة من لحظات تطورهم، من حتمية رؤيتهم لخيبة فكرهم، أو أحياناً لانهياره تماماً. فهل يمكن أن يكون ذلك حسناً؟ فإذا كان الرجل لم يجرب خيبة الأمل هذه، فكيف لأمله أن يصبح أقوى وأكثر لا محدودية، كيف يمكنه تجنب الخطر في أن يصبح حالماً متفائلاً. ولكن الأمل، غالباً ما يكون فضلا عن ذلك، قد زعزع إلى حد عميق بحيث يخشى من عدم العثور عليه أبداً.

الواقع أن الأجوبة وردود الفعل على انهيار الأمل تتنوع كثيراً وتتعلق بالظروف المختلفة: تاريخية وشخصية وبسيكولوجية وبنيوية. فجميع الناس تقريباً يستجيبون لخيبة آمالهم بالتكيّف مع تفاؤلية معتدلة؛ ومن لهم أمل جيد هم الذين يعلنون هذه التفاؤلية دون أن يتكلفوا عناء التحقق من أن ما سيقع ليس حتى الأفضل بل قد يكون الأسوأ. فالناس يصفرون ما إن يصفر أحدهم، وبدلاً من أن يعوا يأسهم، يبدون وكأنهم يساهمون في مهرجان شعبي.

فهم يلائمون مقتضياتهم مع ما يستطيعون الحصول عليه ولا يحلمون حتى بما يبدو خارج متناولهم. وكعناصر متآلفة تمام التآلف في القطيع، لا يشعرون أبداً أنهم يائسون لأن ما من أحد آخر يبدو أنه يحس باليأس. إنهم صورة لنمط من التفاؤلية الانقيادية يمكننا التحقق منها في المجتمع الغربي المعاصر، باعتبار أن التفاؤلية تكون واعية في المعتاد والانقياد اللاشعوري.

وثمة نتيجة أخرى لانهيار الأمل هي: "تقسية القلب". فكثير من الناس، شباب جانحون أو بالغون ساخطون، لم يعودوا يتحملون، في لحظة من لحظات حياتهم، أن ُيهانوا. بعضهم قرروا، في حالة فجائية أو تحت تأثير نوبة ما، بأنهم ملًوا من ذلك وأنهم لن يحسوا شيئاً بعد في المستقبل. وما من شخص قد يكون قادراً أبداً على إهانتهم على حين يكونون قادرين على الإساءة إلى الآخرين. هؤلاء الناس في وسعهم أن يشتكوا سوء حظهم لعدم عثورهم على صداقة أو على حب ولكن ذلك ليس نقصاناً في الحظ بل هذا هو في الواقع قدرهم. إنهم لا يؤثرون في مشاعر أحد إذ فقدوا الشفقة ومعرفة الغير، وليس في وسعهم مزيد من الانفعال. ونجاحهم الباهر في الحياة هو في عدم حاجتهم لأحد. وهم فخورون بأن جانبهم لا يُمَسّ، وراضون عن اقتدارهم على الإساءة بصورة شرعية أو إجرامياً، بدلالة عوامل اجتماعية أكثر منها بسيكولوجية. ويظل أكثرهم، إذا صح القول، مجمدين، وبالتالي تعساء حتى آخر حياتهم، وكثيراً ما يبدأ، وبمعجزة، ذوبان الجليد. فقد يعني ذلك، ببساطة، الالتقاء بشخص يهتم بهم، يشعر انهم متعلقون به وأنهم يثقون فيه: عندئذ ينفتحون على أبعاد من المشاعر جديدة. وإذا واتاهم الحظ تذوب ثلوجهم تماماً ثم إذا ببذور الرجاء التي كانت تبدو قد أتلفت، تورق فجأة.

كذلك هناك نتيجة أخرى أشد خطراً لانهيار الأمل، هي النزعة إلى الهدم وإلى العنف. تماماً لأن البشر لا يستطيعون العيش بلا أمل، إذ أن من انهار أمله يكره الحياة. وبما أنه لم يعد يستطيع توليد الحياة فيجب عليه أن يهدمها وهو أمر يكون إنجازه أسهل، حقيقة، من معجزة. إذ يريد أن يثأر لنفسه عن حياة لم يعشها ولن يبالي بعدئذ بهدم الحيوات الأخرى أو بتحطيم نفسه(23).

نجد رد الفعل الهدمي الناجم عن انهيار الأمل، عادة، لدى أولئك الذين يُحرمون، لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، من امتيازات الأغلبية ولا يعرفون كيف يتوجهون اجتماعياً أو اقتصادياً. إن ما يقود إلى الحقد وإلى العنف ليس، بصفة رئيسية، هو الحرمان من حق اقتصادي؛ فالذي يقود إلى العنف وإلى نزعة الهدم هو الوعود التي تحطم على الدوام ووضع ميئوس منه. وما من شك بأن الجماعات المعدمة والتي تعامل بقسوة بالغة لا تبلغ حتى درجة أن تكون يائسة لأنها لا تملك أية بارقة من أمل. فهي أقل عنفاً من أولئك الذين يلمجون إمكانيات في أن يؤملوا، ولكنهم يتحققون في نفس الوقت من أن أملهم مستحيل. فالنزعة إلى الهدم هي، بلغة بسيكولوجية، البديل للأمل، تماماً كما يكون الموت بديلاً لحب الحياة والفرح بديلاً للغمّ.

إن الفرد ليس هو الوحيد الذي يجب أن يعيش بالأمل. فالأمم والطبقات الاجتماعية تعيش كذلك بالأمل، والإيمان وقوة الروح؛ ولو فقدت هذه الطاقة الكامنة لاختطفت بما يتطور فيها سواء من نقص في الحيوية أم من نزعة إلى الهدم.

ولسوف نلاحظ بأن تنمية الأمل أو اليأس عند الفرد تكون محددة، على مدى واسع، بحضور الأمل أو اليأس في مجتمعه أو في طبقته. وأياً ما كانت الزعزعة التي يتعرض لها أمل الفرد في طفولته، إلا أنه لو عاش في حقبة من الأمل ومن الإيمان لبُعث رجاؤه. وفضلاً عن ذلك فإن الشخص الذي تقوده تجربته إلى الأمل، غالباً ما يكون لديه ميل إلى الاكتئاب وإلى اليأس إذا لم يبق للمجتمع أو للطبقة اللذين ينتمي لأحدهما من أمل.

منذ مطلع الحرب العالمية الأولى، وربما بصفة أخص في أمريكا، منذ سقوط الرابطة المعادية للإمبريالية في نهاية القرن الماضي يميل الأمل بسرعة متزايدة إلى الاختفاء في العالم الغربي. فقد قلت منذ قليل بأن اليأس يختفي وراء قناع التفاؤلية وأحياناً في ثوب العدمية الثورية. إن ما يستطيع رجل التفكير فيه، إذن، من نفسه، يكون قليل الأهمية بالمقارنة مع ما يكونه ومع ما يحسّه صدقاً؛ ولكن أكثرنا ليسوا واعين بما يحسون.

إن دلائل اليأس هي جميعها هنالك. انظروا التعبير الضجر لدى الفرد المتوسط، فقدان الاتصال بين الناس حتى عندما يحاولون، بصورة يائسة "إقامة الاتصال". لاحظوا العجز في التخطيط الجدي للتغلب على التلوث المتزايد في مياه المدن وهوائها، ولتدارك المجاعة المتوقعة في البلدان الفقيرة؛ دون الخوض في حديث العجز عن التخلص من الخطر اليومي على الحياة ومصير الجميع، الذي يشكله السلاح الهيدروجيني. وعلى الرغم مما نستطيع قوله عن الأمل فإن قصورنا عن العمل أو التخطيط من أجل أن نحيا يفضح يأسنا.

نحن نجهل، على العموم أسباب هذا اليأس المتزايد. فقبل عام 1914 كان الناس يظنون أن العالم في أمانة، وأن الحروب، اللامبالية بالحياة البشرية، قد أصبحت من التراث الماضي. ومع ذلك حدثت الحرب العالمية الأولى وحرّفت الحكومات أسبابها. ثم جرت الحرب الأهلية الأسبانية، مع مهزلة مزاعمها، سواء من جانب الدول الغربية أم من جانب الاتحاد السوفيتي؛ وبعدها الحرب العالمية الثانية، مصحوبة بازدراء تام للسكان المدنيين؛ وحرب فيتنام التي تحاول الحكومة الأمريكية فيها سحق شعب صغير في سبيل "إنقاذه". غير أنه ما من دولة من الدول الكبيرة قد خطت الخطوة الأولى التي يمكنها أن تمنح الأمل للجميع: التخلص من أسلحتها النووية الخاصة، واثقة في حكمة الدول الأخرى لاقتفاء أثرها.

ما زالت هناك لهذا اليأس المتزايد أسباب أخرى، وبخاصة تكوين مجتمع صناعي تحول إلى بيروقراطية تماماً، وقصور الفرد بازاء التنظيم وهو ما سأتطرق إليه في الفصل القادم.

إذا كانت أمريكا والعالم الغربي يحافظان على حالة من اليأس لا شعورية ومن نقصان الإيمان وقوة الروح فمن المتوقع أن لا يصبحا قادرين على مقاومة الإغراء في إطلاق تفجير نووي هائل يمكنه أن يضع حداً لجميع المشاكل - اكتظاظ بالسكان وضجر وجوع - في الحدود التي قد تزيل كل حياة.

إن التقدم في اتجاه نظام ثقافي واجتماعي حيث يمكن أن ينتمي الإنسان، يتعلق بقدرتنا على تحكمنا بيأسنا. فلا بد لنا بداية من أن نعي ومن ثم البحث بعدئذ إذا كانت توجد إمكانية حقيقية لتغيير حياتنا الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في اتجاه جديد، يتيح لنا أن نؤمّل من جديد. إن الأمل سيكون جنوناً صرفاً إذا كانت إمكانية حقيقية كهذه غير موجودة؛ أما إذا كانت موجودة، فالأمل عندئذ يكون مسوّغاً، ويكون أملاً مبنياً هذه المرة على تقصِّي اختيارات جديدة وعلى بدائل جديدة، كما يكون كذلك مبنياً على أعمال مخططة للسماح بتحقيق هذه البدائل الجديدة.



ترجمة: ذوقان قرقوط







--------------------------------------------------------------------------------

(1) كلمة مركبة من عبارتي التقنية والإلكترونية.

(2) مواجهة "المجتمع التقالكتروني" مجلد رقم 1 (يناير 1968ص 19).

(3) في التقنية أو مجازفة العصر، مكتبة أ. كولان (1954).

(4) أسطورة الآلة: لويس مومفورد (نيويورك، هاركور، ترايس اند ورلد، 1966).

(5) مثل في "الخوف من الحرية"، وكذلك في "المجتمع الصحيح".

(6) في الأسبانية تعني كلمة أمّل (esperar) انتظر (attendre) وأمِّل (esperer) في آن واحد ومن الواضح أن لها علاقة بهذا الأمل السلبي الذي أحاول وصفه هنا.

(7) إن المفهوم الستاليني الذي يقرر التاريخ وفقاً له فيما يكون صحيحاً أو خطأ، جيداً أو سيئاً هو الاستثمار المباشر لوثنية المستقبل لدى روبسبير. فهو على طرفي نقيض مع وضع ماركس الذي كان يقول: "فالتاريخ ليس شيئاً. ذلك أن الإنسان هو الموجود وهو الذي يفعل". كما كتب ماركس في قضية فيورباخ ما يلي: "إن المذهب المادي الذي يرى بأن الناس هم نتاج الظروف والتربية، وأنهم إذ يغيرون الظروف وإن المربي نفسه بحاجة لأن يكون متربيا"ً.

(8) في "غريزة الحب والحضارة" وفي "الإنسان ذي البعد الواحد" لهربرت ماركيوز، ينفجر يأس كهذا اليأس في وضح النهار. إن جميع القيم التقليدية كالحنان والحب والقلق والمسؤولية لا يمكن أن يكون لها معنى في مجتمع ما قبل التكنولوجيا. أما في المجتمع التكنولوجي (مجتمع بدون قمع وبدون استغلال) فسيأتي إنسان لا يكون لديه ما يخشاه حتى الموت، إنسان سينُمي حاجات ما تزال غير محددة بعد وسيملك الفرصة لإرضاء "نوازعه الجنسية متعددة الأشكال".(أحيل القارئ إلى الدراسات الثلاث في نظرية الجنسية لفرويد). وبالاختصار، ينظر إلى تقدم الإنسان النهائي ارتداد إلى مستوى الحياة الطفولية، عودة إلى سعادة الرضيع المشبع. فليس عجيباً أن ينتهي ماركيوز إلى اليأس: "إن النظرية الحرجة في المجتمع لا تملك من المفاهيم ما يتيح اجتياز الفارق بين الحاضر والمستقبل؛ وهي لا تجزي وعوداً؛ ولم تنجح؛ فقد ظلت سلبية. وفي مكنتها أن تبقى هكذا أمينة تجاه أولئك الذين، بلا أمل، قد أعطوا ويعطون حياتهم للرفض العظيم" (الإنسان ذو البعد الواحد، ص 281).

هذه الأقوال تظهر إلى أي مدى يخطئ أولئك الذين يهاجمون أو يعجبون بماركيوز بوصفه أستاذا ثورياً؛ إذ أن الثورة لم تبن قط على اليأس، ولا يمكن أن تكون كذلك أبداً. لكن ماركيوز ليس مهتماً حتى بالسياسة؛ فإذا لم يشعر المرء أنه متعلق بالتحولات بين الحاضر والمستقبل، فإنه لا يبحث في السياسة، أية كانت، راديكالية أم غير ذلك. وماركيوز هو بصورة أساسية، مثل للمثقف المحروم الذي حوًل يأسه الشخصي إلى نظرية راديكالية. وسيشكل النقص في إدراكه وإلى حد ما في معرفته بفرويد، جسراً، للأسف، يتيح له التحرك لإجراء التركيب بين الفروجية والمادية البرجوازية والهيجيلية المهذبة التي تتشكل بالنسبة له، على ما يبدو، وبالنسبة لـــ"راديكاليين" آخرين، من نفس الاتجاه الفكري، المرتقى النظري الأكثر تقدماً. ولا مجال هنا للبيان بالتفصيل على أن ذلك يعني حلم يقظة، ساذجاً، ودماغياً ولا معقولا، لاواقعياً ومجرداً من الحب للحياة.

(9) بودي أن ألفت النظر إلى أن الكلام عن "اللاشعورر" يكوّن شكلاً آخر من الفكر ومن اللغة المختلّين. فلا يوجد شيء شبيه بعضو أو بشيء في المكان يمكن أن نسميه بــــ "اللاشعور" بالحوادث الخارجية والداخلية؛ المقصود إذن هو وظيفة نفسية وليس عضواً متموضعاً.

(10) كما تشير الملاحظة التالية يفرق المؤلف بين (activity)، حيوية، فعالية، نشاط وبين (activiness) مفعم بالنشاط والحيوية. وسوف نجد نفس التفريق بين (passivity) سلبية و (passiveness).

(11) أدين باستعمال عبارة activiness (بدلا من العبارة المعتادة activity) إلى اتصال شخصي بميخائيل ماكوبي. كذلك فإني أستخدم عبارة (passiveness) بدلا من عبارة (passivity) في النطاق الذي يكون فيه لكلمة (passiveness) و (activiness) علاقة بموقف أو بحالة عقلية.

وقد تكلمت عن مشكلة الفعالية والسلبية بالعلاقة، خاصة، مع التوجيه الإنتاجي في عدة كتب. وبودي ان الفت انتباه القارئ إلى الدراسة الرائعة والمتينة للفعالية والسلبية في كتاب (Metamorphosis) "الانمساخ" لأرنست شاشتيل (نيويورك: بازيك بوك 1959).

(12) في العبرية تعني كلمة "إيمان" كلمة يقين، وآمين (Amen) تعني بكل تأكيد.

(13) الحاجة إلى اليقين سنبحثها في الفصل الثالث.

(14) سوف نناقش مدلول "عقلاني" و "لاعقلاني" في الفصل الرابع.

15 ملاحظة المترجم: أخلاق سبينوزا، الطبعة الكلاسيكية، غارنيير 153 ترجمة شارل أبوّهن الفصل الثالث، شرح القضية 59.

16 لا مجال للبحث في تعريفات الحياة العضوية والمادية اللاعضوية ولا في الحدود بينهما. إن التفريقات التقليدية من وجهة نظر البيولوجيا وعلم الوراثة الحاليين، قد وضعت بالتأكيد موضع التساؤل. ولكن قد يكون من الخطأ الافتراض بأن هذه التفريقات قد فقدت صالحها؛ فهي بحاجة إلى التمحيص أكثر من حاجتها إلى الاستبدال.

17 (Cassandre) ابنة بريام وهيكوب منحها أبوللون موهبة التنبؤ بالمستقبل، ورسم الله بأن لا يصدق تنبؤاتها أحد. وبسقوط طروادة التي تنبأت به عبثاً دون أن يصدقها أحد أصبحت عبدة لآغا ممنون وما كادت تصل إلى اليونان حتى قتلت. وسار اسمها مضرب المثل على بعد البصيرة التي لا تلاقي غير الشك.

18 لقد بحثت في طبيعة الخيارية النبوية بصورة مفصلة في كتابي You shall be as Gods (New York: Holt, Rienhart and winsion. 1967) انظر كذلك في نفس الكتاب مناقشة الاتجاه الرؤيوي في الفكر اليهودي المَسّياني بالمقارنة مع اتجاه الخيارية الأصلية.

(19) اليهودية والمسيحية: ليوبيك New York: The Jeuish) Leo Baeek

Publication Society of America, 1958) ترجمة وتقديم و. كوفمان.

(20) هذه العبارات استخدمها بيك، المصدر السابق وقد حاول تيلهاود دي شاردان في: مستقبل الإنسان: نيويورك، هاربر و1964 أن يقيم تركيباً من هذه المفاهيم.

(21) المسيانية: تصور قائل بانتظار المسيح.

(22) لقد عثر أرنست بلوخ في كتابه "مبدأ الأمل"، أكثر من أي شخص آخر، على مبدأ الأمل النبوي في الفكر الماركسي. وقد ساهم عدد كبير من الاشتراكيين الإنسانيين المعاصرين في الكتاب الذي طبعه أريك فروم Symposium of Socialist Humanism (نيويورك دوبل دي 1965). انظر كذلك الطبعة الإنكليزية من الصحيفة اليوغسلافية التطبيق والحوار وهي مجلة دولية يصدرها الفوروم ويطبعها ج. نينّينغ تحتوي على تبادل بين الإنسانيين المسيحيين وغير المسيحيين.

إن التأكيد الواسع الانتشار القائل بأن لماركس نظرة حتمية للتاريخ تعني بأن الاشتراكية كانت أمراً لا مفر منه، هو في رأيي غير صحيح. فطابع الحتمية يبدو في بعض جمل ماركس وهو يستمد أصوله من أسلوبه الدعائي والتحريضي المختلط غالباً بأسلوبه التحليل والعلمي. وقد ألحت روزا لوكسمبورغ، ولعلها ألمع مفسرة نظرية لماركس، على وجهة النظر القائمة على الاختيار في صياغة "الاختيار بين الاشتراكية والبربرية".

(23) هذه المشكلة ومشكلة ظواهر أخرى للنزعة إلى الهدم سوف أبحثهما في كتابي القادم: أسباب النزعة البشرية إلى الهدم.