الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق


حسقيل قوجمان
الحوار المتمدن - العدد: 5044 - 2016 / 1 / 14 - 21:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق
اخيرا اعيد طبع ونشر كتابي بهذا العنوان في بغداد حيث هو تراثه ويمثل جزءا هاما من تاريخ العراق الموسيقي في فترة النصف الاول من القرن العشرين وهو متوفر حاليا للقارئ العراقي لاول مرة منذ كتابته.
في كل مكان في العالم عاش فيه اليهود كانت اسماء موسقيين عالميين شهيرين سواء في العالم الغربي ام في العالم العربي. ولكن وضع الطائفة اليهودية في العراق كان يختلف عن كل الطوائف اليهودية في العالم اذ في العراق لم يظهر فقط موسيقيون بارزون كما في ارجاء العالم بل ان العراقيين اليهود كانوا موسيقيي الشعب العراقي كله. ففي الوقت الذي كان فيه الموسيقيون العالميون موسيقيين ضمن موسيقيي البلد الذي يعيشون فيه كان الموسيقيون العراقيون موسيقيي العراق خصوصا في مجال الموسيقى المعزوفة. فحتى هجرة اليهود او تهجيرهم الى اسرائيل لم يكن في بغداد موسقي محترف واحد كعازف موسيقي غير اليهود. وكان الملحنون كلهم اطلاقا يهودا. وفي مجال موسيقى المقام العراقي كان عازفو المقام يتكونون من عوائل لم يكونوا يعلمون غير ابنائهم وافراد عائلتهم صنع وعزف الالتين الخاصتين بالمقام العراقي، الجوزة والسنطور.
ثمة من يكتب ان الوفد العراقي الذي مثل العراق في المؤتمر الموسيقي الاول سنة ١-;-٩-;-٣-;-٢-;- في القاهرة كان فرقة الاذاعة بقيادة صالح الكويتي وهذا غير صحيح. ولو ان فرقة الاذاعة مثلت العراق في هذا المؤتمر لما كان لها اية اهمية لان في مصر عشرات الاجواق الموسيقية المماثلة او المتفوقة على الجوق العراقي. الحقيقة هي ان الجوق الذي مثل العراق في هذا المؤتمر كان الجالغي البغدادي مع عازف الجوزة صالح شميل وعازف السنطور يوسف بتو الذي كان المع الاجواق في المؤتمر. وقد سجلت له ثلاثون اسطوانة اصبحت تراثا لهذا المؤتمر. كان الجالغي العراقي وغناء المقام العراقي بصوت محمد القبانجي شيئا مفاجئا لكافة الباحثين الموسيقيين العالميين والمصريين وموسقيي جميع البلدان العربية المشتركة في المؤتمر لانهم لم يكونوا يعلمون شيئا عن موسيقى المقام العراقي.
حين هربت بعد سجني الطويل الى اسرائيل فوجئت وادهشني ان الموسيقيين العراقيين العظام لم يستطيعوا الحصول على معيشتهم عن طريق الموسيقى. فقلت في نفسي ان هذا التراث سيصبح تراثا ضائعا اذا لم يكتب كتاريخ. ولم يكن في ظني في وضعي انذاك انني ساكون انا الذي سيكتبه.
حين دخلت الجامعة واصبح علي ان اكتب رسالة الماجستير فكرت ان اقوم بتسجيل هذا التراث العراقي العظيم. وكانت كتابة هذا الموضوع كرسالة ماجستير مهمة صعبة جدا. فانا كنت طالبا في كلية الادب العربي وكان علي ان اكتب الرسالة في هذه الكلية في موضوع يتعلق بالادب العربي. ولم يكن بين اساتذة الكلية من يستطيع ان يشرف على كتابة رسالة ماجستير في موضوع موسيقي. كانت المشكلة الاولى ان اجد من يستطيع ويوافق على الاشراف على موضوع الموسيقى العراقية.
كان عميد كلية الموسيقى في الجامعة العبرية امنون شيلواح صديقي وكان يزورني في بيتي نتحدث عن الموسيقى. انه اخصائي في الموسيقى الكلاسيكية ولا يعرف شيئا عن الموسيقى العربية. فاتحته بالموضوع وسالته ان كان يوافق على الاشراف على رسالة الماجستير حول الموسيقى العراقية. فكان جوابه المباشر هل بقي شيء لم يكتب حول هذه الموسيقى؟ فاجبته انا اقدم لك رسالة لم يكتبها احد بعد. بعد فترة وافق على الاشراف على الرسالة. فاقنعته ان يتحدث الى عميد الكلية التي انا تلميذ فيها لكي يقنعه بالموافقة على كتابة رسالة في الكلية الموسيقية تحت اشرافه. ونجح في ذلك.
كانت المشكلة الثانية حول اسم الرسالة. فكان رايه ان الرسالة يجب ان تكتب على انها موسيقى يهودية. وانا اصريت على عدم وجود موسيقى يهودية في العراق بل هناك موسيقى عراقية كان لليهود دور خاص فيها. وقلت له حتى الاصرار على تسميتها موسيقى يهودية هو تقليل من اهميتها. فان الموسيقى اليهودية تعني موسيقى لمائة الف انسان والموسقى العراقية تعني موسيقى لسبعة ملايين انسان فاية تسمية افضل حتى من وجهة نظر التحيز لليهود؟ ودام نقاشنا حول هذا الموضوع مدة طويلة واخيرا اجرينا مساومة فسمينا الرسالة دور اليهود في المسيقى العراقية.
وبقيت مشكلة لغة كتابة الرسالة. في الجامعة العبرية كانت رسائل الماجستير تكتب باللغة العبرية ونادرا ما كان يسمح بكتابتها باللغة الانجليزية. ولكني اردت كتابتها باللغة العربية لاكتمالها كوثيقة عراقية بحتة رغم كتابتها في اسرائيل وفي الجامعة العبرية. كان الاستاذ شيلواح لبناني الاصل يجيد العربية مثلي كلغته الام. قلت له ان لغتي العبرية ما زالت ضعيفة واذا كتبتها باللغة العربية اكتبها باسلوب رائع لا استطيع بلوغه بالعبرية. فوافق على قبولها باللغة العربية وبذلك اكتملت كما اردتها وثيقة تاريخية عراقية بلغتها، بموضوعها، بمحتوها، بتاريخها وبتراثها.
اخذت من العمل اجازة بدون راتب لثلاثة اشهر اتصلت خلالها بكافة الموسقيين الذين استطعت الوصول اليهم. وكان عدد منهم اصدقائي من العراق. واكملت كتابة الرسالة خلال هذه الاشهر الثلاثة. لم تمنحني الجامعة حتى نفقة طبعها بالالة الكاتبة فقدمتها بخط يدي. وصورت نسختين قدمت احداهما الى الاستاذ شيلواح المشرف على كتابتها والنسخة الثانية للمكتبة العامة في الجامعة العبرية واحتفظت بالنسخة الاولى لي. بعد اقل من اسبوع منحني الاستاذ شيلواح شهادة الماجستير بدرجة امتيازوبدون ان يوجه اي سؤال او يبدي اية ملاحظة. وكانت المكتبة العامة تاخذ ممن يرغب في قراءة النسخة الخطية تاخذ منه بطاقة هويته وتعيدها له عند اعادتها.
وحين سافرت الى لندن لكتابة الدكتوراه عن المقام العراقي طبعت الرسالة بالالة الطابعة ونشرتها بعنوان الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق. وهذا هو العنوان الذي اعيد طبعها فيه في العراق طباعة جيدة مع مقدمة جديدة ومزيد من الصور التراثية فاصبحت كتابا متداولا في مكانه وموطنه العراق تراثا عراقيا بحتا. وانا فخور بانني قد استطعت انجاز هذه المهمة النادرة. وارجو ان يكون الكتاب رائجا في مكانه الاصلي العراق هدية للشعب العراقي الكريم.